مات يوسف وجميع أخوته الذين أسكنهم في أرض جاسان التي يُفترض أنها تقع في منطقة دلتا النيل، ولكن ذريتهم نمت وتكاثرت جداً. ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، أقلقه تكاثر هؤلاء الغرباء وخشي إذا صارت حرب أن ينضموا إلى أعداء مصر، فوضعهم تحت الرقابة وسخرهم في أعمال البناء، فأشادوا للفرعون مدينتي مخازم فيثوم ورعمسيس. ولكن اضطهاد بني إسرائيل لم يعمل إلا على زيادة تكاثرهم، وهذا ما دفع الفرعون إلى إصدار أمرٍ بقتل كل مولودٍ ذكر يولد لهم (الخروج: 1). في هذه الأثناء: "مضى رجل من بيت لاوي وتزوج بابنة لاوي، فحملت المرأة وولدت ابناً. ولما رأت أنه حسنٌ أخفته ثلاثة أشهر، ولما لم تستطع أن تخفيه بعدُ أخذت له سَفطاً من بردي وطلته بالحُمر والزفت، وجعلت الولد فيه ووضعته بين الخيزران على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيد لتنظر ماذا يقع له. فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل وكانت جواريها سائرات على شاطئ النهر، فرأت السفط بين الخيزران فأرسلت أَمَتَها فأخذته. ولما فتحته رأت الولد فإذا هو صبي يبكي فرقّت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين. فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لك مرضعاً من العبرانيات ترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فانطلقت الفتاة ودعت أم الصبي. فقالت لها ابنة فرعون: خذي هذا الصبي فأرضعيه لي وأنا أعطيك أجرتك. فأخذت المرأة الصبي وأرضعته. ولما كبر الصبي جاءت به إلى ابنة فرعون فاتخذته لها ابناً وسمته موسى قائلةً: لأني انتشلته من الماء." (الخروج 2: 1-10)
تقوم هذا القصة الافتتاحية من سلسلة قصص موسى (في سفر الخروج وما يكمله في أسفار اللاويين والعدد والتثنية) على عدد من العناصر الشائعة في أدب الشعوب والمتعلقة بميلاد المؤسس الأول والسلف الذي تنتمي إليه الأمة، أو أحد الأبطال البارزين فيها. وبشكل خاص فإن الرضيع الذي يوضع في سلة ثم يترك في الماء للعناية الإلهية لكي تتكفل به، كان موضوعاً للعديد من القصص التي تحكي عن أصل هذا البطل المميز. فإما يكون الطفل من أصل عامي ثم تتعهده أسرة نبيلة أو ملكية بالتنشئة ويغدو واحداً من أفرادها، أو يكون من أصل ملكي ثم تتعده أسرة متواضعة حتى يكبر ويتعرف على أصله الملكي ويعود للمطالبة بحقوقه ومكانته السابقة. وقد يُستبدل عنصر الإلقاء في الماء داخل سلة بترك الوليد في غابة أو برية حيث تقوم غزالة أو ذئبه بإرضاعه. ويتنوع الدافع إلى التخلص من الطفل الرضيع في هذه القصص؛ فهو إما مؤامرة داخل القصر الملكي من أجل انتهاك حقوق ولاية العهد، أو غيرة الزوجة الأولى من ولادة الزوجة الثانية، أو نبوءة عن قيام المولود الجديد في المستقبل بقتل الأب والاستيلاء على العرش.
وأقدم من ارتبطت أسمائهم بقصة الإلقاء في الماء هو صارغون الأكادي (نحو 3200 ق.م) الملك الذي وحد لأول مرة بلاد الرافدين تحت سلطةٍ سياسيةٍ مركزية. وقد ترك لنا هذا العاهل نصاً يتحدث فيه عن أصله المتواضع فيقول: "أنا صارغون الملك العظيم، ملك أكاد. أمي كانت عذراء معبدٍ ولم أعرف لي أباً. أخوالي أحبوا مساكنهم في المناطق الجبلية. ومدينتي اسمها أوزوبيرانو على ضفة الفرات. أمي حبلت بي سراً، ثم أودعتني في سلة من القصب ختمتها بالزفت وأنزلتني إلى الماء الذي لم يغمرني. حملني الماء وساقني إلى البستاني آكي فانتشلني عندما كان ينضح الماء بسطله، وأخذني إليه كابن له ورباني وجعلني بستانياً في أرضه. وبينما كنت أعمل في البستان منحتني الإلهة عشتار حبها فصرت ملكاً لمدة أربع و... سنة."(1)
القصة الثانية من قصص موسى تنقلنا بشكل مفاجئ من موسى الطفل إلى موسى الشاب الذي شب في بلاط الفرعون وهو عارف بأصله العبراني: "وكان في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته ونظر أثقالهم، فإذا برجلٍ مصري (= أحد رؤساء السخرة) يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته، فالتفت يميناً وشمالاً فلم يرَ أحداً فقتل المصري وطمره في الرمل. ثم خرج في اليوم الثاني فإذا برجلين عبرانيين يتضاربان، فقال للمعتدي: لماذا تضرب قريبك؟ فقال: من أقامك علينا رئيساً وحاكماً؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت المصري؟ فخاف موسى وقال: إذن الخبر قد ذاع." (الخروج 2: 10-14).
القصة الثالثة تتحدث عن هرب موسى إلى منطقة مديان خوفاً من أن يناله العقاب على جريمته: "وسمع فرعون بهذا الخبر فطلب أن يُقتل موسى، فهرب موسى من وجه فرعون وصار إلى أرض مديان وقعد عند البئر. وكان لكاهن مديان سبع بناتٍ فجئن وملأن المساقي ليسقين غنم أبيهن فجاء الرعاة وطردوهن، فقام موسى، وأنجدهن وسقى غنمهن. فلما جئن رعوئيل أباهن قال: ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم؟ فقلن: رجل مصري خلصنا من أيدي الرعاة وأيضاً استقى لنا وسقى الغنم. فقال لبناته وأين هو؟ لم تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاماً. فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل فزوّجه صفورة ابنته، فولدت له ابناً فدعا اسمه جرشوم لأنه قال كنت نزيلاً في أرض غريبة. (ثم ولدت غلاماً ثانياً فسماه أليعازر وقال لأن إله أبي ناصرني، أنقذني من يد فرعون)(2). وكان بعد أيام كثيرة أنّ ملك مصر مات. وتنهد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية، فسمع الله أنينهم وتذكر عهده مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونظر الله إلى بني إسرائيل وعلم الله." (الخروج 2: 15-20).
هذه القصص الثلاث التي تجري في مواضع مختلفة هي: 1-مساكن العبرانيين 2-القصر الملكي 3-صحراء مديان، تفتتح لغز موسى بالإشارة إلى ثلاثة أصول محتملة لهذه الشخصية الغامضة، وهي: 1-الأصل العبراني 2-الأصل المصري 3- الأصل المدياني. ولربما لن نكون قادرين على ترجيح واحد من هذه الأصول على الآخر. وقد تكون شخصية موسى التوراتي مزيجاً من ثلاث شخصيات تم الجمع بينها اعتماداً على موروثات مختلفة المنشأ. إن القوة التي رُسمت بها هذه الشخصية التراجيدية في الأسفار الأربعة، ومركزيتها في التاريخ التوراتي والعقيدة التوراتية، يدفعنا إلى الاعتقاد بوجود أساس تاريخي لها تراكم فوقه غبار التاريخ حتى غدا من الصعب الوصول إليه.
1- موسى العبراني:
تبتدئ قصة موسى العبراني بقول المحرر: "ومضى رجلٌ من بيت لاوي وتزوج بابنة لاوي، فحملت المرأة وولدت ابناًَ." (الخروج2: 1-2). يقدمنا هذا المقطع إلى المستوى الأول والأصلي لقصة موسى العبراني. فهو مجهول الأب والأم. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنه مجهول القبيلة، وليست نسبته إلى اللاويين الذي لم يُعدّوا بين القبائل الاثني عشر، وأُفرزوا فيما بعد للخدمة الدينية، إلا من قبيل إضفاء الطابع الكهنوتي على موسى. وعلى الرغم من أن هذه القصة الأولى قد أشارت إلى وجود أختٍ لموسى، إلا أن المحرر لم يذكر لنا اسمها مثلما لم يذكر وجود أخٍ لهما تفترض الأحداث اللاحقة أنه أكبر منه سناً وهو هرون. ومن وجهةٍ أدبيةٍ بحته يمكننا القول بأن وجود الأخت كان مجرد عنصرٍ قصصيٍ شائق جرى توظيفه بعنايةٍ من أجل الربط بين الأحداث ودفعها باتجاه الذروة.
في المستوى الثاني لقصة موسى العبراني يبدأ المحرر بابتكار أصولٍ لموسى. فأبوه يدعى عمرام ابن أقهات الذي يعود بنسبه إلى لاوي ابن يعقوب (الخروج6: 18). وبعد ذلك بقليل يقول لنا: "وأخذ عمرام يوكابد عمته (زوجة له) فولدت له هرون وموسى." (الخروج 6: 20). وكما نلاحظ هنا فإن المحرر قد أغفل ذكر أخت موسى، ولكنه بعد عبور البحر الأحمر وغرق جيش الفرعون يقدم لنا شخصيةً جديدة يدعوها مريم النبية أخت هارون: "فأخذت مريم النبية أخت هرون الدف بيدها وخرجت وراءها جميع النساء بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنموا للرب فإنه قد تعظم، الفرس وراكبه طرحهما في البحر.. الخ." (الخروج15: 20). ونحن هنا أمام موروث يجعل من مريم الملقبة بالنبية أختاً لهارون لا أُختاً لموسى. وينجم عن ذلك أن صلة الأخوَّة بين موسى وكلٍّ من مريم وهارون قد ابتكرت لاحقاً من أجل إحداث روابط عائلية لهذه الشخصية المجهولة. ولا أدلَّ على ذلك من أن مريم وهارون قد اتحدا معاً في عملية تمرد على موسى، على ما سنرى لاحقاً.
على أن هذه الأصول، والنسبة إلى سلالة اللاوين، لا تكفي لرسم شخصية البطل الملحمي المؤسس، والقصة لا تكتسب طابعها الملحمي المؤثر إذا لم يزود ذلك البطل بنسب ملكي. وهنا نأتي إلى موسى المصري ربيب ابنة فرعون.
2- موسى المصري:
إن أوّل ما يوجه الانتباه إلى الأصل المصري لموسى هو اسمه. فالاسم "م و س"، على ما لاحظ عالم المصريات المعروف ج.هـ.بريستد، يعني "طفل"، وهو اختصار لاسم مركبٍ يحتوي في أحد شطريه على اسم إلهي مثل: رع-موس، تحوت-موس، أح-موس. أي طفل رع أو طفل تحوت.. الخ(3). ومع تداول الاسم يجري إسقاط الشطر الأول منه ويبقى الشطر الثاني: موس أو موسى. أما التبرير الوارد على لسان الأميرة المصرية لإطلاقها الاسم موسى على الطفل عندما قالت: "لأنني انتشلته من الماء"، فغير صحيحٍ تبعاً للأصول الاشتقاقية في اللغة العبرية(4). يُضاف إلى ذلك أنه من غير المفترض أن تكون هذه الأميرة على دراية باللغة العبرية حتى تطلق على الطفل اسماً ذا طبيعة اشتقاقية على هذه الدرجة من التركيب. وفي الحقيقة، فإن قصة موسى العبراني ما كان لها أن تنسجم مع النمط العام لميلاد البطل الملحمي، وبالتالي تمارس تأثيرها المطلوب، إذا لم تبتكر مثل هذا الأصل النبيل لبطلها المجهول النسب. ولكن ماذا إذا كان موسى مصرياً فعلاً؟
في سلسلة قصص موسى هنالك عدد من العناصر التي تقف إلى جانب نظرية أصله المصري. فعادة الختان التي فرضها على العبرانيين هي في الأصل عادة مصرية. وبها ميز المصريون أنفسهم عن الأجانب، ثم صارت فيما بعد ميزةً لليهود على غيرهم. والعلة التي كان يشكو منها موسى وهي قلة الفصاحة وثقل اللسان، يمكن أن تُعزى إلى عيب خلقي في النطق مثل التأتأة والفأفأة وما إليها، ولكنها يمكن أن تعزى أيضاً إلى غرابة لغة موسى المصرية عن لغة العبرانيين، وما ينجم عن ذلك من صعوبة التواصل بين الطرفين. وفي الإصحاحات الأولى من سفر الخروج يبدو لنا موسى في شخصية الساحر أكثر منه في شخصية النبي. فهو يحمل بيده عصا سحرية ربما كانت على هيئة حية، أو على شكل عصا يتخذ مقبضها رأس حية. وقد حوّل هذه العصا إلى حية تسعى أمام أنظار الفرعون، وكان يستخدمها لاجتراح المعجزات، وبها شق مياه البحر لعبور بني إسرائيل ثم أعاد المياه ثانيةً فأغرق جيش المصريين، وبها ضرب الصخرة الصماء فانبجس منها نبع غزير. وقد كان السحر عنصراً هاماً في ديانة مصر القديمة التي احتوت على أكثر المفاهيم الروحانية سمواً وعلى أكثر أشكال السحر تطرفاً، حتى أنه كان باستطاعة الكاهن الساحر أن يجبر الآلهة نفسها على تقديم العون للإنسان من خلال نطقه "بكلمات القوة". ويبدو أن شق المياه بالقوى السحرية لم يكن وقفاً على موسى، فلدينا قصة مدونة على بردية تعود إلى نحو 1550 ق.م. تحكي عن قيام كاتب الملك سنفرو، وهو كاهن متمرس بفنون السحر، بشق مياه البحيرة أمام الملك ثم إعادته كما كان(5).
ومن أعمال موسى السحرية المتصلة بالحية، أنه صنع حيةً من نحاس ورفعها على عصا من أجل شفاء العبرانيين من لدغات الأفاعي التي أرسلها عليهم الرب وأماتت منهم قوماً كثيرين (العدد 21). وهذه الحية النحاسية كانت من الصور المقدسة عند المصريين، وارتبطت بعبادة الإلهة إيزيس سيدة السحر وحامية السحرة. وفي بعض المشاهد الطقسية المصورة نجد الكاهن-الساحر يحمل بيده عصا صُنع مقبضها على هيئة رأس حية، ويدني ذلك المقبض من رأس تمثال الإله لكي يحوله من كتلة صماء إلى مسكنٍ حي للإله الذي يمثله(6). وهذا الطقس يدعى طقس فتح فم الإله، وهو معروف في مصر وبلاد الرافدين على حد سواء. ونظراً لقداسة الحية النحاسية التي صنعها موسى، فقد ظلت تُعبد في هيكل أورشليم بعد ذلك وتُقدم لها القرابين (الملوك الثاني 18: 4).
وهنالك جملة عابرة ترد على لسان بنات كاهن مديان ذات دلالة هامة، عندما وصفن موسى بأنه رجل مصري: "فقلن: رجل مصري خلصنا من أيدي الرعاة.. الخ." (الخروج2: 19). وخارج كتاب التوراة هناك موروثات تشير إلى الأصل المصري لموسى، وبعضها يذهب إلى القول بأنه كان قائداً عسكرياً حقق انتصاراتٍ باهرة للجيش المصري(7).
3- موسى المدياني:
في القصة الثالثة من سلسلة قصص موسى، يتحول البطل المصري إلى مجرد راعي غنم ويتزوج من صفورة ابنة كاهن مديان الغامض. وفيما يلي ذلك فإن ستاراً من النسيان يُسدل على أنه كان في يوم من الأيام أميراً مصرياً، لاسيما لدى عودته إلى مصر لتحرير بني إسرائيل ودخوله على الفرعون وما تلا من المصائب العشر التي حلت بمصر والتي انتهت بالخروج. ولا أدلّ على غموض شخصيّة كاهن مديان، وبالتالي على غموض موسى المدياني، من تضارب الأخبار التوراتية بخصوصه. ففي ظهوره الأول نجد أن اسمه رعوئيل: " فلما جئن رعوئيل أباهن قال لهن.. الخ." (الخروج 2: 18). وبعد ذلك بقيل يتحول اسمه إلى يثرون: "وكان موسى يرعى غنم حميه يثرون. فساق الغنم إلى ما وراء البرية.." (الخروج 3: 1). وفي سفر العدد يظهر لكاهن مديان ابن اسمه حوباب: "وقال موسى لحوباب ابن رعوئيل المدياني حمي موسى.. الخ." (العدد 10: 19). وفي سفر القضاة يطلق المحرر الاسم حوباب على كاهن مدين لا على ابنه ويصفه بالقيني لا بالمدياني: "وكان جابر القيني من بني حوباب حمي موسى قد انفرد عن القينيين.. الخ." (القضاة4 : 11) وأيضاً: "وصعد بنو القيني حمي موسى من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا وسكنوا مع الشعب." (القصاة1 : 16).
ولعل مما يكرس استقلالية شخصية موسى المدياني عن موسى العبراني وموسى المصري، هو ذلك التعتيم على حياته الأُسرية. ففي سفر الخروج تزوج من صفورة ابنة كاهن مديان وأنجب منها ولدين اسم أحدهما جرشوم واسم الآخر أليعازر (وأليعازر على ما رأينا في الترجمة الكاثوليكية كان أخاً لموسى لا ابناً له). وفي سفر العدد اتخذ زوجة ثانية توصف بالكوشية دون ذكر اسمها أو ذكر أولاده منها. وفيما عدا ذلك فإن المحرر التوراتي يتوقف عن سرد كل ما له علاقة بأسرة موسى المدياني، ولا نعثر حتى نهاية سلسلة قصص موسى على ذكرٍ لصفورة أو لابنيها جرشوم وأليعازر(8). فما الذي حل بسلالة موسى؟ ولماذا أحجم المحررون التوراتيون المولعون بالأنساب عن متابعة أخبار نسل الشخصية المركزية في حياة بني إسرائيل.
السيناريو المحتمل:
إن أي سيناريو عن كيفية اجتماع هذه الشخصيات الثلاث في واحدة، لن يكون إلا ضرباً من التخمين. وإني لأغامر بطرح السيناريو المحتمل التالي:
إن شخصية موسى المصري هي الشخصية الرئيسية التي تراكبت فوقها الشخصيتين الأخريتين. فهو من أسرة نبيلة مقربة من البلاط الملكي، إن لم يكن فعلاً من أفراد النسل الملكي. انتسب إلى صفوف الجيش منذ حداثته وارتقى إلى أعلى الرتب. وقد حققت له انتصاراته العسكرية المجد والشهرة وجعلته مقرباً من الفرعون. هذا الوضع المميز جعله عُرضةً لمؤامرةٍ داخل البلاط أوغرت عليه قلب الفرعون، فهرب من وجهه والتجأ إلى مساكن العبرانيين الذين كانوا يستعدون لمغادرة مصر ثم خرج معهم كواحدٍ منهم. ونظراً لثقافته الرفيعة وخلفيته العسكرية، فقد أوكلوا إليه أمر قيادتهم خلال رحلتهم.
وكان لهذه المجموعة العبرانية التي وفدت إلى مصر من أجل التكسب بالعمل اليدوي في مشاريع البناء الملكية مشرف أقامته عليهم إدارة المشاريع، من الذين يدعوهم نص سفر الخروج بالمدبرين، وهم صلة وصل بين الإدارة وعمال البناء (راجع الخروج 5: 14 و19). وهذا صار بمثابة الساعد الأيمن له، وجعلته القصة أخاً لموسى تحت اسم هارون، وعن طريقته تشكلت عناصر شخصية موسى العبراني وتواشجت مع عناصر شخصية موسى المصري، حتى صرنا لا نستطيع تمييز أحدهما عن الآخر؛ فهما يكلمان بني إسرائيل سويةً، ويدخلان على الفرعون معاً مراراً عديدةً من أجل إطلاق بني إسرائيل. والرب يعطي موسى معجزة العصا التي تصير أفعى (الخروج 4: 1-5)، ولكننا نجد أن هارون هو الذي يجترح هذه المعجزة أمام فرعون وسحرته (الخروج 7: 8-13). وبعد ذلك نجد أن هذه العصا التي ستُحِلّ الكوارث العشر على فرعون وشعبه تنتقل من يد موسى إلى يد هارون وبالعكس: "وقال الرب لموسى: إذهب إلى فرعون في الصباح، والعصا التي تحولت حية تأخذها في يدك وتقول له: ها أنا أضرب بالعصا التي في يدي الماء الذي في النهر فيتحول دماً." (الخروج7: 14-17). "فقال الرب لموسى: قل لهرون مُدّ يدك بعصاك على الأنهار والسواقي.. الخ." (الخروج8: 5-7). "فمد موسى عصاه نحو السماء فأعطى الرب رعوداً وبرداً وجرت نارٌ على الأرض.. الخ." (الخروج9: 22-24).
وفي أكثر من موضع نلاحظ ذلك التشديد من قبل محرر سفر الخروج على الوحدة التي لا تنفصم عراها بين موسى المصري وموسى العبراني، ومنها هذا المقطع اللافت للنظر: "هذا هما هرون وموسى اللذان قال الرب لهما أخرجا بني إسرائيل من أرض مصر بحسب أجنادهم. هما اللذان كلما فرعون ملك مصر في إخراج بني إسرائيل من مصر. هذان هما موسى وهرون." (الخروج6: 26-27).
عندما حلت الجماعة العبرية المرتحلة في أرض مديان، تبنت عبادة الإله الصحراوي يهوه عن طريق شخصية كهنوتية تتعدد أسماؤها. وقد نقل إليها هذا الكاهن خبراته الوجدية عندما كان يتواصل مع الإله ويسمع كلماته (من شجرة عليق تتوهج بالنيران مثلاً). ولربما كان هذا الشخص مجرد مجازٍ للخبرة الدينية الجديدة التي اكتسبتها الجماعة خلال ترحالها في سيناء وزيارتها لعدد من معابد الصحراء المتواضعة المكرسة للإله يهوه، ولقائها بعددٍ من كهنته، وقد انتهى الأمر بزعيم الجماعة العبرانية لأن يرسم كاهناً في النهاية، وتواشجت شخصيته مع شخصية كاهن مديان وبقية كهنة معابد الصحراء: يثرون، رعوئيل، حوباب.