«وأخذ يشوع كل الأرض حسب ما كلم به الرب موسى»
- يشوع 11: 23
الجنرال الإلهي:
إن كل الدماء التي سُفكت في الطريق إلى كنعان، والتي ختمها يهوه بدم موسى نفسه، لم تكن إلا مقدمة للمذبحة الشاملة لأهل كنعان في فلسطين. فما الذي فعله أهل كنعان الآمنون حتى يستحقوا هذا المصير القاتم؟ لقد أمر فرعون بقتل الصبيان من مواليد العبرانيين في مطلع قصة الخروج (1: 15 – 16)، فرد عليه يهوه بعد ذلك بقتل كل طفلٍ بكرٍ في أرض مصر (11: 4 – 6). ولكن الكنعانيين لم يفعلوا شيئاً ليهوه أو لبني إسرائيل سوى أنهم يمتلكون أرضاً وعد بها يهوه شعبه المختار، ولا بد من إفنائهم وتحويل من بقي منهم عبيداً في خدمة بني إسرائيل. ولكن بما أن كل حرب عدوانية لا بد لها من ذريعة مباشرة، على ما نعرفه من دروس التاريخ، فقد تذرع يهوه أمام موسى بإثم سكان تلك الأرض، أي بعبادتهم للآلهة الأخرى، عندما خاطب إسرائيل قائلاً: “ليس لأجل بِرِّك واستقامة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم بل لأجل إثم أولئك الشعوب.” (التثنية 9: 4). ولكنّ يهوه لم يعلن عن نفسه إلا لبني إسرائيل من دون بقية البشر، وأهل كنعان لم يسمعوا به قبل أن تقتحم عليهم طلائع جيش يشوع حياتهم الآمنة.
لكي نعرف التكوين النفسي الذي جعل من هذا الجنرال الإلهي فاتحاً، ربما كان علينا أن ندرس شخصيات أشهر الفاتحين في التاريخ. لأن شخصية يهوه هي أقرب إلى هؤلاء منها إلى ألوهة سامية متعالية، ولسوف نختار فيما يلي الاسكندر المقدوني نموذجاً.
ورث الاسكندر عرش مقدونيا وهو في سن العشرين. وقد توفر لهذا العاهل الشاب من متع الحياة وما يؤهله لكي يعيش عيشة هانئة، ويمارس كل ضروب التسلية من صيد وقنص ورياضات متنوعة، وحفلات مسائية لا يعوزها الشراب والحسان وكل ما يرضي نزوات الشباب. وكان لديه مؤدب لم يحلم بمثله ملك من قبل أو من بعد وهو الفيلسوف الأثيني أرسطو. فلماذا ترك الاسكندر هذا النعيم وتوجه لغزو العالم؟
كان الهدف المعلن للاسكندر هو قهر فارس. ولكن لماذا فارس التي لم تفعل شيئاً للاسكندر أو لمقدونيا؟ والجواب على ذلك أنها كانت أعظم قوة عالمية في ذلك الوقت. ولكي يحقق الاسكندر هدفه كان عليه أن يرفد جيشه القليل العدد بمحاربين يونانيين، فانقض أولاً على جيرانه اليونان واستولى على مدنهم الرئيسية أثينا وكورنثة وطيبة. بعد ذلك اكتسح آسيا الصغرى واصطدم مع الملك الفارسي داريوس الذي هب لصده عند موقع إيسوس وهزمه شر هزيمة. ثم تابع تقدمه جنوباً فاحتل سورية وأعمل المجازر في المدن التي قاومته مثل صور الفينيقية. ثم استولى على مصر وبنى مدينة الإسكندرية. عند ذلك عرض عليه داريوس صلحاً يتنازل له بموجبه عن كل أراضيه الواقعة غرب الفرات، أي ما يعادل نصف أملاك الإمبراطورية الفارسية. وقد كان حرياً به أن يقبل، فقد مرغ أنف تلك القوة العالمية في التراب وحصل على أملاكها دون مزيد من القتال، ولكنه لم يفكر للحظة بعرض الملك الفارسي. وعندما عبّر صديقه المقرب بارمينيون عن رأيه ورأي بقية القادة قائلاً له: لو كنتُ الاسكندر لوافقت على عرض داريوس. فأجابه الاسكندر: وأنا لو كنتُ بارمينيون لوافقت أيضاً. ولكنني الاسكندر. هيا نتابع إلى الأمام باتجاه الشرق. تملكت الدهشة قادة الاسكندر من هذا القرار، ولم يكن أحد منهم راغباً في مهاجمة فارس في عقر دارها، ولكنهم خضعوا لرغبته.
عبر الاسكندر نهر الفرات وحطم الجيش الفارسي الذي تشتت بعد هرب ملكه من ساح المعركة. ثم عبر نهر دجلة واستولى على بيرسيبوليس عاصمة الإمبراطورية. ومنها تابع المسير عبر بوادي إيران الشرقية حيث الحر القاتل والعطش، والمقاومة الضارية لمجموعات فرسان الجيش المدربة التي تحولت من الحرب النظامية إلى حرب العصابات، وراحت توقع في صفوف الجيش المقدوني خسائر فادحة. وعندما تم اكتساب فارس اعتقد الجميع أنهم قد حققوا ما أتوا لأجله، ففارس العظيمة قد أُخضعت وصار لديهم من الأسلاب والغنائم ما يكفي، ولكن الاسكندر أعطى أوامره بمتابعة التقدم.
بعد استيلائه على أهم الممالك في آسيا الوسطى، انقلب الاسكندر نحو أفغانستان الوعرة ذات الجبال الشاهقة والممرات الضيقة حيث كانت العصابات المحلية تحصد آلاف المقدونيين. ومن أفغانستان توجه لغزو الهند من الشمال، وأقنع قادته المتذمرين بأن حرب الهند ستكون خاتمة الحروب. في بلاد السند انتصر الاسكندر على عدد من الممالك المحلية، ولكنه أصيب بجرح بليغ جعل قادته على قناعة تامة بأن عليهم التوقف قبل فوات الأوان، ولم يكن الاسكندر في وضع يسمح له بالاعتراض على رغبتهم. شق الجيش طريقه هبوطاً نحو مصب نهر السند، ومن هناك أرسلوا الجرحى والغنائم على ظهر سفن شقت طريقها نحو الخليج العربي باتجاه بابل، أما بقية الجيش فتوجهوا إليها براً. وعندما وصل الاسكندر إلى بابل أعلنها عاصمة لإمبراطوريته، ولكن توفي إثر مضاعفات خلّفها جرحه القديم، وتمزقت تلك الإمبراطورية قبل أن ترى النور.
فما الذي كان يسعى إليه الاسكندر من وراء كل تلك الحروب؟ ولأي غرض غطت تلك الدماء المسفوكة المنطقة الممتدة من بلاد اليونان إلى الهند؟ لقد قال الاسكندر قبل موته إنه أراد من وراء تلك الحروب المجد، وإنه كان يريد أن يمجد نفسه ويمجد شعبه. ولكن ما هو المجد؟ سؤال لن يجيبك عنه إلا أحد أولئك الفاتحين المصابين بداء عضال يطلق عليه علم النفس الحديث اسم البارانويا، أو جنون العظمة.
ولقد كان الجنرال الإلهي، مثل الاسكندر وغيره من أمراء الحرب عبر التاريخ، باحثاً عن المجد له ولشعبه. وجنبات الكتاب المقدس تمتلئ بألقاب المجد تُسبغ على رب الجنود: “أُسبح للرب فقد تعظَّم بالمجد.” (الخروج 15: 1). “وأشدد قلب فرعون حتى يسعى وراءهم فأتمجد بفرعون وبجميع جيشه.” (الخروج 14: 4). “قدوس رب الجنود، مجده ملء الأرض.” (إشعيا 6: 3). “تمجدتَ وسِعْتَ كل أطراف.” (إشعيا 26: 15). “وأجعل فيهم آية وأرسل منهم ناجين إلى الأمم… إلى الجزائر البعيدة التي لم تسمع خبري ولا رأت مجدي، فيخبرون بمجدي بين الأمم.” (إشعيا 66: 19). “رنِّموا للرب ترنيمة جديدة… حدِّثوا بين الأمم بمجده.” (المزمور 96: 2 – 3). “ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب قدام سيد الأرض كلها، أخبرت السماوات بعدله وجميع الشعوب بمجده.” (المزمور 97: 5 – 6).
وها هو يتوعد كل الأمم والشعوب بمذابحه القادمة: “اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا، ويا أيها الشعوب أصغوا. لأن للرب سخطاً على كل الأمم وغضباً على كل جيشهم. قد حرَّمهم دفعهم إلى الذبح، فقتلاهم تُطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم… لأنه قد رُويَ في السماوات سيفي. هوذا ينزل على آدوم وعلى شعب حرَّمته للدينونة. للرب سيف قد امتلأ دماً وسُمِّنَ من الشحم من دم الحملان والتيوس من شحم طلي الكباش. لأن للرب ذبحاً في بُصرة وقتلاً عظيماً في أرض آدوم، ويسقط البقر الوحشي معها والعجول مع الثيران، وتروى أرضهم من الدم وترابهم من الشحم يسمن. لأن للرب يوم انتقام سنة جزاء من أجل دعوى صهيون.” (إشعيا 34: 1 – 8).
“فالآن قم اعبر هذا الأردن”
– يشوع 1: 1
بعد انقضاء أكثر من خمسمئة سنة على الوعد الإلهي لإبراهيم بأرض كنعان، وهو وعد كان حرياً به أن يسقط بالتقادم، أمر يهوه يشوع بن نون بعبور الأردن. فبعث يشوع برسولين ليتجسسا مدينة أريحا على الضفة الغربية من النهر. ولما انكشف أمرهما خبأتهما عاهرة تُدعى راحاب في بيتها الملاصق للسور ثم دلتهما بحبل من الكوة إلى خارج المدينة بعد أن أخذت عليهما عهداً بالحفاظ على حياتها وحياة أهلها عند اقتحامهم للمدينة (يشوع: 1 – 2). وعندما حرك يشوع الجماعة لعبور النهر والكهنة في وسطهم حاملين تابوت العهد، فلق يهوه مياه النهر أمامهم فمشوا على اليبس إلى الضفة الأخرى وعسكر يشوع في موقع الجلجال في تخوم مدينة أريحا: “وعملوا الفصح في اليوم الرابع عشر من الشهر في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيراً وفريكاً في نفس ذلك اليوم. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض ولم يكن بعدُ لبني إسرائيل مَنّ.” (يشوع: 3 – 6).
في هذه الملاحظة الأخيرة عن انقطاع المن الذي كان يأكله بنو إسرائيل في البرية (يشوع 6: 10 – 12)، يُظهر محرر سفر يشوع جهله بالعديد من تفاصيل قصة الخروج لاسيما في مراحلها الأخيرة. ومنها ما ورد في سفر العدد من أن بني إسرائيل عندما تعلقوا ببعل فغور وتركوا عبادة الرب، كانوا يأكلون من الذبائح التي تُقدّم إلى ذلك الإله ويسجدون له (العدد 25: 1 – 3). يضاف إلى ذلك أن بني إسرائيل قد استولوا على مناطق واسعة في شرقي الأردن بمدنها وقراها ومواشيها، وأقاموا فيها مدة من الزمن قبل عبورهم الأردن إلى كنعان. فكيف بقي طعامهم مقتصراً على المن الذي تجود به السماء، وماذا فعلوا بالآلاف المؤلفة من رؤوس الماشية التي بلغت في إحدى الحملات نحو ستمئة ألف من الغنم وسبعين ألف من البقر (العدد 31: 31 – 33)؟ فهل اعتمد محرر سفر يشوع على موروث آخر يجعل جماعة موسى تنتقل مباشرة من سيناء إلى كنعان عن طريق بئر السبع من دون الصعود إلى شرقي الأردن؟
كانت أريحا الأولى في مدن كنعان التي يُطبّق عليها قانون التحريم ويباد سكانها عن بكرة أبيهم. لم يدم حصار المدينة طويلاً لأن الرب أظهر فيها معجزة عظيمة عندما جعل أسوارها تسقط من تلقاء ذاتها، فقد كان على يشوع أن يدور بجنوده حول المدينة في كل يوم مرة يتقدمهم سبعة كهنة أمام تابوت العهد يحملون الأبواق. وفي اليوم السابع يدورون سبع مرات ثم يضرب الكهنة بالأبواق ويتبعهم الشعب بصوت الهتاف فيتداعى سور المدينة في مكانه، وهكذا كان: “وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة، وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف. وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: ادخلا بيت المرأة الزانية وأخرِجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها. فدخل الغلامان الجاسوسان وأخرجا راحاب وأباها وأمها وإخوتها… وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم.” (يشوع: 6).
وسيكون للعاهرة راحاب تاريخ طريف في الكتاب المقدس. فقد تزوج منها المدعو سلمون الذي تسلسل من فارص الابن الذي وُلد ليعقوب من زناه بكنته تامار (التكوين: 38). ومن سلمون وراحاب تسلسل الملك داود، ومن داود تسلسل بقية ملوك يهوذا الذين حكموا في أورشليم. وسلسلة الأنساب هذه يوردها مؤلف إنجيل متى في إصحاحه الأول اعتماداً على موروث يهودي قديم.
بعد ذلك وجَّه يشوع قواته إلى مدينة عاي ولكنه هُزم هزيمة نكراء. وعندما طلب يشوع وجه إلهه قال له إن بني إسرائيل قد تعدوا أمر التحريم وبعضهم سرق من أريحا ما هو حرام للرب، وإن السارق يجب أن يحرق بالنار هو وأسرته وكل ما له. ففتش يشوع بين الشعب واكتشف السارق، فأمر أن يؤخذ هو وبنيه وبناته وبقره وغنمه وخيمته وكل ما له، إلى حيث رُجموا جميعاً بالحجارة ثم أُحرقوا بالنار. عند ذلك هدأ غضب الرب على إسرائيل وأمر يشوع أن يعيد الكرة على عاي فأخذها وأفنى جميع سكانها ثم أحرقها وجعلها تلاً خراباً إلى هذا اليوم (يشوع: 7 – 8).
وسمع سكان مدينة جبعون الواقعة على مسافة قريبة إلى الشرق من أريحا بما فعله بنو إسرائيل، فحلّ عليهم الرعب واحتالوا لإنقاذ مدينتهم من الدمار. فصعدت جماعة قليلة منهم وقد ارتدوا أسمالاً بالية ونعالاً ممزقة، وفي أكياسهم خبز يابس قد صار فتاتاً، وجاؤوا إلى يشوع قائلين إن مدينتهم بعيدة وفقيرة وقد قطعوا تلك المسافة لطلب الأمان لهم ولمدينتهم، فقطع لهم يشوع عهداً بعدم الاعتداء وحلف لهم رؤساء الجماعة. ثم عرف بعد ثلاثة أيام أن مدينتهم قريبة وميسورة الحال، ولكنه حافظ على عهده لهم وقسمه أمام الرب وجعل منهم رجال سخرة لبني إسرائيل (يشوع: 9). أما كيف انطلت هذه الحيلة على قائد عسكري محنك من المفترض أنه قد درس بعناية مسرح عملياته القتالية، فلأن معلوماته الاستخباراتية لم تتعدَّ على ما يبدو العاهرات من أمثال راحاب، التي صارت بسبب خيانتها لقومها السلف المبجل لملوك يهوذا.
فلما سمع أدوني صادق ملك أورشليم بما فعله بنو إسرائيل بأريحا وعاي، عقد حلفاً مع ملك حبرون في أقصى جنوب يهوذا، ومع ملوك يرموت ولخيش وعجلون في سهل شفلح (أو منطقة التلال المنخفضة الفاصلة بين المرتفعات الشرقية والسهل الساحلي)، وصعد الملوك الخمسة للقاء يشوع في جبعون حيث حصلت مقتلة عظيمة في صفوف الجيوش الخمسة، وأوقف يهوه الشمس في كبد السماء فلم تُعجّل للغروب نحو يوم كامل ليتيح لبني إسرائيل الانتصار على أعدائهم. وفيما هم منهزمون رماهم يهوه بحجارة عظيمة من السماء فكان الذين هلكوا بهذه الحجارة أكثر من الذين هلكوا بحد السيف. وتعقب يشوع الملوك الخمسة حتى وجدهم مختبئين في مغارة بمدينة مقيدة، فقتلهم وعلقهم على أعمدة من خشب. وبعد ذلك استولى يشوع على حبرون ومدن سهل شفلح وأفنى سكانها عن بكرة أبيهم وصولاً إلى تخوم غزة “لأن الرب إله إسرائيل قد حارب عن إسرائيل.” (يشوع: 10).
بعد استيلاء يشوع على المناطق الجنوبية وجّه أنظاره نحو الشمال، وكانت حاصور درة مدن الشمال وأقواها، فجمع إليه ملكها يابين ملوك الشمال كلهم: “فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم شعباً غفيراً كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة بخيل ومركبات كثيرة. فاجتمع هؤلاء الملوك بميعاد وجاؤوا ونزلوا معاً على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل… فدفعهم الرب بيد إسرائيل وضربوهم حتى لم يبقَ لهم شارد… ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف لأن حاصور كانت قبلاً رأس تلك الممالك، وضربوا كل نفس بها بحد السيف، حرموهم ولم تبقَ نسمة وأحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بالسيف، حرّمهم كما أمر موسى عبد الرب.” (يشوع 11: 4 – 15).
وبذلك غدت كنعان بكاملها ملكاً لبني إسرائيل عدا المنطقة الساحلية الجنوبية حيث يقيم الفلسطينيون في مدنهم الخمس. أما لماذا أبقى يهوه على هذه المنطقة خارج سلطة بني إسرائيل، فسؤال سنجد جواباً عليه في سفر القضاة وسفر صموئيل الأول، حيث نجد يهوه يستخدم هؤلاء الفلسطينيين كأداة قمع ضد بني إسرائيل كلما نسوه وحادوا عن شريعته.
في كل أخبار الغزو والفتح عبر التاريخ هنالك مدن جنحت إلى السلم أمام الغازي وفتحت له أبوابها دون قتال بعد أن تبين لها أن ميزان القوى ليست لصالحها. فلماذا شذت أخبار غزوات يشوع عن هذه القاعدة؟ الجواب على هذا التساؤل يقدمه لنا محرر السفر في الإصحاح 11. فيهوه قد قسَّى قلوب ملوك كنعان فلم يجنحوا إلى السلم حتى يتمكّن من إبادتهم: “ولم تكن مدينة سالمت بني إسرائيل سوى الحويين سكان جبعون، وإنما أخذوا الكل بالحرب. لأن ذلك كان من قِبَل الرب وهو قسَّى قلوبهم حتى خرجوا على بني إسرائيل بالقتال، فيُحرَّموا ولا تقع بهم رأفة بل يبادون كما أمر الرب موسى.” (يشوع 11: 19 – 20).
قد تبدو الاستراتيجية التي اتبعها يشوع مقنعة من حيث الظاهر، ويقترب المحرر في عرضها بما يشبه السرد التاريخي، إلا أننا نجد المحرر بعد ذلك غير متأكد مما يرويه. ففيما يتعلق بأورشليم فإن وضعها يبقى غامضاً في استراتيجية يشوع، فبعد أن قتل ملكها أدوني صادق زعيم تحالف الملوك الخمسة الجنوبيين، لا يقول لنا المحرر إن يشوع قد أخذ المدينة نفسها. وعند تعداده للمدن والمناطق التي جرى توزيعها بعد الفتح على القبائل يقول بشأن أورشليم: “وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا إلى هذا اليوم.” (يشوع 15: 63). هذا الوضع الغامض ينسحب على العديد من المدن الكنعانية الأخرى، ففيما يتعلق بمدينة جازر مثلاً يقول لنا المحرر في أخبار الفتح إن يشوع قد ضرب ملكها مع شعبه ولم يبقِ منهم أحداً (يشوع 10: 33)، ثم يقول لنا في أخبار التوزيع إن قبيلة أفرايم التي أُعطيت مدينة جازر لم يطردوا الكنعانيين الساكنين فيها وإنما سكنوا بينهم (يشوع 16: 10). وفيما يتعلق بمدن وادي يزرعيل: تعنك ومجدو وبيت شان، فإن أخبار الفتح تقول إن يشوع قد ضربها وامتلك أراضيها (يشوع 13: 21)، أما أخبار التوزيع فتقول إن بني منسي لم يقدروا على السكن في هذه المدن. وعندما قوي بنو إسرائيل فرضوا على الكنعانيين الجزية ولم يطردوهم (يشوع 17: 12 – 13).
إن كل الأشياء الحسنة التي وعد بها يهوه بني إسرائيل قد تحققت، ويشوع قد شاخ وتقدم في الأيام. فجمع يشوع شيوخ إسرائيل ورؤساءهم وقضاتهم وعرفائهم فمثلوا أمام الرب. وقال لهم يشوع: “هكذا قال الرب إله إسرائيل… أعطيتكم أرضاً لم تتعبوا عليها ومدناً لم تبنوها وتسكنون بها، ومن كروم وزيتون لم تغرسوها تأكلون. فالآن اخشوا الرب واعبدوه بكمال وأمانة، وانزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم الذي في عبر النهر وفي مصر واعبدوا الرب. وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون.” (يشوع 24: 1 – 15). إن يهوه عند هذا المفصل الحاسم من تاريخه مع إسرائيل يعطيهم خياراً لم يطرحه من قبل، فإما أن يجددوا معه العهد وإما أن يفصموه. ولكن الشعب اختار تجديد العهد: “فأجاب الشعب وقالوا: حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى”. فحذرهم يشوع من مغبة هذا الاختيار لأنه عارف بعد مقدرتهم على عبادة يهوه والالتزام بكل بنود شريعته: “لا تقدرون أن تعبدوا الرب لأنه إله قدوس وإله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم. وإن تركتم الرب وعبدتم آلهة غريبة يرجع فيسيء إليكم ويفنيكم بعد أن أحسن إليكم”. ولكن الشعب الذي لم يعِ حتى الآن دروس العلاقة مع هذا الإله الذي يلعب دور الزوج الغيور القاتل أجاب بعناد: “لا بل الرب نعبد”. وهنا تشيع المأساة في جواب يشوع وهو يقول مذعناً: “أنتم شهود على أنفسكم أنكم قد اخترتم لأنفسكم الرب لتعبدوه.” (يشوع 24: 16 – 22).