يحاول أركون في كتابه “نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية” لمحمد أركون، الصادر بالعربية بترجمة وتقديم هاشم صالح بعد بضعة أشهر من وفاة مؤلفه، الإسهام في وضع أساس يأمل مؤلفه أن يمكّن الجيل العربي الجديد من استلهام قيم إسلام حيّ في بيئة ما بعد الحداثة. إسلام مخلص لروح الإبداع في تراثه الثرّ بقدر ما هو متحرر من أصفاده المتآكلة عبر قرون الانحطاط.
وقبل أن أبدأ، لا بدّ لي، من قبيل الأمانة العلمية من إعلام قارئي العزيز بأنني أنطلق من منظور مسلم مؤمن، يعتمد الحوار العلمي المتجرد، يقبل الاقتباس ويرفض التقليد الذي يقتل أسمى ما يميّز الإنسان، وهو العقل.
سأعرض فصول الكتاب بسرعة، ولكنني سأركز على ما أعتبره مهمّاً من وجهة نظري، مما سيؤدي بالضرورة لإهمال مساحات من الكتاب لعدم توفر الفسحة في هذا النوع من المقالات.
يتألف الكتاب من 431 صفحة من القطع الكبير، موزعة على مقدمة المترجم تتلوها خمسة فصول، ويختتم الكتاب بمقابلتين مع محمد أركون تشكّلان الفصل السادس من الكتاب.
في مقدمة استغرقت 81 صفحة يخبرنا هاشم صالح، الذي ترجم من الفرنسية كل أعمال أركون الموجودة في المكتبة العربية على مرّ السنين، كيف أصرّ أركون على مراجعة هذا الكتاب بنفسه في المستشفى وهو على فراش الموت، شيء لم يفعله قط في الماضي وكيف ألحّ على إلحاق المقابلتين اللتين تشكلان الفصل السادس بالكتاب، وكأنه يعي أن هذا العمل سيكون الأخير.
ثم يروي هاشم صالح في مقدمته قصة نضال محمد أركون طوال عمره بحثاً عن التنوير الإسلامي الذي بدأ بالتفاعل مع الفلسفة الإغريقية في عصر الإسلام الذهبي في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بدأءا بابن مسكويه وأبي حيان التوحيدي الذي أجهز عليه الفقهاء بنجاحٍ قاتل. وبهذا أسدل ستار كثيف اجتث ما يسميه أركون نزعة الأنسنة في الإسلام. اختفى التوتر المبدع بين العقل والنقل وطمس هذا الجانب المضيء من تراثنا حتى نشأت أجيال تتبعها أجيال في قطيعة معرفية تامة مع هذا التراث الثمين. إذاً قطيعة العرب والمسلمين المعرفية، كما يسميها أركون، ليست فقط مع نتاج التنوير الأوروبي ولكن مع شريحة مهمة من تراثهم هم. ويوصي أركون بإعادة كتابة هذا التراث، أو تلخيصه بلغة عربية معاصرة مبسطة وتدريسها في الجامعات والمدارس الثانوية، حتى يفهم الطلاب أنه يوجد في تراثنا تيّار آخر غير الأصولي المتزمّت. بالإضافة إلى تدريس كل ما استجد في ساحة العلم والمعرفة في أوروبا بعد القرن السادس عشر بينما كنا نغط في سبات عثماني عميق.
ويدعو أركون لإرساء سوسيولوجيا النجاح والفشل اعتمادا على الدراسة التحليلية للتاريخ وعلاقته بالفلسفة وتطور الفكر، حتى يتضح لنا مثلاً، لماذا بقي فكر ابن رشد ورقة ميتة في أرض الإسلام وتحول إلى تيار طويل عريض في أوروبا.
يعالج الفصل الأول المسألة الأخلاقية في الفكر الإسلامي. وهذا الفصل، وهو الأطول في الكتاب ( 153صفحة)، هو لبّ الكتاب لأنه يلخص مشروع أركون الذي عاش يدعو إليه حتى آخر لحظة من حياته. يفتتح الفصل بمقطعٍ من مقدمة ابن خلدون يتحدث فيها عن حاجة كل اجتماع بشري لـ“…شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمى بالملك. والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهأ اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين إليهما معاً…”، ويقارن هذا المفهوم التاريخي للجهاد والذي شرعنه أغلب الفقهاء ووظفه الخلفاء لتوسيع دائرة ملكهم وإعادة توجيه أسلحة مناوئيهم إلى عدو خارجي مشترك، يقارنه بمفهوم القديس أوغسطين عن الحرب العادلة (المتوفى عام 430 م). ويستشهد بما نقله جان دانييل في نوفيل أوبسرفاتور في افتتاحيتها 24/01/2002 عن المجمع الكنسي المنعقد في تروا:…“ينبغي العلم أنه إذا ما قَتَل المرء شخصاً آخر من أجل المسيح أو إذا ما قُتِل من أجله فإن ذلك ليس عملاً إجرامياً على الإطلاق…نعم إن الحياة طيبة، والانتصار مجيد، لكن الموت المقدس في سبيل الله أفضل من ذلك بكثير…ليس فقط يتلقى الموت من دون وجل، وإنما يرغبه ويشتهيه كذروة السعادة ويتلقاه بكل تقى وخشوع”… ثم يقتطف الآية الرابعة من سورة براءة والتي أصبحت، مع الأسف الشديد أشهر آيات القرآن شهرة بعد جريمة 11 أيلول المروعة التي اقترفتها القاعدة… فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (9:5) . وكنت أتمنى لو أنه انتهز الفرصة ليضعها في سياقها التاريخي المحدود ويربطها بما قبلها وما بعدها، ولو في الحاشية ولكنني أتفهم أن هذا ليس موضوع الكتاب.
بالنسبة لأركون مشكلة الإسلام والمسيحية، وهما دينان تبشيريان، بخلاف اليهودية التي لا تؤمن بالتبشير، أنهما يعتقدان بوجود دين حق واحد هو الإسلام بالنسبة للمسلمين والمسيحية بالنسبة للمسيحيين. ولكنني شخصياً أعتقد أنّ قراءة جديدة للقرآن ضمن منظور قرآني خالص وبالاستعانة بالآيات الأخرى التي تعالج نفس الموضوع يمكن أن تبلور صورة مختلفة تماماً. حيث يدعو القرآن سامعيه إلى الإسلام لله-دين إبراهيم حسب القرآن. ويدعو القرآن أهل الكتاب لإخلاص التوحيد واتباع ما أنزل إليهم. وأحب أن أضيف أن القرآن في الآية من 62 سورة البقرة مثلاً يعلن بوضوح يصعب التعتيم عليه أنّ “الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ”. إذاً، برأيي، أنه لو قرأ المسلمون المعاصرون القرآن بجدية من جديد متحررين من إسار الماضي لوجدوا أنفسهم في حالة نضالٍ دائم مع غيرهم من الموحدين من بني الإنسان. فالإيمان الأساس هو بالله أولاً وآخراً مع ما ينجم عن التوحيد من نتائج أخلاقية يحاسب الإنسان على سعيه فيها مثل العدالة والحرية، وباختصار كل ما توصل إليه وأطلق عليه اسم حقوق الإنسان. قد يعترض البعض أنني أقرأ أفكاراً جديدة كانت تعتبر من اللامفكر فيه (كما يقول أركون)، وهذا متوقع من إنسان يعيش في القرن الواحد والعشرين مستفيداً من كل الاكتشافات التي تحققت فالحكمة ضالّة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها، لا يبالي من أي وعاءٍ خرجت كما يقول الحديث الشريف. وليس هنا مجال التفصيل في هذا. إذاً برأيي يمكن، بل يجب الخروج من معضلة توهم تجسيم المطلق في مجموعة من الناس إلى وعي أن الحقيقة كالشمس، لا يمتلكها أحد، وإن كان من الطبيعي أن يعتقد كل إنسان بحث عنها أن أسلوبه هو الأصوب، وهذا ينطبق على كل مناحي الفكر الإنساني. وأزعم أن هذا متحصل من قراءة القرآن قراءة متحررة من أصفاد الماضي. وقد يكمن هنا أحد أوجه الخلاف بين الأكاديمي مؤمناً كان أم لا، والمؤمن العقلاني الذي ينظر إلى القرآن ككتاب حيّ، يرفض تسليمه لتقاليد الفكر الميت. أما على الجانب المسيحي فيمكن الاعتماد على نتاج الكثير من المفكرين البروتستانت وحتى الكاثوليك الذين تجاوزوا “فاتيكان 2” بمراحل، بغض النظر عن موقف الكنيسة الكاثوليكية الرسمي.
وتحت عنوان “مصادر الأخلاق: الدين، الفلسفة، الثورات العلمية”، ومازلنا في الفصل الأوّل، يذكرنا المؤلف بمصدري الأخلاق المتنافسين تارةً والمتعاونين تارةً أخرى: الدين والفلسفة، قبل أن تنضم إليهما الثورات العلمية طارحةً أسئلةً قصرت دونها مخيلة الأجداد بل وكثير من المُحدَثين المسبوتين. يذكرنا أركون أن الفكر الأخلاقي وثقاقة الأخلاق اختفيا عن الساحة الإسلامية منذ عهد ابن مسكويه في القرن الحادي عشر الميلادي عندما هزمت الفلسفة، بينما تصاعدت قوة الفلسفة بعد عودة أرسطو إلى أوروبا عن طريق ابن رشد ومنه إلى القديس توما الإكويني قبل أن تستقل الفلسفة عن الدين نهائياً في عصر التنوير. وهنا أود أن أضيف أنه توجد جهود معتبرة، على الأقل في مجال بحوث الأخلاق المتعلقة بالطب في الحقل الإسلامي منذ أكثر من ثلاثين عاماً ليس فقط على مستوى المؤتمرات والندوات(مثل الجمعية الطبية الإسلامية في أمريكا الشماليةIMANA ، والجمعية الإسلامية في شمال أمريكا ISNA ، وغيرهما في أوروبا) ولكن على صعيد ما نشر أيضاً (ككتاب لحسان حتحوت عام 1982، ومحاضرات عديدة). ويذكرنا المؤلف بأن الإسلام المعاصر يعاني من قطيعتين: واحدة مع فتوحاته الفكرية السابقة وأخرى مع فتوحات الحداثة الأوربية منذ القرن السادس عشر. ويسترجع أركون بأسىً كيف تفاقمت الأمور بعد الاستقلال في الدول العربية، حيث ساد الحزب الواحد والأيديولوجية الواحدة، سواء باسم أصولية علمانية بلا ديموقراطية فاقدت للروح، أو إسلاموية محافظة ميتة. وعندما ولدت في هذه البيئة المريضة أصولية عمياء متناسبة مع هذا الوسط، لجأت الأنظمة إلى تغذية حركات صوفية أو سلفية في محاولة لاجتثاث أية مقاومة مما زاد الطين بلة. ويسمي أركون السلاح الذي يستخدمه الأصوليون السلفيون المتزمتون ضد العلمانيين المتزمتين (بخلاف العلمانيين المنفتحين) بـ“جدار الجهل المقدس”، أو الـ“جدار المرسخ مؤسساتياً” في مواجهة “جدار العلمانية المتطرفة”. وجدار الجهل المرسخ مؤسساتياً هذا والذي يعامل، مع الأسف معاملة اليقينيات الإيمانية، ما هو في الحقيقة إلا نتاج الفاعلين الاجتماعيين عبر العصور. ويدعو أركون لإدخال التحليل الألسني-الدلالي-السيميائي لكل أنماط الخطاب الديني وغير الديني في الجامعات العربية، وأنا أوافقه في هذا، إذ أنه كلما ازدادت أدواتنا غنىً وتنويعاً كلما ازدادت قدرتنا على الاغتناء من نصوصنا التأسيسية، شريطة أن لا نقع في مطب الأحادية في التفكير، ونتعصب للون واحد من الأدوات! ثم يعترض أركون على استخدام القرآن لأسلوب “التعبيرالقصصي المجازي” لمعالجة الأخلاق بدلاً من “خطاب عقلاني أرسطوطاليسي”! وأجد ذلك الاعتراض غريباً جداً، فنحن نتناول فترة نزول القرآن وهي كما هو معلوم تسبق ترجمة أرسطو إلى العربية بنحو 200 عاماً على الأقل، كما أن البيئة في شبه الجزيرة العربية كانت بيئة ثقافة شفوية تعتمد، كما كانت الحال في الثقافات المشابهة، مثل يونان هوميروس مثلاً، على الشعر لتداول الثقافة، ولعل القارئ الكريم يذكر أن اللغة الأولى لفلاسفة اليونان الأوائل في عهد هوميروس كانت شعرية. ولعل هذا ما يفسر أسلوب القرآن الذي كان متميزاً بأسلوب أدبي بين الشعر والنثر. إذاً، وبالاستعارة من محمد أركون: كان أرسطو من اللامفكر به، أو المستحيل التفكير به بالنسبة للعرب. وتحضرني حيرة ابن رشد في القرن الثاني عشر الميلادي والذي تساءل عن سبب استخدام القرآن المتكرر للأسلوب الخطابي والجدلي، بينما يلجأ إلى الخطاب البرهاني بنسبة أقل بكثير. كان هذا محيراً لابن رشد، وهو المسلم المؤمن والأرسطوطاليسي الملتزم، الذي لا يرى فيما سوى الخطاب البرهاني ما يستحق الأخذ بجدية: كيف لا يكون كلام الله المنزل برهانياً خالصاً؟ (انظر في “كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، والملحق بها الرسالة المسماة الضميمة” لابن رشد). ثم توصل ابن رشد إلى أن القرآن يخاطب كل الناس، ومعظمهم من العوام الذين لا يفهمون الخطاب الفلسفي، وهكذا يستطيع القرآن أن يخاطب الكل وكل يجد ضالته فيه. إذاً أرى أنه واجب المسلمين الذين يأخذون القرآن على محمل الجد في حياتهم أن يقوموا بصياغة مفاهيم القرآن بالطريقة المناسبة لعصرهم وثقافتهم، ليغني ذلك حياة المؤمنين اليومية في تدبرهم لآياته والاستمتاع بقوته الروحية والجمالية لدى تلاوته. ثم يشن أركون حملةً على مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستشهداً بكتاب مايكل كوك، وخلاصة الأمر الاعتراض مجدداً على الأسلوب القصصي المبسط الذي يتواصل مع الجماهير، ويورد أركون على لسان كوك روايةً عن المأمون كمثلٍ عن الحاكم المستنير وكيف تحاور مع ناصحه مستخدماً أسلوب التوليد السقراطي، بدلاً من قطع الرأس كما فعل أبو مسلم الخراساني من قبل. وينتهي المقطع بالتأسف على محنة المعتزلة، والتي كانت بلا شك مصيبةً لا يزال العقل العربي يعاني من آثارها المدمرة حتى اليوم، ولكن الخطأ الذي وقع فيه كوك وأركون، ويقع فيه الكثيرون منا هو أن نقرأ التاريخ دون مقاومة نزعتنا الفطرية للتعاطف، بل والتحزب لمن تعجبنا أفكارهم، كالمعتزلة في هذا المقام، ثم نسقط عليهم مفاهيمنا الحداثية فنتخيل أن عقلانيتهم مثل عقلانيتنا في القرن الواحد والعشرين، متعامين بغير قصد عن الحدث التاريخي. فننسى مثلاً أن المأمون المتنور كان ديكتاتوراً متنوراً وقع فيما يمكن أن يقع فيه أي ديكتاتور، حيث أراد أن يفرض أفكاره العقلانية بالقوة على الجماهير(أليس هذا هجوماً على كرامة العقل نفسه؟)، مما سهل على القوى المعادية للعقلانية مهمتها، بل ربما كان هذا ما جعل مأساة القمع المضاد للعقلانية فيما عرف بمحنة المعتزلة ممكناً وفتاكاً في الوقت نفسه. أعود لمفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المهاجَم هنا لأقول أن المشكلة برأيي ليست في الخطاب القرآني الذي كلم العرب بلغة يفهمها عوامهم في مجتمع قروسطي تجاري بين الحضارة والبداوة، ولكنها في أولئك الذين يصرون على الدعوة المستحيلة إلى أخلاق البداوة أو الحضارة القروسطية من أجل الحفاظ على قالبٍ بالٍ وغير واقعي من إسلامٍ متحفي (كثير من السلفيين)، أو مثقفين تقاعسوا عن مهمتهم الصعبة في قراءة التراث مستفيدين من كل الأدوات الحديثة لفتح آفاقٍ جديدة. ولاشك أن أركون عاش حياته يدعو إلى ذلك، كما ينطق مجمل كتابه هذا، ولكنني لم أستطع أن أضرب صفحاً عما ظهر لي أنه مناقض لرسالة الكتاب.
ثم يعرض علينا أركون خطته المقترحة لهدم السياج العقائدي الديني الإسلامي من جهة والسياج العقائدي الغربي من جهة أخرى كعملية متكاملة معتمداً على:
- التمييز بين ما يسميه أركون “الحدث الإسلامي” (كظاهرة انبثقت فجأة في التاريخ دون أن تكون معروفة مسبقاُ، وبين الدين الإسلامي الذي يمثل استمرارية لهذا الحدث وطور على يد أجيال متلاحقة من المسلمين.
- إخضاع هذا “الحدث الإسلامي” نفسه لتحديات الحداثة، مع مدّ المسلمات المؤسسة للإيمان الإسلامي لكي تشمل مضامين الإيمان اليهودي والمسيحي، وهنا يدعو أركون الغرب إلى الكف عن فصل الدراسات الاستشراقية عن الدراسات الغربية وتطبيق مناهج علوم الإنسان والاجتماع على جميع الدراسات والشعوب. وبنظر أركون فإن هذا التفاعل الجديد لن ينقذ الدين من سياج الثوابت الجامدة فحسب، ولكنه سيخلص الحداثة نفسها من سياج توهمها أنها نظام الحقيقة الوحيد والمطلق. وهكذا يتخلص العالم الإسلامي، برأي أركون من وهم الاعتقاد أن مشاكلهم ستحل دفعة واحدة إذا طبقت يقينياتهم الموروثة، ويتواضع الغرب في تبشيره المتنطع بمكاسب الحداثة.
وينتقد أركون فقهاء الأديان الثلاثة لأنهم يتحدثون في خطابهم مباشرة عن كلام الله أو الوحي، دون الكشف عن المسلمات المسبقة التي ينطلقون منها، ويرى أن تحليل الخطاب على الطريقة الألسنية والسيميائية الحديثة سينجح في تسليط الضوء على مدى متانة، أو ضعف العلاقة بين ما يقوله الفقهاء عن النص وما يقوله النص عن نفسه. وهذه برأيي فكرة مهمة جداً، إذا استثمرت وسائل التحليل الحديثة كإضافة ثمينة إلى الوسائل التقليدية. وأنا متفق مع أركون بلا تردد أن هذا لن يؤدي إلى تدمير الإسلام، وإن أدى إلى إعادة النظر في بعض التفسيرات التي قد تتهاوى، ولكن أليست هذه روح التجديد المأمول، والذي فشل في بداية القرن العشرين لأنه كان خجولاً بشكل مفرط؟
ثم يعدد أركون 11 بنداً يعتبرها المسلمات العقائدية الأساسية للاعتقاد الإسلامي ممهداً لبيان كيف يحب أن يتعامل معها لإحراز تقدم في مشروعه الإصلاحي:
1. كلم الله البشر لآخر مرة عن طريق محمد (ص)، كما كان قد فعل مع الأنبياء السابقين وخاصة إبراهيم، وموسى، وعيسى (ص)
2. الكلام الذي أوصله الله شفهياً إلى محمد (ص) حفظ في الذاكرة ودون في حياة الرسول ثم جمع في حياة عثمان. (والواقع، والكلام لي هنا، أن الرواية الشائعة والمعتمدة بين علماء المسلمين هو أن القرآن جمع في عهد أبي بكر، وإن كانت الرواية المتناقلة أكثر لدى المستشرقين أنه جمع لأول مرة في عهد عثمان).
3. المصحف هو ذلك الكتاب الذي يحتوي على مجمل العبارات اللغوية التي تشكل الوحي، مدوناً بالصيغة الكتابية التي كانت شائعة في القرن السابع الميلادي، وأغلق النص بعد 300 عام، ولم يعد يمكن أن يضاف عليه أو ينقص منه، وقد احتج الشيعة على النص في البداية، إلا أنهم في النهاية توقفوا عن الممانعة وتبنوه. (كل ما أتى بعد عبارة وأغلق النص…حتى نهاية الفقرة يخالف إجماع الأغلبية الساحقة من علماء المسلمين، ولذا يقع عبء إثبات ذلك على من يخالف هذا الإجماع، ولن أقف عند هذه النقطة في هذا المقال لأنها ليست موضوعنا الرئيسي، ولكن سأكتفي بالتنويه)
4. تابعت كلمات القرآن والتي كانت شفهية في البداية التعبير الحرّ في عن كلام الله الأزلي.
5. اختار الله اللغة العربية للتعبير عن آخر تجليات وحيه إلى البشرية، ولو لم تكن مقدسة فعلاً لما اختارها الله لإنزال وحيه، ولذا فإن معرفة قواعد اللغة شرط لا بد منه ليرتفع المرء لمرتبة الإمام المجتهد.
6. الفقيه المتكلم، المجتهد، والمستوفي لشروط الاجتهاد هو الوسيط الذي لا بد منه بين كلام الله وأحكام الشريعة التي يستنبطها هذا الفقيه
7. إن شفافية النص القرآني ليست مؤكدة، ولذا فإن تفسيره عرضة للمناقشات الخلافية بين الفقهاء المعترف بأهليتهم
8. يمثل النبي النموذج المثالي الكامل والأعلى الذي على كل مؤمن أن يقلده ويحاكيه
9. انقسمت الأمة المثالية التي تحدث عنها القرآن سريعاً بعد وفاة النبي، وما فتئ يتغذى على مر العصور
10. ساهمت أعمال المؤرخين من كل الطوائف الإسلامية على مر العصور في ترسيخ الانقسامات المذهبية عن طريق الحكايات الأسطورية التي تخلع على كل طائفة هوية أزلية
11. يشهد الإسلام المعاصر علمنة لأمره الواقع في تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية والتي تفككه من الداخل على غفلة من المؤمنين الغارقين في طابع شعائري طقوسي دونما بحث جدي، يعتد به، عن لاهوت نقدي منفتح على التساؤلات الحديثة
وبناءً عليه يؤطر أركون سبعة أركان/نقاط بحث ينبغي أن تبنى عليها العقلية الجديدة المنفتحة برأيه وهي (وسأعلق عليها مباشرة بعد النقطة السابعة):
أولاً: التفكير بالمكانة المعرفية للوحي، أو إعادة التفكير بها من جديد.
ثانياً: التفكير مجدداً بالعلاقة بين الأشياء الثلاثة التالية: “كتاب-قرآن-مصحف”.
ثالثاً: طرح العلاقة بين اللغة والتاريخ والفكر.
رابعاً: العلاقة بين الحالة التأويلية والعقل الديني.
خامساً: العلاقة التبادلية بين الأسطورة والتاريخ والحقيقة، ثم طرح العلاقة التفاعلية بين العامل العقلاني والعامل الخيالي.
سادساً: المقاربة الأنتروبولوجية لمفهوم “التراث الحيّ”.
سابعاً: قراءة جديدة لسورة التوبة / براءة، مما يقودنا لدراسة المثلث الأنتروبولوجي التالي: العنف-التقديس-الحقيقة.
ويقول أركون إن هذه الموضوعات السبعة تستحق أن تعالج في كتاب ينبغي أن يؤلف بشكل ملح وعاجل.
ويبدو لي أن أركون يقصد من وراء النقاط الثلاثة الأولى تعميق ما يذكره في أماكن أخرى متفرقة من الكتاب عن مفهومه للوحي في الأديان التوحيدية الثلاثة، ويكتسب ما يذكره عن فهمه عن الوحي والقرآن في الإسلام أهمية خاصة في هذا المجال كونه يطرح أفكاراً غير شائعة بين الجمهور في الفضاء الثقافي الإسلامي، رغم طرحها منذ سنوات عدة من قبل بعض المستشرقين المعروفين. وهي تتلخص في أن الوحي كان شفهياً، لم يكتب في حياة الرسول، ثم كتب في عهد عثمان، وكانت هناك عدة نسخ مخالفة، مثل مصحف عبد الله بن مسعود، وبأن الاختلاف استمر قروناً حتى وافق الشيعة أخيراً على المصحف الحالي. وليس هنالك متسع هنا لمناقشة علمية لهذا الطرح، ولكن سأكتفي بالقول بأن هذه نظرية يعوزها الدليل. إذ لا يعقل أن يتوقع أحد أن يقبلها المثقفون المسلمون بسهولة لأنها ستكون بمثابة انقلاب على إحدى ثوابت فهم المسلمين لدينهم على مر العصور. ولذلك، وحتى تثبت هذه النظرية، إن قيض لها أن تثبت، فستظل مجرد فكرة في خيال بعض الأكاديميين. ورغم خلافي مع الكتاب حول هذه النقطة، فهذا لا يمنعني شخصياً من تقدير أفكار الكتاب الأخرى بل وتبني بعضها بقوة. فكلام القرآن كلام عربي وهو من اختراع العرب ولم لا نجرب إضافة أدوات التحليل الألسنية الجديدة؟ ألم يطبق أجدادنا قواعد اللغة والبلاغة والتي استحدثت بعد ظهور القرآن بمائة سنة على الأقل في تحليلهم للقرآن؟
الفصل الثاني من الكتاب يحمل عنوان: التفكير في الفضاء المتوسطي الإسلامي. هنا يعرفنا أركون بعملاق معرفي، مسيحي متدين عاش في الفترة بين 1232-1316 م اسمه ريمون لول. وعلى الرغم من كونه مبشراً مسيحياً، إلا أنه كان، كما يخبرنا أركون ذا عقلية منفتحة تقدّر اللغة العربية والإسلام الذي درسه بتعمق، وقام بدراسات فتح المجال فيها أمام انصهار البنى اللغوية العربية واللاتينية. كما أنه كتب قصة أسماها “كتاب الوثني المشرك والحكماء الثلاثة” تعتبر استمرارًا وتوسيعاً لقصة ابن طفيل، “حيّ بن يقظان”. سافر لول مراراً إلى الجزائر وتونس وأجرى الكثير من الحوارات والمناظرات بالعربية مع علماء المسلمين، كما ترجم إلى العربية كتاب “الفن المبدع للحقيقة”. تعرض لول للمضايقة من قبل الفاتيكان فاضطر للجوء من روما إلى جنوة. ويعتبر أركون لول سابقاً لعصره وقد أسيئ فهمه في أوساط عديدة في ذلك الزمان لأن فكرة أنه قد توجد عدة أديان صحيحة، لا دين واحد فقط شكلت اللامفكر فيه، أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة لأناس العصور الوسطى.
ويعرج أركون على تطبيق علم الفيلولوجيا، الذي انطلق في أوروبا منذ القرن السادس عشر، في العالم العربي، فيبدأ بتعريفه كعلم يدرس لغة معينة أو نصوصاً أدبية أو دينية معينة من وجهة نظر تاريخية. وبمعنى آخر تكشف الفيلولوجيا بالضرورة عن تاريخية النصوص المقدسة، أو علاقتها بالتاريخ، أو مشروطيتها التاريخية. ولهذا، والكلام لأركون، يرفضها رجال الدين بشدة ويعتبرونها بمثابة التجديف أو الكفر أو تدنيس المقدسات. ويضرب أركون مثلاً ردّ فعل الكهنة الكاثوليك على رينان(1823-1892) في فرنسا بعد إصداره كتابه عن يسوع المسيح من وجهة نظر تاريخية. كما اصطدم علي عبد الرازق وطه حسين برد فعل عنيف من قبل علماء الدين الأورثدكسيين في مصر في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي عندما حاولا تطبيق المنهجية الفيلولوجية على التراث الإسلامي.
ويعزو أركون فشل الحوارات بين الأديان إلى اتفاق ضمني بين المتحاورين بأن لا يتعرضوا إطلاقاً إلى المسائل الحارقة والأساسية لأن ذلك قد يؤدي بالعقائد الأورتودوكسية الراسخة المتوارثة في الأديان الثلاثة. ويختتم الفصل بالدعوة لكتابة تاريخ حقيقي عميق لمنطقة البحر المتوسط باستخدام الأسلوب العلمي الحديث المتجرد والذي يستفيد من كل اكتشافات الفيلولوجيا والأنتروبولوجيا الفلسفية مما سيسهل بناء علاقات جديدة وحوار مثمر بين الأديان والثقافات على قدم المساواة.
ويتكلم الفصل الثالث عن الوسطاء الثقافيين عن الأديان التوحيدية الثلاثة: ابن رشد، ابن ميمون، وتوما الإكويني. وتأتي أهميتهم في أنهم يتيحون لنا تفهم كيف حصلت عملية التفاعل المفهومي والإبستمولوجي بين نصوص الفكر الإغريقي من جهة ونصوص الاعتقاد الإيماني التوحيدي في الأديان الثلاثة في الفضاء الجغرافي الثقافي المتوسطي، وسنستفيد من دراسة أسباب نجاحهم أو فشلهم داخل أديانهم، أو ما يسميه أركون علم اجتماع الفشل أو النجاح لفكر ما في بيئة وزمان معينين. وهكذا نتمكن من الخروج من كتب التاريخ القديمة التي كرست صورة رائعة عن ديننا على حساب صورة منفرة لأديان الآخرين. ويذكرنا أركون كيف أضحى فكر توما الإكويني سائداً للاهوت الكاثوليكي حتى فاتيكان 2 عام 1962، وكيف بقي ابن ميمون محافظاً على مكانته عند اليهود الذين دخلوا التنوير مع الأوروبيين بينما كان نصيب ابن رشد الذي أهدى أرسطو مرة أخرى ألى أوروبا اللعن والتغييب حتى اليوم في أوساط جموع المسلمين! وينصحنا أركون أن نبدأ دراستنا المقارنة من هنا دون أن نرتهن للماضي.
أما الفصل الرابع فيتناول صورة الآخر والتشكيل المتبادل لهذه الصورة بين الإسلام والغرب. يركز أركون مرة أخرى على إشكالية عدم تعددية الحق في الأديان التوحيدية الثلاثة. ولكن من وجهة نظري ومن خلال تجربتي في الحوار بين الأديان في أمريكا، فإن هذا أمر سهل التجاوز على صعيد المؤمنين الملتزمين حتى بالشكل التقليدي، وضربت مثلاً من القرآن أعلاه، لن أكرره هنا. ويوسع أركون دائرة هذه الإشكالية لتشمل وبحق الغرب العلماني. ويضرب مثلاً على ذلك إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما والحروب غير المتكافئة من قبل الغرب التي تنتهي بلجوء الطرف الأضعف إلى الإرهاب المغذى بالتوظيف السياسي للإسلام. ومن جهة أخرى يستمرّ الفكر الغربي بمجموعه بالإعلان عن كونية قيمه ولكنه في الوقت نفسه يتجاهل الإسلام بينما تتلاعب جهات ودول إسلامية بمفهوم الجهاد مستغلة سور الجهل المقدس. ويعود أركون إلى الإسلام ليشخص السبب الرئيسي لفشل محاولات النهضة في بداية القرن المنصرم مشيراً إلى اكتفائها بالبعد السياسي للدين وإحجامها عن تفكيك الفهم القروسطي للدين وتأويل الدين من منظور يستفيد من كل الاكتشافات الفلسفية الحديثة. وينتقد أركون ممثلي الديانات الثلاثة حين يقتطعون أقساماً من النصوص التي تتكلم عن معاملة الآخر كواحد منا (ما تعورف على تسميته بالقاعدة الذهبية والموجودة في كل الأديان) ويقول أن هذا المفهوم غير تاريخي وكان من اللا مفكر به قبل عصرنا هذا. ولكنني هنا أختلف مع أركون، إذ أن الفرق بين النص الميت والنص الحي هو أن النص الميت محنط في متحف الأكاديميا، بخلاف النص الديني الحي الذي يحق للمؤمن وكل من يأخذه على محمل الجد أن يؤوله ويستنطقه باستمرار، سواء على طريقة أركون أو أية طريقة أخرى قد نتفق أو نختلف مع عمقها أو صلابتها الفلسفية، وهذا ينطبق على كل من يطالب بالتحرر من سلطة التقليد. أليس هذا جانب مهم من العملية الإيمانية الدينية الشخصية، كما هو مهم للعملية الأكاديمية؟
في الفصل الخامس يتكلم أركون عن علاقته الشخصية بالأب يواكيم مبارك والمستشرق الشهير الراحل لويس ماسينيون، وسأترك للقارئ متعة القراءة وأعلق هنا فقط على شرط يعتبره أركون أساسياً لنجاح الحوار بين الأديان برأيه وهو: أن يخرج المسلمون من السياج الدوغمائي المغلق والاجترار لما يدعى الأورثودوكسية وأن يتعاملوا مع الإسلام كتجربة بشرية للإلهي حيث يسبق علم التاريخ علم اللاهوت. ولكن أركون هنا يتجاهل، حقيقة الطبيعة الجدلية لعلاقة الله والإنسان في تكوين الدين. ففي مجال الديانات الإبراهيمية الثلاثة مدار بحثنا، ينعدم الدين إذا حاولنا انتزاع الله منه ويصبح شيئاً آخر تماماً، جثة فلسفية محنطة بلا روح، وسنضطر لتغيير التسمية لنوفر على أنفسنا عناء الشرح لملايين الناس، مسلمين وغير مسلمين ما نقصد بالضبط. أما لو تجاهل المسلمون التاريخ السابق واللاحق للإسلام والأديان الأخرى فسيكون إسلامهم روحاً بلا جسد وهو ما قد يسميه البعض “شبح” وهذا ينطبق على جموع كبيرة من المسلمين في وقتنا الحاضر. ويذكرني هذا بالاختبارات والتي تكلف مليارات الدولارات في المخابر في دول العالم الأول لإيجاد دواء جديد، للسرطان، مثلاً وينجح الدواء في المخبر، ولكن يفشل فشلاً ذريعاً في عالم الحياة الواقعية، فيلقى به جانباً ولا يقول أحد أن الحق على المريض
ويختتم الفصل السادس الكتاب بمقابلتين مع محمد أركون ألحقتا بالكتاب بدون ذكر التاريخ الذي أجريتا فيه.
أحب أن أختم بأنني أقدّر هذا الكتاب رغم خلافي الجذري مع بعض أفكاره. أهميته بنظري تكمن في أنه يشخص المشكلة ويقترح خطة للعمل. وكم كنت أتمنى لو أن محمد أركون لم يكتف بالتشخيص المجرد، بل اقترح علينا أمثلة تسمح لنا بتقييم خطته المثيرة للاهتمام علها تسهم في إخراجنا مما يسميه أركون بحق حالة الانسداد، ولكنه مع الأسف رحل وترك لنا خطة سيحمل مسؤولية اختبارها وتعديلها حسب النتائج المختصون في الألسنيات. ففي نهاية المطاف لن نستطيع الحكم على الطاحون ما لم نجرب طحينها. وبانتظار الطحين، لا بد من القول بتجرد بأن هذا الكتاب يمثل خطوة صغيرة للأمام، والطريق إلى روما، كما يقول المثل تبدأ بخطوة.