يبهرنا التناقض الذي تحفل به صورة التعامل مع المثليّة الجنسيّة في الإسلام، خاصّة القرآن الكريم، الذي يعتبر مصدر شرع المسلمين وقوانينهم. وكما هي العادة، تسللت أسطورة لوط إلى القرآن الكريم، لكن بنوع من الاختصار غير العادي، الذي يوحي لنا أنّ النبي محمداً لم يكن على اطلاع بكافّة تفاصيل الأسطورة. ورد في سورة الأعراف، 80-84، “وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ . إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ. فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ. وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ”. في سورة الحجر، 72-76، نجد كلاماً عن المدن الآثمة التي لم يسمّها النبيّ بالاسم: “لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ”. لكن كل ذلك لم يتضمّن قط حديثاً عن عقاب المثليين الجنسيين.
بالمقابل، فالقرآن الكريم ذاته يجعل من محاسن الجنّة وجود غلمان مخلّدين، مفرطي الحسن، في خدمة المؤمنين؛ ففي سورة الإنسان، 19-21، يقال: “ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً. وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. عليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحليّاً أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً”.
يقول الطبري في تفسير النص السابق: “وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ: وَيَطُوف عَلَى هَؤُلاءِ الأبْرَار وِلْدَان, وَهُمْ الْوُصَفَاء , مُخَلَّدُونَ. اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى:” مُخَلَّدُونَ “؛ فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَى ذَلِكَ : أَنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ . وَقَالَ آخَرُونَ : عُنِيَ بِذَلِكَ” وِلْدَان مُخَلَّدُونَ “مُسَوَّرُونَ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُمْ مُقَرَّطُونَ . وَقِيلَ: عُنِيَ بِهِ أَنَّهُمْ دَائِم شَبَابهمْ, لا يَتَغَيَّرُونَ عَنْ تِلْكَ السِّنّ . وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى قَوْله:” مُخَلَّدُونَ " مُسَوَّرُونَ بِلُغَةِ حِمْيَر ; وَيُنْشَد لِبَعْضِ شُعَرَائِهِمْ : وَمُخَلَّدَات بِاللُّجَيْنِ كَأَنَّمَا أَعْجَازهنَّ أَقَاوِز الْكُثْبَان.
إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا وَقَوْله ... يَقُول تَعَالَى ذِكْره: إِذَا رَأَيْت يَا مُحَمَّد هَؤُلاءِ الْوِلْدَان مُجْتَمَعِينَ أَوْ مُفْتَرِقِينَ, تَحْسَبهُمْ فِي حُسْنهمْ, وَنَقَاء بَيَاض وُجُوههمْ, وَكَثْرَتهمْ , لُؤْلُؤًا مُبَدَّدًا, أَوْ مُجْتَمِعًا مَصْبُوبًا. عَنْ قَتَادَة “لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا”؛ قَالَ: مِنْ كَثْرَتهمْ وَحُسْنهمْ. عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو, قَالَ: مَا مِنْ أَهْل الْجَنَّة مِنْ أَحَد إِلا وَيَسْعَى عَلَيْهِ أَلْف غُلام , كُلّ غُلام عَلَى عَمَل مَا عَلَيْهِ صَاحِبه. عَنْ سُفْيَان, قَالَ: “حَسِبْتهمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا”؛ قَالَ : فِي كَثْرَة اللُّؤْلُؤ وَبَيَاض اللُّؤْلُؤ".
من ناحية أخرى، ورد في سورة الواقعة، الآيات 17-23، ما يلي: “يطوف عليهم ولدان مخلّدون. بأكواب وأباريق وكأس من معين. لا يصدّعون عنها ولا ينزفون. وفاكهة مما يتخيّرون. ولحم طير مما يشتهون. وحور عين. كأمثال اللؤلؤ المكنون”. يفسّر الطبري النص السابق؛ فيقول: “يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ أَيْ غِلْمَان لا يَمُوتُونَ؛ وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر: مُخَلَّدُونَ مُقَرَّطُونَ, يُقَال لِلْقُرْطِ الْخَلَدَة وَلِجَمَاعَةِ الْحُلِيّ الْخِلْدَة. وَقِيلَ: مُسَوَّرُونَ وَنَحْوه عَنْ الْفَرَّاء, قَالَ الشَّاعِر: وَمُخَلَّدَات بِاللُّجَيْنِ كَأَنَّمَا أَعْجَازهنَّ أَقَاوِز الْكُثْبَان؛ وَقِيلَ: مُقَرَّطُونَ يَعْنِي مُمَنْطَقُونَ مِنْ الْمَنَاطِق. وَقَالَ عِكْرِمَة:”مُخَلَّدُونَ“مُنَعَّمُونَ. وَقِيلَ: عَلَى سِنّ وَاحِدَة أَنْشَأَهُمْ اللَّه لأهْلِ الْجَنَّة يَطُوفُونَ علَيْهِمْ كَمَا شَاءَ مِنْ غَيْر وِلادَة. وَقَوْله:”وَكَأْس مِنْ مَعِين“، وَكَأْس خَمْر مِنْ شَرَاب مَعِين, ظَاهِر الْعُيُون, جَارٍ؛ عَنْ اِبْن عَبَّاس, قَوْله :”وَكَأْس مِنْ مَعِين“: قَالَ الْخَمْر. عَنْ قَتَادَة قَوْله:” وَكَأْس مِنْ مَعِين"، أَيْ مِنْ خَمْر جَارِيَة .
وَقَوْله : “لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا”؛ يَقُول: لا تُصَدَّع رُءُوسهمْ عَنْ شُرْبهَا فَتَسْكَر. وَقَوْله: “وَلا يُنْزِفُونَ”؛ اِخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَته, فَقَرَأَتْ عَامَّة قُرَّاء الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة “يُنْزَفُونَ” بِفَتْحِ الزَّاي, وَوَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لا تُنْزَف عُقُولهمْ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّة قُرَّاء الْكُوفَة “لا يُنْزِفُونَ” بِكَسْرِ الزَّاي بِمَعْنَى: وَلا يَنْفَد شَرَابهمْ. عَنْ مُجَاهِد “وَلا يُنْزِفُون”؛ قَالَ : لا تُنْزَف عُقُولهمْ. وَحُورٌ عِينٌ؛ وَالْحُور جَمَاعَة حَوْرَاء: وَهِيَ النَّقِيَّة بَيَاض الْعَيْن, الشَّدِيدَة سَوَادهَا. وَالْعَيْن: جَمْع عَيْنَاء, وَهِيَ النَّجْلاء الْعَيْن فِي حُسْن. وَقَوْله: “كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤ الْمَكْنُون”؛ يَقُول : هُنَّ فِي صَفَاء بَيَاضهنَّ وَحُسْنهنَّ, كَاللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُون الَّذِي قَدْ صِين فِي كِنّ.
الحديث النبوي وممارسات الصحابة والتابعين:
مقابل افتقاد النص القرآني لأية إشارة إلى معاقبة المثليين الجنسيين، نجد أن الحديث النبوي الشريف لا يخلو من إشارات إلى ممارسات قاسية بحق “اللوطيين”؛ دون أن ننسى طبعاً الفترة الزمنيّة الكبيرة بين زمن النبي وتدوين أحاديثه، وتفشّي الرذيلة في المجتمع الإسلامي في أيام مدوّني الأحاديث.
روى الترمذي) 1456) وأبو داود (4462) وابن ماجه (2561) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ”؛ وصحّحه الألباني في صحيح الترمذي. لكن أحمد في مسنده (2915) ينفي القتل، نقلاً عن ابن عبّاس ذاته:“أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، ثَلاثًا”. وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند. بالمقابل، فقد أجمع الصحابة على قتل “اللوطي”، لكن اختلفوا في طريقة قتله، فمنهم من ذهب إلى أن يحرق بالنار، وهذا قول علي بن أبي طالب، وبه أخذ أبو بكر. ومنهم قال: يرمى به من أعلى شاهق، ويتبع بالحجارة، وهذا قول ابن عباس.
ومنهم من قال : يرجم بالحجارة حتى يموت، وهذا مرويّ عن علي وابن عباس أيضاً. وقد بسط ابن القيم الكلام على حكم هذا الفعل، وذلك في كتابه “الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي”؛ قال: "ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد، كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات. وقتل المفعول به خير له من وطئه، فإنه إذا وطأه الرجل قتله قتلا لا ترجي الحياة معه، بخلاف قتله فإنه مظلوم شهيد. قالوا : والدليل على هذا (يعني على أن مفسدة اللواط أشد من مفسدة القتل) أن الله سبحانه جعل حدّ القاتل إلى خيرة الولي إن شاء قتل وإن شاء عفا، وحتم قتل اللوطي حدا كما أجمع عليه أصحاب رسول الله ودلت عليه سنة رسول الله الصريحة التي لا معارض لها، بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين .
وقد ثبت عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة، فكتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فاستشار أبو بكر الصديق الصحابة رضي الله عنهم، فكان علي بن أبي طالب أشدهم قولا فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمّة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل الله بها. أرى أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه .
وقال عبد الله بن عباس: ينظر أعلى ما في القرية فيرمى اللوطي منها منكسا ثم يتبع بالحجارة“. ( ص ص 260-263 ). وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة :” وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حدّه كحدّ الزنا، وقد قيل دون ذلك. والصحيح الذي اتفق عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل. سواء كانا محصنين، أو غير محصنين". ( السياسة الشرعية، ص 138). – مع ملاحظة تحريم النبي للإحراق حتى وإن كان للنمل!
السحاق: المثليّة الجنسيّة عند الإناث!
لقد أجمع العلماء المسلمون قاطبة على حرمته، وعدوّه من كبائر الذنوب. لكن ليس في القرآن ذكر لهذه الممارسة. أما السنة فقد ورد فيها حديث تكلم فيه العلماء بين مصحح ومضعف، وهو ما أخرجه الطبراني في الكبير وأبو يعلى عن واثلة عن النبي؛ أنه قال: “السحاق بين النساء زنا بينهن”. وقال الهيثمي في المجمع رجاله ثقات، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير، وأسند الخطيب البغدادي بعد روايته للحديث في تاريخ بغداد إلى النسائي وابن معين أنهما ضعفا بعض رواته.
الوجه الآخر للعملة:
رغم كل ما قيل سابقاً عن مواقف لا تخلو من تطرّف من المثليّة الجنسيّة عند النبيّ ومن جاء بعده، فإن حياة النبي الجنسيّة تتدافع فيها الأسئلة إلى درجة الطوفان. فالمعروف أن النبيّ تزوّج في سن الخامسة والعشرين من امرأة تجاوزت الأربعين، هي خديجة بنت خويلد. والنصوص الإسلاميّة تكاد تلتزم الصمت في حديثها عن أهمّ فترة في حياة النبي، أي بين زواجه من خديجة وزعمه النبوة في الأربعين. الأغرب، هذا التناقض المريب في تناول حياة النبي الجنسيّة زمن خديجة، الزواج الأحادي، وزمن باقي النساء. ففي حين أنجب كل أولاده من المرأة التي تجاوزت الأربعين، لم تنجب له قافلة الصبايا الجميلات ولداً واحدا، باستثناء الجارية الحسناء التي أقامت خارج معسكر أزواجه وحدها، وطعن الجميع بأبوته لابنها إبراهيم، وعلى رأسهم الزوجة- الطفلة، عائشة بنت أبي بكر. لكن أكثر من مرجع في الآونة الأخيرة بدأ ينظر إلى مزاعم الرواة بإنجابه لأولاد كثر من خديجة على أنها مختلقات. والأرجح أنهم أبناء خديجة من أزواج سابقين.
ورغم حديث الرواة السابقين عن تشدد النبي المفرط في التعامل مع المثليين الجنسيين، إلا أن حديثاً هاماً للغاية ورد في أعمال لا حصر لها، يحكي عن مخنّث يصف امرأة بتفاصيل جنسية، كان يقيم عند زوجة النبي، الحسناء أم سلمة: “نفى رسول الله (ص) مخنّثاً يقال له”هيث“[ فتح الباري 35:8 ] وسمعه يقول لأم سلمة، زوج النبي (ص): إذا فتحتم الطائف فعليك بادية بنت عيلان، فإنها هيفاء شموع، إذا قامت تثنّت، وإذا تكلّمت تغنّت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، وبين رجليها كالإناء المكفوء، فزوّجيها عمر ابنك. فقال رسول الله (ص): لقد تغلغلت في النظر يا عدوّ الله، وما ظننتك من ذوي الإربة”. رسائل الجاحظ، المفاخرة،2: 101-102. الملاحظ هنا أنّ النبي اكتفى بنفيه.
الحديث الأهمّ بمدلولاته النفسيّة، وقد وجدناه في غير مرجع، هو ذلك الذي يقول: “قدم وفد عبد القيس على النبي (ص) وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة، فأجلسه النبي (ص) وراء ظهره، وقال: كانت خطيئة من مضى من النظر”. روضة المحبين 103؛ تلبيس إبليس، الباب العاشر، فائدة العلم.
من هنا، كان الانشغال الهاجسي بالجنس، والذي وصل إلى مراحل مرضيّة. قال أبو هريرة: “نهى رسول الله (ص) أن يحدّ الرجل النظر إلى الغلام الأمرد”. ( رسائل الجاحظ 2: 103). وفي المرجع نفسه عن سعيد بن المسيب: “إذا رأيتم الرجل يحدّ النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه”. وكان كثيرون من أمثال سفيان الثوري وابراهيم النخعي ينهون عن مجالسة المردان. وكان الأخير؛ يقول: مجالستهم فتنة وإنما هم بمنزلة النساء ".
رغم كثرة الأمثلة التي توردها كتب الشيعة بكافة مللهم حول الميل المثلي- الجنسي عند الخليفة الثاني، عمر بن الخطّاب؛ إلا أننا لا نعتقد ثبوت “التهمة” على الرجل بأية حال. مع ذلك، نرى برسوخ أنّ أوّل من وضع أسس الحريّة بكافة أشكالها، في الدولة الإسلاميّة، يزيد بن معاوية. وهو أوّل من وصفه مرجع سنّي بأنه “مأبون”، على لسان خليفة أمويّ آخر، هو عبد الملك بن مروان (البداية والنهاية، 79:9). إلا أن أشهر شخصيّة أظهرت كلّ أنواع المجون في العصر الأموي، كان الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك. قال عنه السيوطي في تاريخ الخلفاء، 97، " الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الخليفة الفاسق أبو العباس.
ولد سنة تسعين، فلما احتضر أبوه لم يمكنه أن يستخلفه لأنه صبيّ؛ فعقد لأخيه هشام وجعل هذا وليّ العهد من بعد هشام؛ فتسلّم الأمر عند موت هشام في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة . وكان فاسقاً شريباً للخمر منتهكاً حرمات الله أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة؛ فمقته الناس لفسقه وخرجوا عليه فقتل في جمادى الآخر سنة ستّ وعشرين.
وعنه أنه لما حوصر؛ قال: ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع عنكم المؤن؟ ألم أعط فقراءكم؟ فقالوا: ما ننقم عليك في أنفسنا لكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله.
ولما قتل وقطع رأسه وجيء به يزيد الناقص؛ نصبه على رمح فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد؛ فقال: بعداً له أشهد أنه كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً ولقد راودني على نفسي. وقال المعافى الجريري: جمعت شيئاً من أخبار الوليد ومن شعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقه وسخافته وما صرح به من الإلحاد في القرآن والكفر بالله. وقال الذهبي: لم يصحّ عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوّط؛ فخرجوا عليه لذلك".
في العصر العبّاسي صارت المثليّة الجنسيّة ممارسة أقرب ما تكون إلى الطبيعيّة. ويبدو أنه ندر أن تفلّت من شراكها خليفة. كان الأمين أوّل من اشتهر بعشيقه كوثر إلى درجة أن قال أحد الشعراء في ذلك، كما أورد الطبري في تاريخه، حوادث عام 135: " قال شاعر من أهل بغداد لمّا رأى تشاغل محمّد بلهوه وبطالته...:
لواط الخليفة أعجـــــــــــــوبة وأعجب منه حــــلاق الوزير
فهذا يدوس، وذاك يــــــداس كذاك لعمري اختلاف الأمور
فلو يستعينا من هـــــذا بذاك لكانا بعـــــــــرضة أمر ستير
ولكن ذا لـــــــــــــجّ في كوثر ولم يشف هذا دعاء الحمير
وأعـــــــجب من ذا وذا أننا نـــــــبايع للطفل فينا الصغير
ومن ليس يحسن غسل استه ولم يخل متنه من حجر طير
فيا ربّ فاقبضهما عاجلــــاً إليك، وأورد عذاب السعير ".
وقال الطبري أيضاً عن محمد الأمين في تاريخه: " لما ملك محمد... طلب الخصيان وابتاعهم وغالى بهم وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه؛ وفرض لهم فرضاً سمّاهم الجراديّة، وفرضاً من الحبشان سمّاهم الغرابيّة؛ ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن؛ ففي ذلك يقول بعضهم:
ألا يا مزمن المثوى بــــطوس غريباً ما يفــــادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان بـــــــعلاً تحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل، فـــــــــالشأن فيه وفي بدر، فيالك من جليس
وما العــــــــصمى بشار لديه إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالاً لديه عند محترف الكؤوس
لهم من عمره شطر وشطر يعاقر فيه شراب الخندريس
ومــــــا للغانيات لديه حظ سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقتما فكيف صلاحنا بعد الرئيس ". ( 7: 101-102).
ويورد الطبري أنه " لمّا طال حبس أبي نواس [ من قبل الأمين ]؛ قال في حبسه:
احمدوا الله جــــــــميعاً يــــــا جميع المسلمينا
ثـــــــــمّ قولوا لا تملّوا ربّــــــنا: أبق الأمينا
صيّر الخصيان حتى صيّر الــــــتعنين ديناً
فاقتدى الناس جميعاً بأميـــــــــر المؤمنينا " ( 110:7 )
بل إن ثمة من روى أن أبا نواس كان يتعشّق الخليفة؛ ورد في ديوانه، ص 220: “إنّ أبا نواس كان يشرب مع الأمين، فنشط للسباحة، فلبس ثياب ملّاح، ولبس كوثر مثل ذلك، ووقعا في البركة، فنظر أبو نواس إلى بدن محمد، فرأى ما لم ير مثله؛ وقال: رأيت الفتنة”. أمّا الأبيات التي أباح بها الأمين قتل أبي نواس، فهي تلك التي قالها فيه:
يا قاتل الرجل البريء وغاصباً عـــــزّ الملوك
كيف السبيل للثم ســـا لفتــيك، أو تقبيل فيــك
الله يعلم أنــــــــــــــني أهوى هواك، وأشتهيك
وأصدّ عنك، حذار أن تقع الظنون علـــيّ فيك ". ( ص 220 ).
بالانتقال إلى أخيه وقاتله المأمون، فرغم كثرة ما يحكى عن علاقاته النسائيّة، ثمة أشعار تنسب لهذا الخليفة، تشير في اتجاه المثليّة الجنسيّة. في المرجع الأدبي، المحاضرات، يقال: " نظر المأمون إلى غلام؛ فقال له:ما اسمك؟ قال: لا أدري! فقال: لم أر مثل هذا؛ وأنشد:
تسمّيت لا أدري لأنك لا تدري بما فعل الحبّ المبرّح في صدري " . ( 152:2 ).
المتوكل اشتهر بأنه أكثر من اقتنى من النساء بين كل خلفاء المسلمين. هذا لم يمنع الرجل من امتلاك عشيق، اسمه شاهك. وفي ديارات الشابشتي، يقال: " أن الفتح بن خاقان، كان يعشق شاهك، خادم المتوكّل، واشتهر الأمر فيه حتى بلغه؛ وله فيه أشعار منها:
أشاهك ليلي مذ هجرت طويل وعيني وما بعد الدموع تسيل " ( 4-5 ).
عرف المعتصم بشراء الغلمان. يقول مروج الذهب: “كان المعتصم يحب جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم، فاجتمع له منهم أربعة آلاف، فألبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة”. ( 465:3).
يحيى بن أكثم: المثال الأهم!
انتشرت المثليّة الجنسيّة على ما يبدو زمن العباسيين بشكل لا سابق له في ديار العرب. ومثالنا على ذلك وتقبّل المجتمع للأمر، يحيى بن أكثم: أشهر قاض في زمنه، وقد وردت أخباره في معظم كتب التاريخ والأدب. يقول تاريخ بغداد، على سبيل المثال: “يحيى بن أكثم التميمي القاضي: كان عالماً بالفقه، بصيراًُ بالأحكام، وولاّه [ المأمون ] القضاء ببغداد”. ( 191:14) فهو “أحد الفقهاء” ( 197:14)؛ ويروي ابن منظور أنه كان “قاضي القضاة للمأمون”.( 203:26)؛ ويكمل أنه “أحد أعلام الدنيا، غلب على المأمون... كانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم”. ( 204:26 ). وقد “كان من أئمة أهل العلم، ومن نظر له في كتاب التنبيه، عرف تقدّمه في العلوم ... [ فهو ]أحد أعلام الدنيا، ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره، ولم يستر عن الكبير و الصغير من الناس فضله وعلمه، دراسته وسياسته لأمره، وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك... [كان] واسع العلم بالفقه، كثير الأدب، حسن العارضة، قائم بكل معضلة، وغلب على المأمون، حتى لم يتقدّمه أحد عنده من الناس جميعاً. وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه، حتى قلّده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته. فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلاّ بعد مطالعة يحيى بن أكثم، ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلاّ يحيى بن أكثم وابن أبي داود... كان يحيى بن أكثم ينتحل مذهب أهل السنّة... [وهو يقول]: القرآن كلام الله، فمن قال إنه مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلاّ ضربت عنقه... [قال عنه أحمد بن حنبل]: ما عرفناه ببدعة... ما عرفت فيه بدعة” .( تاريخ بغداد، 198:14 ).
تروي مراجع كثيرة أنه " مازح المأمون يحيى بن أكثم – وقد مرّ غلام أمرد – فقال: يا يحيى!!! وأومأ إلى الغلام! ما تقول في محرم اصطاد ظبياً؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن هذا لا يحسن بإمام مثلك مع فقيه مثلي! قال: فمن القائل:
قاض يرى الحدّ في الزنا ولا يرى على من يلوط من باس
قال: من عليه لعنة الله! وفي آخر: أوما تعرف من قاله؟ قال: لا! قال: يقول الفاجر أحمد بن أبي نعيم، الذي يقول:
حاكمنا يرتشي، وقاضينا يلوط، والرأس شرّ ما راس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عبّاس
فوجم المأمون، وقال: هذا مزاح قد تضمّن أسماعاً قبيحاً؛ وأنشأ يقول: وهل تصلح الدنيا ويصلح أهلها وقاضي قضاة المسلمين يلوط". ( أنظر على سبيل المثال: ابن منظور 211:26؛ مروج الذهب 22:4؛ تاريخ بغداد 197:14؛ الأغاني 91:18؛ معجم الأدباء 122:11؛ وفيات الأعيان 6: 153-154؛ ثمار القلوب 157-158).
كان ابن أكثم شاعراً؛ من كلامه في المثليّة الصريحة، حين دخل عليه شابّان، "وكانا في نهاية الجمال، فلما رآهما يمشيان في الصحن، أنشأ يقول:
يا زائرينا من الخيام حياكما الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي وليس عندي سوى الكلام
[ يقال إنه ] عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات “( ابن منظور 214:13 ). ويروي المصدر السابق أنه”كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان غلاماً جميلاً متناهي الجمال، فقرص القاضي خدّه، فخجل الغلام واستحيا، وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: اكتب ما أملي عليك!! ثم قال:
أيا قمراً جمـــــشته فتغضبــــــا فأصبح لي من تيهه متجنـــــبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة وتجعل منها فوق خديك عقربا
فتقتل مشتاقا، وتفتن ناسكـــــا وتترك قاضي المسلمين معذبا".
ومن الطرف أنه “استعدى ابن عمّار بن أبي الخصيب يحيى بن أكثم على ورثة أبيه، وكان بارع الجمال؛ فقال له: أيها القاضي، أعدني عليهم!! قال: فمن يعديني أنا على عينيك؟ فهربت به أمه إلى بغداد؛ فقال لها وقد تقدّمت إليه: والله لا أنفذت لكم حكماً أو لتردنّه، فهو أولى بالمطالبة منك”. ( المصدر السابق؛ تاريخ بغداد 195:14؛ وفيات 152:6).
قيل أيضاً إنه “كان يحيى بن أكثم عند الواثق، وعنده غلام أمرد حسن الوجه من غلمان الخليفة واقف بين يديه؛ فأحدّ النظر إليه، فتبسّم، فقال له الواثق: يا يحيى! بحياتي لتبتلنه!! فقال: إني وحياتك منزّه” ( روضة المحبين 214-215 ). أما أخباره مع المأمون فكانت أكثر من أن تحصى؛ قيل “رأى يحيى بن أكثم في دار المأمون جماعة من صباح الغلمان؛ فقال: لولاكم لكنّا مؤمنين!! فرفع ذلك إلى المأمون؛ فعاتبه؛ فقال: إن درسي كان انتهى إلى ههنا”. (محاضرات 109:2).
“قال فضل بن عبّاس: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلى يحيى بن أكثم ومعنا عشر مسائل، فألقى عليه داود خمس مسائل، فأجاب فيها أحسن جواب؛ فلمّا كان في السادسة دخل عليه غلام حسن الوجه، فلما رآه اضطرب في المسألة، ولم يقدر يجيء ولا يذهب؛ فقال داود: قم فإن الرجل قد اختلط!”. ( ابن منظور 213:22؛ سير أعلام النبلاء 10:12).
صار ابن أكثم أمثولة المثليّة الجنسيّة وهو في أعلى سويات القضاء؛ من ذلك ما قاله ابن منظور: “ولّى يحيى بن أكثم ديوان الصدقات على الأضرار فلم يعطهم شيئاً، فطلبوه وطالبوه فلم يعطهم، فاجتمعوا فلما انصرف من جامع الرصافة من مجلس القضاء سألوه وطالبوه؛ فقال: ليس لكم عند أمير المؤمنين شيء! فقالوا: إن وقفنا معك إلى غد تزيدنا على هذا القول شيئاً؟ فقال: لا! فقالوا: لا تفعل يا أبا سعيد! فقال: الحبس! الحبس! فأمر بهم فحبسوا جميعاً، فلمّا كان الليل ضجّوا، فقال: المأمون: ما هذا؟ فقالوا: الأضرار حبسهم يحيى بن أكثم! فقال: لم حبسهم؟ فقالوا: كنّوه فحبسهم! فقال له: حبستهم على أنهم كنّوك!؟ فقال: يا أمير المؤمنين! لم أحبسهم على ذلك، إنما حبستهم على التعريض! قالوا لي: يا أبا سعيد! يعرّضون بشيخ لائط في الخريبة! ( تاريخ بغداد، 14: 194-195؛ أنظر أيضاً: ابن منظور 213:22؛سير الأعلام 10:12)؛ وأيضاً:” كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً شديداً، وكان مفتناً، فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، فإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله. فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكيّ حافظ الحديث، قال: نعم! قال: فما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ... أن عليّاً رجم لوطيّاً! فأمسك فلم يكلّمه بشيء!“( المصدر السابق 14: 194-195). مع ذلك، فقد”كان قد صيّر يحيى بن أكثم في مرتبة أحمد بن أبي داود وخلع عليه خمس خلع“. المصدر السابق.” كان الحسن بن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضياً، وكان عابساً كالحاً؛ فتقدّمت إليه جارية لبعض أهل البصرة، تخاصم في ميراث، وكانت حسنة الوجه، فتبسّم وكلّمها؛ فقال عبد الصمد بن المعذّل في ذلك:
فإن يصبُ قلب العنبري فإنه صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثم “(روضة المحبين 213)؛ و” قال له أحدهم: إن بعض قضاة المسلمين يفعل فعلاً عذّب الله تعالى عليه قوماً“( المصدر السابق 214)؛” قال له أحدهم: أحفظ [ ما يلي ]: شريك عن أبي اسحق عن الحارث أن عليّاً رجم لوطيّاً“. ( المصدر السابق 214؛ أنظر أيضاً: ثمار القلوب 157).” لمّا عزل ابراهيم بن حماد عن البصرة شيّعوه، فقالوا: عففت عن أموالنا ودمائنا! فقال اسماعيل: وعن أبنائكم! يعرّض بيحيى بن أكثم في اللواط " . ( روضة المحبين 213).
ووصل الأمر بأبي نواس أن قال:
" أنا الماجن اللوطي ديني واحــد وإني في كسب المعاصي لراغب
أدين بدين الشيخ يحيى بن أكثم وإنــــي لمن يهوى الزنا لمجانب ".
( محاضرات الأصبهاني 192:2 ).
نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب:
واحد من أهم الكتب التي تناولت الجنس في ذلك الزمان عموماً، والمثليّة الجنسيّة بشكل خاص. مؤلّف الكتاب هو أحمد التيفاشي (1184-1253)، عالم معادن وقانون وإجتماع وفلك وشاعر عربي. ولد في قرية تيفاش الواقعة قرب مدينة قفصة التونسية أيام الدولة الموحدية. درس في قفصة وفي جامع الزيتونة بمدينة تونس كما إرتحل إلى مصر وسوريا بحثا عن العلم. رجع فيما بعد إلى قفصة حيث عين قاضيا قبل أن يعزل من منصبه بعد العثور على خمر في داره. رحل بعدها إلى المشرق حيث تنقل بين مصر وسوريا والعراق وبلاد فارس وأرمينيا. استقر بعدها في مصر وانتصب بها للتدريس حيث تخرج على يده العديد من العلماء. تولى أيضا القضاء كما ولاه الملك الكامل رئاسة دائرة التعدين. قام في مصر بتدوين كتابه الشهير أزهار الأفكار في جواهر الأحجار الذي انتهى من تأليفه عام 1242. توفي بالقاهرة ودفن بها بمقبرة باب النصر.
الكتاب مؤلّف من إثني عشر باباً. الباب السادس منه يتحدّث عن “شروط اللاطة وعلامات المؤاجرين”. والمؤاجر هو الغلام الذي يؤجر نفسه للجنس. والباب السابع مكرّس بالكامل لنوادر أخبار المرد المؤاجرين وملح أشعارهم. وهنا نجد بعض أشعار لابن الرومي، تنقل لنا بأمانة صورة من صور ذلك الزمان:
ومؤاجر عذب الأنام، وقد رأوا من بعد عســـــرته، غزارة ماله
فأجبتهم: مم التعجب، كيــف لا يثرى ودار الضرب في سرواله ( ص 153 ).
وفيه أيضاً: “قال بعض اللاطة: رفعت غلاماً صوفيّاً، فكنت كلما أولجته فيه؛ قال: أستغفر الله! فإذا أخرجته يقول كذلك إلى أن فرغنا؛ فقلت له: لم تفعل ذلك؟ فقال: إدخالك إياه سيئة، وإخراجه سيئة، وقولي أستغفر الله حسنة، وقد قال الله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات. فأقوم وليس علي ذنب” . ( ص 157 ).
الباب الثامن في نوادر أخبار اللاطة وملح أشعارهم. في هذا الباب يذكر التيفاشي أبا حاتم السجستاني وأبا نؤاس ووالبة بن الحباب والأخفش وأبا تمام. الباب التاسع يتناول أدب الدَّبِّ ونوادر أخباره وملح أشعاره. من أطرف ما ورد في هذا الباب: “دبّ غلام على آخر، ففطن له؛ فقال: وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا. فانتظره حتى نام ودبّ له ثانية فأولج فيه؛ فقال: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها”. ( ص 213 ). الباب الحادي عشر أفرده التيفاشي لأدب السحق والمساحقات ونوادر أخبارهن وملح الأشعار فيهن. من أجمل شعر السحاق؛ ما أورده على لسان إحداهن:
" شربت النبيذ لحبّ الغـزل وملت إلى السحق خوف الحبل
فضاجعت في خلوتي حبتي وفـــــقت الرجال بطيب العمل
إذا كان سحقي مقنـــــــــعاً غنيت به ورفضــــــت الرجل " ( ص 244 ).
الباب الثاني عشر يدور حول الخناث والمخنثين وما جاء فيهم من نوادر وأخبار وملح وأشعار. وهذا الباب أقرب ما يكون إلى فيلم إباحي يصعب للغاية الاستشهاد منه بنصوص في مقالة تريد أن تكون رصينة. مع ذلك، يبدو أنهم كانوا يستخدمون هذا النوع من الأدب بالطريقة ذاتها التي تستخدم فيها الأفلام الإباحيّة اليوم. الفارق هنا أن المخيّلة في الأدب تجمح أكثر، في حين أنها محددة في الأفلام الإباحيّة بما تلزم به العين. مع ملاحظة أن كل التفاصيل الإيروتيكيّة في كتاب التيفاشي تدور عموماً ضمن إطار المثليّة الجنسيّة. ولما كان الأدب مرآة الواقع، يمكن لنا أن نعرف إذاً كم كانت المثليّة متفشيّة في تلك الأيام، وكم كانت ردات الفعل عليها طبيعيّة