مقدمة لا بد منها:
علاقة العربي بالفلسفة تستدعي تأملات متأنية، ففجر انفتاحنا على التراث اليوناني، حاربنا الفلسفة باللاهوت، المنطق الصوري بالنحو الطبيعي، البرهان و القياس بالتمثيل و المثال، الجدل بالمناظرة، والمقولات بالأسماء و الصفات، و عقب صدمة الحداثة؛ وجدنا العقل ذاته الذي حارب على هذه الأصعدة أمس، يفتخر بماضيه الذهبي ويمن على الغرب نهضته كونه ساهم فيها، بأن كان خير وسيط لعلوم اليونان، و المفارقة هي أنه يؤكد على هذا “المعتقد” ليستمر في محاربتها، وعندما انتقلت هذه الفلسفة إلى مرحلة قوضت وتجاوزت وفككت مقولاتها التي حاربناها، تبنينا كل أسس هذه المرحلة الجديدة، وهي المرحلة المعاصرة، ووجدنا في تكسير الحواجز بين الشعر و الفلسفة، العقل و الخيال، الفرضية و الواقع، الذات و الموضوع، الله و العالم، الفيزيقا والميتافيزيقا، وجدنا في ذلك ضالتنا، فقد انتصر “سكوننا” على “ديناميتهم”، وانتصرت “دائرية” فكرنا على “تقدمية” فكرهم، وانتصرت أساطيرنا على عقلانيتهم، فظهر منا من يبارك اهتمام العقل الغربي اليوم بابن عربي و الحلاج و السهروردي وعمر الخيام والنفري وابن الفارض، وهم الذين عانوا من اضطهادنا أمس، وغدا عندما سيكمل العقل الغربي سفره وترحاله إلى جزيرة فكرية أخرى لا قِبل لنا بها، سنطفق مرة أخرى في البحث عما يجعل “سكوننا” أكثر “ذكاءا” من “سفرهم”، ولن تُتاح لنا فرصة، والحال هذه، أن نجرب مرة أن نتخلى عن “ذهنية” المناظرة في التعامل مع فكر الآخر…و أن نجرب متعة الطريق لنرى الوهم الكامن في الوصول.
قد يتساءل القارئ عن العلاقة بين هذه المقدمة وموضوع العلاقة بين الشعر و الفلسفة المشار إليه في العنوان، والجواب هو أنه إن كان أغلب الباحثين يتطرقون لهذا الموضوع باعتباره مخرجا لتفادي إحراجات العقلانية الحديثة، فيبحثون في موضوع شعرية الفلسفة وفلسفية الشعر باعتباره من لواحق القول عن هيدغر، تمام كما من لواحقه أيضا الحديث عن ميتافيزيقا التقنية و العلم و العقل الغربي، ويتم تجزيء هيدغر عن البراديغم الذي أنتجه، فأسلافنا شرحوا و لخصوا و فسروا ووضعوا حواشي لأرسطو، بل وعمدوا على إفراغ مقولاته من مضمونها العلمي وملئوها بالتيولوجيا، واليوم يتكرر “التكرار” نفسه مع هايدغر، وكأن قدر المتفلسف العربي هو أن يتفلسف من خلال الشرح و والتلخيص و التفسير.
هذه المقاربة الخاطئة يمكن تفاديها إذا اعتبرنا أن كل قول عن الفلاسفة ينبغي أن يكون فقط مدخل للقول في المفهوم، ففي البدء كان المفهوم، فليس من الفلسفة في شيء أن نغوص في سيرة هايدغر ونمارس “التحقيق” الاستخباراتي عن علاقة هيدغر مثلا بالحزب النازي وموقفه من المحرقة و علاقته بحنا أرندت وكيف كانت زوجته تعبر له عن انزعاجه منها، وسر خلواته في البادية الألمانية وكيف كان يستمتع بلقاء القرويين…فلا يمكن بناء أطروحة على سيكولوجيات من هذا القبيل، ولكن الذي يهمنا هو تتبع عملية بناءه لمفاهيمه، مفهوم الدازاين مثلا، والكشف عن مختلف أبعاد هذا المفهوم، أنطولوجيا و وجدانيا ومعرفيا، وعلاقة هذا المفهوم بالفلسفة ذاتها، الفلسفة بما هي عبء وفعل خلاق وماهوي لكونها تتأسس على وضعية وجدانية هي وضعية la mélancolie، يقول هيدغر “الفلسفة هي سلوك خلاق وماهوي للدازاين البشري في الحالة الوجدانية للغم”، “la philosophie est une action essentielle créative du Dasain humain dans l’affectivité fondamentale de la mélancolie”فاعتماد مقاربة من هذا القبيل من شأنه أن نحمي الفلسفة كقول مخصوص من أعباء أقوال أخرى كالقول التاريخي و السيكولوجي و السوسيولوجي وغيرهم، نفس الوقت الانفتاح على إشكالات واعدة، منها التي سنسعى لملامستها ولو لماما و المتعلقة بالفلسفة بما هي شغف وحدس وحماس “enthousiasme” وبالتالي الحاجة لإعادة ترتيب العلاقة بين الخيال و العقل، الفلسفة و الشعر، النفس و الجسد على ضوء فكر هايدغر، من خلال الوقوف في المرحلة أولى على البعد الوجداني للدازاين ثم مبرر هايدغر في جعل الشعر فكرا أصيلا للوجود.
وفق هذه الرؤية التي تجعل المفهوم أولى من الفيلسوف، والنسق أهم من الذات، والبراديغم أهم من صناعه، تصبح المحبة متعلقة بالحكمة، والحكمة متعلقة بمحبة النظر في المفاهيم وهي تكون وتفسد، تولد وتكبر، تثور و تخبو…أما البحث في سير الفلاسفة فيسقطنا في تفاضلية نجدها عند بعض المتفلسفين العرب، عندما نجعل هايدغر أهم من هيغل، وهيغل أهم من كانط، وكانط أهم ديكارت “انحدارا” إلى حكماء ما قبل أفلاطون، والفلسفة بما هي شغف ومحبة تتحقق مهما كان الزمن الفلسفي الذي ننظر فيه لمفهوم ما، هكذا يصبح المتفلسف من خلال مفهوم الشعر في علاقته بمفهوم الفلسفة قادرا على عيش هذا الشغف وهذه المحبة في “الجمهورية” بالقوة ذاتها في “التأملات” وبالقوة ذاتها في “الزمن الوجود”، أما أن نخرج الهيدغرية من براديغم لم ينزل وحيا من السماء، بل هو نتاج قرون من عمليات مفهمة، ونحولها إلى إيديولوجيا لتصفية حسابات جهلنا بتراث في حجم التراث اليوناني، فإننا نعيد إنتاج الخطأ نفسه الذي قمنا به مع الماركسية والوجودية و البنيوية، عندما أصبحنا ماركسيين أكثر من ماركس، ووجوديين أكثر من سارتر وبنيويين أكثر من رولان بارث.
الفلسفة والشعر، العقل و الخيال:
1)الاشتقاق الإيتمولوجي في اللغة اليونانية لكلمة “شعر” poiézis تعني الإبداع création، وهو ينتمي إلى muthos بينما الفلسفة والتي تعرف كمحبة للحكمة تنتج خطابا عقلانيا ينتمي ل logos من ثمة ساد اعتقاد سيطر على تاريخ الفلسفة وهو أن logos و muthos نقيضان، لذلك فهما ينتجان معا خطابان مختلفان في الطبيعة و الأسس، وهذا الاختلاف استمر في منظور البراديغم اليوناني، ليصبح غيرية altérite ، فأصبح الشاعري والشعوري و الأسطوري والحسي والخيالي أسماء تقال ب“تشكيك الإسم”، أي أسماء مختلفة دالة على جوهر واحد هو التغير واللاتناهي، ونفس التجانس في الدلالة يوجد بين الفلسفي و العقلي و المنطقي و الحقيقي لكونها دالة على شيء واحد هو الثبات و التناهي، لكن إلى أي حد يصمد القول بكون الشعر هو “آخر” الفلسفة؟ وإذا افترضنا وجود غيرية، فهل هذا يشمل الموضوعات ومستويات تلقي دلالاتهما؟
لمقاربة الموضوع سيتعين علينا أن نقف عند مختلف الروابط الممكنة بين الشعر والفلسفة، والبدء بالوقوف على فعاليتان بشريتان، تنتميان معا إلى ما يسميه القدماء بالنفس،هما الخيال و العقل، لكونهما مصدرا هذين الخطابين، مع إشارة إلى أن البراديغم اليوناني والبراديغم الوسطوي كانا يؤسسان معا لعلاقة غير ندية بينهما، إذ كان العقل دوما يتهم الخيال، وأسس “لترسيم” الاتهام مبادئ تحمي الطابع العقلي للحقيقة، وهي الهوية و الثالث المرفوع وعدم التناقض، وأسس معايير مضبوطة لعملية إنتاج القول الحقيقي، وهي معايير البرهان، وحتى لا يسمح بأية إمكانية لتسرب الخيالي و الحسي لعملية إنتاج الخطاب، عمل على صورنة، من الصورية، كل أنواع الاستدلال البرهاني، مع ما رافق هذه العملية الأخيرة من مشكلات لاتزال قائمة إلى الآن، وذلك حتى لا “يندس” وراء اللغة الطبيعية متعلقات تُذهِب عن الخطاب برهانيته، وتحوله لقول دون مرتبة اليقين كالجدل.
فأرسطو، لم يكتف بأن وضع أسس العقل ومن خلاله الحقيقة الفلسفية، بل أيضا وضع أسسا لنقائض العقل حتى يتميز عنها ويضمن طبيعته الثابتة والواحد والأزلية، فوزع هذه المهمة على ثلاث مباحث، لكل منها منهجها الخاص تبعا لطبيعة موضوعها، هي مبحث الطبيعيات، مبحث ما وراء الطبيعيات وأخيرا مبحث الرياضيات، وتبعا لهذا التقسيم، أدخل النظر في العلاقة بين العقل و الخيال ضمن مبحث الطبيعيات، وتحديدا مبحث النفس، وجعل الخيال كمالا أول للحيوان، وجعل العقل أو ما يسميه بالقوة النطقية، كمالا أولا للإنسان، فالخيال يربطه بالحس و الانطباعات الحسية، لكونه نتاج طبيعي للحواس، بينما العقل يرتبط بالمجرد و الحقيقي، الأول غايته هو الفعل، والثاني غايته هو الحقيقة، ويترتب على هذا الفصل ترتيب في الأفضلية الأنطولوجية، فالعقل أفضل لذلك كان الإنسان أفضل، والخيال أرذل لذلك كان الحيوان أرذل.
ويترتب على هذا الترتيب ترتيبا آخر على مستوى أنواع الخطاب، فكان القياس أولا و الشعر أخيرا، وبينهما كل انواع الاستدلالات الأخرى، هي البرهان و الخطابة و الجدل و السفسطة، وقد عمل أرسطو جاهدا لتخصيص قول مفصل لكل نوع على حدة، وما يثير الانتباه فيه هو حرصه على أن يبين إمكانات المعقولية في الاستدلالات التي تلي القياس في الترتيب.
موقف أرسطو من الخيال جعله يساوي بين موقفه من الشعر و موقفه من التاريخ،(1) لأن الشعر بالنسبة إليه هو لغة المؤرخين، وما يجمع الشعر و التاريخ هو المحاكاة، الأمر الذي يرد عند هيرودوت بقوة ووضوح، الأول مغالط والثاني متعلق بالجزئي والزمني، في حين أنه “لا علم إلا بالكلي”.
الفلسفة المشائية لم تخرج عن هذا النسق، وما يضيفه ابن رشد مثلا هو جعل الخيال قوة نفسية خاصة بالحيوان و عامة الناس أيضا، لذلك فقد خصهم بالشريعة، لكون أقوالها ظنية وجدلية وخطابية، و امتلاكهم لقوة الخيال يؤهلهم للانفعال بصورها والتي هي مثالات للحقيقة البرهانية، ثم جعل القوة النطقية مجسدة في خاصة الناس من الحكماء، وحرص هو أيضا على غرار المعلم الأول على بقاء الحدود صارمة بين الخيال و العقل، الفلسفة و الشعر، العامة و الخاصة، بل واستعان بآلية التفكير لتحقيق ذلك، فكفر العامة الذين يتطاولون على الحكمة، بحجة الردة، وكفر الخاصة الذين يفشون حقائق العقل لمن هم غير مؤهلين بالفطرة لذلك، بحجة “الدعوة إلى الكفر”، أما أقواله في أصناف الخطاب فلم يخرج عن النسق اليوناني.
ولم يخرج ابن باجة في حديثه عن الفيلسوف “المتوحد” عن النسق، وكذلك في حديث الفارابي عن أهل المدن، الفاسقة و الضالة و السعيدة.
2) فإذا كنا اليوم نؤمن باضمحلال الحدود بين الخيالي و العقلي، الشعري و الفلسفي، البرهاني و الحجاجي، الروحي و الجسدي، الفردي و النوعي، وكنا أيضا ونحن نتتبع مفهوم الشعر ومختلف لواحقه، على بينة بحجم الانقلاب الذي أحدثته فلسفة اليوم في أهمية هذا المفهوم، فإن هذا الانقلاب لم يكن عملا فجائيا مقطوع الأواصر عما سبقه، بل هو نتاج عمل مفاهيمي لقرون طويلة، فإذا كان مفهوم الدازاين الهيدغري قد استطاع خلخلة بداهات النسق الحديث بالعودة إلى “صباح” الفكر الإنساني في أصالته قبل “الانحراف الأفلاطوني”، فإننا نتساءل لماذا لم تحدث تصورات هيراقليط وبارمنيد وغيرهما من الحكماء الأوائل الخلخلة ذاتها في النسق اليوناني؟
إننا لا يمكن فهم البراديغم الذي أنتج فيه هيدغر قوله في أهمية الشعر، وأيضا اهتمامه، أو احتفاؤه، بالشعراء جورج تراكل وهولدرلين وغيرهما، دون فهم النظرية اليونانية في المرحلة الأولى، ثم رومانسية القرن التاسع عشر في ألمانيا، وهذا التصور نجده في مقاربة هايدغر نفسه للموضوع، فهو حينما يطرح السؤال عن أصل الشعر، فإنه يطرحه مستبعدا الإجابات التقليدية والتأملات العقيمة فى التفكير و التي كانت تدور حول عبقرية الشاعر والإلهام ، ويعلمنا ألا نفكر بهذه المصطلحات ، وأن نفكر فى الشعر بدلاً من ذلك بوصفه أصلاً يعلن ويحفظ الحقيقة الماهوية لحقبة تاريخية، ولهذا ، اتجه هيدجر مباشرة لدراسة العمل الشعري باعتباره ظاهرة معاشة باحثاً عن أصله، و الأصل هنا يعنى ذلك الذي منه ، ومن خلاله ، يكون شئ ما ما يكونه وعلى نحو ما يكون، فما يكونه شئ ما-على النحو الذى يكون عليه –نسميه ماهيته، فأصل شئ ما هو مصدر طبيعته ، ومن ثم فإن السؤال عن أصل العمل الشعري ، هو سؤال عن مصدر طبيعته، ففي كتابه عن هولدرلين (2)، نجد يتساءل لماذا اختيار هولدرلين وليس هوميروس أو سوفوكليس وليس اختيار دونتي أو شكسبير أو غوتيه؟ فيجيب “لا نجد في أشعار هؤلاء ماهية الشعر بالعمق و الغنى والسمو كما نجدها في إبداعات هولدرلين”، وهذه الإبداعات “كافية لتحديد ماهية الشعر”، لذلك فهو “شاعر الشعراء”(3).
فعندما نقرأ “كتاب النفس” و كتاب “السماع الطبيعي”،نجد أن المقالة الثانية وجزء من الثالثة من كتاب النفس مخصصتين للرد على مذاهب النفس عند الحكماء، والمقالة الأولى من كتاب “السماع الطبيعي” والمكونة من تسع فصول،هي تفرغ كامل للرد وتخطئي مذاهب هؤلاء في الطبيعيات لأرسطو، حيث نجده يصفي حساباته مع الحكماء الإغريق، فيظهرهم بمظهر المخطئين، إذن ما الذي جعل من حكماء الإغريق الأوائل مخطئين في نظر أرسطو و“أصيلين” في نظر هيدغر؟ إنها سلطة البراديغم، وعندما يتناول كما سبقت الإشارة شاعرا نموذجيا فهو يأخذ مؤرخا يكتب بلغة شعرية، بينما عندما يعتمد هيدغر على هولدرلين فلأن أشعاره تكشف لنا حقيقة الوجود وماهيته، وهذا فرق كبير بين الفيلسوفين.
أفلاطون أيضا فصل بين الفلسفة و الشعر، ففي “الجمهورية/الكتاب العاشر” نجده يؤكد أن الشعر لا يهمه البحث عن الحقيقة، فهو يرتبط بالظاهر وما يبدو “ce qui apparait”، بمعنى أنه يتأسس على الاحتمالي، بينما الفلسفة تتوجه إلى الحقيقي “ce qui est” واليقيني، وفي الوقت الذي نجد فيه الفيلسوف يفكر من خلال حجج وبراهين فإن الشاعر ينتج خطابا تقريريا ولكن غير مبرهن عليه،فالشاعر يمارس الخداع tromperie والتقليد والمحاكاة une imitation ، ويصف في “الكتاب العاشر من الجمهورية” الشاعر بصانع الأشباح "«un créateur de fantômes» ،لذلك فهو خارج المدينة الفاضلة، وعمله يوجد تحت سلطة مؤسسوا المدينة وهم الفلاسفة طبعا، وتصبح الفلسفة سيدة المدينة(4).
فما بين القرنين الخامس و الرابع قبل الميلاد، قرني أفلاطون و أرسطو، و القرن العشرين، قرن هيدغر، هناك عمل فلسفي مفاهيمي جبار، فرغم التباين الموجود بين الشعر و الفلسفة في نظر الفيلسوفين اليونانيين فإن فلسفتهما لم يحسما في جملة قضايا ظلت عالقة، خصوصا في نظريتهما حول الخطابة و الجدل، فرغم التقعيد المنطقي الأرسطي فإن جملة هذه القضايا العالقة أعطت مساحة للعمل الفلسفي في العصور ما بعد أرسطو، عصور الفلاسفة المشائيين و فلاسفة النهضة ثم فلاسفة العصر الحديث، سمحت ببلورة مفاهيم جعلت القول بأهمية الخيال أمرا ممكنا وقولا مقبولا داخل البراديغم(5).
3) أعتقد أن الانتقال من العقل الهيغلي إلى الخيال النتشوي و الشعر الهيدغري، يفرض ضرورة أن تكون هناك حلقة مهمة هي حلقة هي ظهور الرومانسية في بداية القرن التاسع عشر بألمانيا، وتأثيرها الكبير على الثقافة الألمانية حتى الآن، منهم كتاب وشعراء وفلاسفة و فنانين اجتمعوا لتكوين جماعة تؤسس للرومانسية الألمانية، باسم “le Cercle d’Iéna” وتزعمها Frédéric Schlegel ، وهي جماعة أسست لشيء لم يكن معترفا به في الأوساط الثقافية الألمانية، وهو تحرير الشعر من السلطة التقليدية للفلسفة، فلم يعد الشعر محاكاة imitation كما كان الأمر عند أرسطو و أفلاطون، بل بجعله مفكر ومُنظرا، وهذا يعني نظرة جديدة لماهيته، تجعله مستقلا عن الفلسفة، فهو لم يعد في حاجة إليها لتقول له ما هو، مادامت له القدرة على التفكير، يقول نوفاليس "الشعر هو عماد الفلسفة، إنه غاياتها ودلالتها(6)، فبالنسبة للرومانسيين الألمان الشعر هو الشرط اللازم لكل فلسفة عظيمة، فهو يوحد الأنواع في العالم، وهو ليس محصورا في موضوع معين كما نجد عند أرسطو والذي ربطه بالملاحم التاريخية، بل يفكر في العالم في كليته ولاتناهيه.
إذن فحلقة الرومانسية الألمانية هذه حلقة أساسية أثرت بشكل كبير فيمن سيأتي من فلاسفة ألمانيا، نتشه وهيدغر أساسا، ولا يمكن أيضا أن ننسى حلقة هيغل، فهو كما يعلم الجميع يقسم تطور الروح L’Esprit إلى ثلاث مراحل ولحظات، الروح الذاتي و الروح الموضوعي ثم الروح المطلق، والروح المطلق هي لحظة مقسمة أيضا إلى ثلاث مراحل هي الفن و الدين و الفلسفة، و الفن مقسم هو أيضا إلى ثلاث الفن الرمزي و الفن الكلاسيكي واخيرا الفن الرومانسي، والفن الرومانسي مقسم إلى ثلاث أيضا، الفنون البصرية والفنون الموسيقية ثم الشعر، فالشعر إذن هو آخر مراحل تطور الفن، وهو تتويج لمساره، صحيح أن هيغل يؤكد على تجاوز الفلسفة للشعر في سياق تطور الروح، ولكن إدخاله للشعر في النسق علا خلاف أفلاطون هو حلقة أساسية لفهم هيدغر.
لذلك فالشعر دخل نسق تطور العقل، فلم نعد أمام حدود بين الفلسفة و الشعر بل أمام ماهية واحدة مقولة بطريقتين، بل إن هذا التصور هو تصحيح لتراث فلسفي همش الشعر، ولتراث شعري اقتصر في موضوعات محدودة ورتيبة، وفعل التصحيح هذا سيدشنه نتشه وسيتمه هيدغر بوضوح، فبالنسبة لهيدغر تصحيح مسار الفلسفة عليه أن يبدأ من ما قبل أفلاطون، وتصحيح مسار الشعر ينبغي أن يبدأ من هولدرلين، كما تمت الإشارة سابقا.
إن شعرية الفكر المعاصر لم تكن ممكنة بدون عمل فكري سابق، عمل فكري انصب بالأساس على المفاهيم، ففكرية الشعر أو شعرية الفكر هي نتاج لعمل انصب أساسا على مفهوم الفكر ذاته، أو ما ندعوه فكرا، فالتفكير إيداع للفكر، فكر الوجود، والإبداع لا يوجد إلا حيث يوجد تأمل حر، والشعر لا يوجد إلا حيث يوجد فكر شعري مؤسس على هذا التأمل الحر، أي تحويل الذات إلى موضوع بواسطة الفكر نفسه، وعملية الانصات للذات وللعالم لا تتم حقيقة إلا من خلال شاعرية في التفكير، و“لكي نفهم هذا بطريقة كافية علينا أن نكون على ألفة مع القصيدة، ووحده الشاعر على ألفة حقيقية مع القصيدة”، فهو لا يتكلم عن الشعر وإنما يجعل الشعر يحدد هو طبيعته بطريقة شعرية، لأنه بهذا يعطي للقصيدة صوتها الحقيقي اللائق بها، وهذا الشاعر يسمى هولدرلين “il se nomme Holderlin” (7).
في المقال المقبل سنقف عند البعد الوجداني لمفهوم الدازاين، وخاصة الوجدان بما هو affect و affectivité و affection لأن هذا البعد الأساسي هو ما يبرر من جهة كون الشعر هو الفكر الحقيقي للوجود وكون الشعراء هم المفكرون الحقيقيون، وكون هولدرلين هو شاعر الشعراء، ثم لكون هذا البعد،قليلا ما يتم الانتباه إليه مع أن تأثيره على الفكر الألماني المعاصر كان كبيرا، صحيح أن هذا التأثير قد بدأ مع كيرغارد، فيلسوف الوجدان بامتياز، لكن الأبعاد الوجدانية للدازاين البشري جعلت الفكر الألماني المعاصر ينظر للكائن البشري على أنه ليس شيئا بل هو كينونة تنتج أول علاقة لها بالعالم من خلال الوجدان(8).
الإثنين ديسمبر 30, 2013 9:42 am من طرف حسين