المطّلع على تاريخ العلم يجد أن كل علم يلقى الكثير من الاعتراضات والنقد في بداياته، ولكنه لا يلبث أن يثبت نفسه كعلم يستحق اعتلاء عرش أكاديمي معترف به، ومن الأمثلة على ذلك غاليليو عندما بدأ بدراسة أسس الفيزياء المعروفة اليوم بالفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الفلكية (الكوسمولوجيا) وقام بدراسات عديدة حول النواسات والسقوط الحر وغيرها...ولكنه ما وصل إلى حدود الدين والرأي العام حتى تم إعدامه بتهمة الهرطقة......
كما أنه عند ظهور علم ميكانيكا الكم "Quantum Mechanics" فقد لقي الكثير من المعارضة وخاصة أن الفيزيائي العبقري الذي شد إليه انتباه العالم "ألبرت آينشتاين" كان معارضاً بشدة لهذا العلم...ولعلكم تعلمون القليل عن الجدال المشهور بين آينشتاين ونيلز بور الذي كان مؤيداً للنظرية الجديدة ومرحباً بها..لينتهي هذا الجدال في النهاية على يد طالبه النجيب الشاب "فيرنر هايزنبرغ" الذي كان يخوض أيضأ أشبه بجدال مع نظيره الأمبريقي إروين شرودنجر..ولكن في النهاية هذا الجدال أثمر مع كليهما فخرجا بنظريتين عبقريتين ما تزلان حتى الآن محطاً للإعجاب والتقدير.....
والمهم بعد كل هذا التقديم أنه ليس مهماً النقد الموجه لعلم ما عند ظهوره..فهذا النقد مبني معظم الأحيان على عدم فهم الناقدين لحقائق هذا العلم وتجلياته في الحياة.....
والعلم الذي أقصد الحديث عنه هو ما يسمى بالفرينولوجيا "Phrenology" والذي يعد من أكثر العلوم جدلية وتعرضاً للرفض والنقد العلمي والعام، وبالتعريف الفرينولوجيا هي علم فراسة الدماغ أو هي علم دراسة الرابط بين شخصية الإنسان وشكل جمجمته أي ببساطة يمكن للإنسان أن يعرف كل شيء تقريباً عن شخصيتك عن طريق دراسة دقيقة ومفصلة لشكل جمجمتك......
تتألف كلمة الفرينولوجيا "Phrenology" من الكلمة اليونانية "phr?n" وتعني العقل "mind" و "logos" وتعني المعرفة "knowledge" وبهذا تكون الترجمة الحرفية لها "المعرفة العقلية".
بداية هذا العلم وأساسه يرجع كمعظم العلوم للفيلسوف العظيم أرسطو الذي بدأ بمجرد بعض الملاحظات والتعليقات ذات المصدر الحدسي عن أن لشكل الرأس علاقة بشخصية الإنسان.....وبعد أرسطو ينقطع البحث العلمي في هذا العلم ويقتصر الأمر على العرافين والوسطاء الروحيين الذين انتشروا بشكل كبير في أوروبا في العصور الوسطى.....وأول دراسة علمية يمكننا وضعها تحت اسم الفرينولوجيا هي التي قام بها الكاتب والفيلسوف واللاهوتي السويسري جوهان لافاتر (1741-1801) والذي قام بنشر عدة مقالات في ما سماه وقتها "physiognomy" أو -علم دراسة الوجوه- ولكنه بالطبع لاقى معارضة شديدة من العامة وبقي لافاتر يعتبر كشاعراً ومؤلفاً وفيلسوفاً ولا علاقة له بالعلم......
ولكن المؤسس الحقيقي للفرينولوجيا والذي أطلق عليها هذه التسمية هو الطبيب وعالم التشريح الألماني فرانز غول (1758-1828)، كان غول أول من اكتشف المادة البيضاء والمادة الرمادية في الدماغ وعرف كل منهما ووضح الفرق بينهما في أماكن التوضع والتركيب...كما أنه مكتشف الحبل الشوكي وأول من وضع شرحاً أساسياً لتركيبه وأجزائه، أوضح غول بعدة تجارب بأن لشكل الجمجمة علاقة بالتوزيع لما سماه "الملكات الفكرية" للإنسان من حب وعطف وما إلى ذلك (سنأتي لذكرهم لاحقاً)، وقد أثبت الطب التشريحي على يد الجراح الفرنسي بول بروكا عام 1861 أن هناك تخصصاً في الوظائف في الدماغ بحسب الموقع، أي أنه لكل مكان في الدماغ وظيفة محددة أو على حد تعبير غول "ملكة فكرية" مخصصة ولكن لم يثبت أن لشكل الجمجمة علاقة بهذه الملكات الفكرية، وعلى يد غول وضعت قواعد علم الفينولوجيا كما أسبقنا والتي يمكن تلخيصها بالآتي:
-الملكات الفكرية للإنسان تولد معه "فطرية"، وتدريبها والقدرة على إظهارها تعتمد على التنظيم والتدريب الدائم لها: فمثلاً أنا أعزف على آلة الكمان، في الفرينولوجيا أنا منذ صغري ولدت مزوداً بقابلية للعزف على الكمان "هذا باعتبار أنني عازف على حد التعبير العام -موهوب-" ولكن أنا لا أستطيع إظهار هذه القابلية إلا بالتدريب على العزف، أما في علم الأعصاب المعاصر فإن نظريات كهذه غير مأخوذ بها فالدماغ بنظره عبارة عن مادة خام لها القابلية على التدريب على كل شيء في أي وقت، وامتلاك القدرات والمهارات يعتمد بشكل أساسي على التراكمات المعرفية التي يحتويها عقل الإنسان نتيجة التدريب المتواصل.
-أن الدماغ هو مركز النزعات لطبيعية أو الميول ومركز العاطفة والوجدان ومركز ما سميناه الملكات الفكرية، أي أن الفرينولوجيا قامت بنفي أي تأثير للطبيعة على الإنسان وبأن الفطرة هي الخالق لكل ما يعتري الإنسان من عواطف. كما اعتبرت بأن لكل عاطفة أو ملكة فكرية مكان معين في الدماغ يعبر كبر حجم هذه المنطقة أو صغرها أو شكلها الخارجي على المقدرة العامة للشخصية على التمتع بهذا العاطفة.
صورة
هذه الصورة توضح ما يسميه علماء الفرينولوجيا "mental faculties" أو الملكات الفكرية.
تابع علماء الفرينولوجيا دراساتهم رغم الضغوط التي قام بها المجتمع الدولي على علمهم، ومن أهم علماء الفرينولوجيا في القرن العشرين الطبيب النفسي البرطاني المشهور بيرنارد هولاندر (1864-1934)، الذي كتب العديد من الكتب في علم الفرينولوجيا متيحاً مجالاً أكبر للأجيال الصاعدة بالتعرف على هذا العلم دون أي تأثير خارجي من معارضي هذا العلم، ومن أهم كتبه "Scientific Phrenology (1902)" الذي يعتبر مرجعاً ضخماً يضم مواقع الملكات الفكرية المعتمدة والتي عددها وقتها نحو 32 ملكة فكرية، كما تضمن شروحاً حول خصائص هذه الملكات ومؤثراتها بشكل مجتمع على الشخصية الفردية للإنسان.
كما قام البروفيسور البلجيكي بول بوتس (1900-1999) بدراسة معمقة حول الفرينولوجيا من خلفية تربوية، حيث أظهر آثار التربية أيضاً في تكوين الملكات الفكرية للفرد، ويعتبر بوتس ذو فضل كبير على علم الفرينولوجيا لإسهاماته الغير محدودة فيه، والتي أدت إلى انتشار هذا العلم في بلجيكا والبرازيل وكندا وتقديم الاحترام له من قبل الوسط العام.
في عام 1983 أنشأ بيتر كوبر ما يسمى بـ "The London Phrenology Company" التي اعتبرت المصدر والمكان الرئيسي للذين يهتمون بالفرينولوجيا، حيث تقدم لهم هذه الشركة كل ما يحتاجونه من أدوات وتماثيل فرينولوجية ومعلومات وكتب حول هذا العلم.
أخيراً من الجدير بالذكر أن الحكومات الفاشية كحكومة الرايخ في ألمانيا التي كانت بقيادة الدكتاتور هتلر استخدمت بعض مفاهيم علم تشكيل الوجوه والجماجم للمساعدة في الفصل العرقي للآريين عن غيرهم من الشعوب، وهذا ما أعطى صورة سيئة لهذا العلم على النطاق العام، ولكن مع هذا يظل علم الفينولوجيا في بداياته ولا زلنا لا نعلم ما إذا كان سوف ينجح أم لا أو هل سيعتلي هذا العلم عرش الأكاديمية العلمية وسيعترف به من قبل المجتمع الدولي والعلمي أم سيبقى منبوذاً، أم سوف يثبت خطؤه بشكل تام؟؟؟؟؟
......................................................................................................................
يمكن للقارئ المهتم أن يتابع الحوار بيني وبين أحد المختصين في الأمر:
الفرينولوجيا بين الاتهام بالشعوذة وامتياز ا