أحيانا، حين يتم طرح مسائل من مثل النقد والإبداع، يٌخيّل للقارئ أو للسامع أو للمتابع أن الحديث يدور حول اللفت والطماطم والبقدنوس، من فرط التعميم والتعويم و“التفشليم”... يا سادة الإبداع نادر ندرة النقد أو أشدّ؟ ثم هل حقا ثمة نقد وثمة إبداع؟ تسميتان لجزيرتين مفصولتين متباعدتين يلزمهما الطائرات والقطارات السريعة للوصول إليهما أو للوصل بينهما؟ ثم ماذا إن اكتشفنا أن الإبداع تسمية تجري على النصوص السردية التخييلية والنصوص النظرية التحليلية بلا أدنى تمييز؟ أي أن النقد، أو ما يُسمى نقدا، هو الآخر إبداع، هو واقع حين يستكمل الواقع وقوعه ويشرف على من يقوله. النقد حين يكون نقودا للواقع ويخلّصه، أي يدفع له أو يدافع عنه. أو يُخلص لمهمته وينهض بأعبائها على أكمل وجه، مجترحا لها ما به تكون في ذرى المعرفة، سالكا مسالك غير معهودة ولا مكرورة، ناحتا مفاهيمه ومصطلحاته وأدواته، صاقلا لغته، مقيما في الحيرة والبحث والمراجعة، طارحا ما لم يخطر على بال المدارس والمناهج والتيارات، ألا يكون بذلك النقد من صميم الإبداع؟
في الإبداع ولدى المبدعين ليس هناك نقد من جهة يخاطب إبداعا في الضفة الأخرى، أو إبداعا ذليلا يستجدي نقدا متمنعا عويصا، كما هو حال الكثير من النصوص والكثير من أصحاب النصوص، من الكتبة ومن أشباه اللصوص، وإنما هو إبداع يخاطب إبداعا فيتضافران ويشرقان، فتترقرق المعاني ويزدهر الفكر وتنساب جدائل الإبداع لتنتعش الروح ويضوع شذى الريحان، وتتوسّع الآفاق وتبرق العيون في الأحداق.
نحن هنا بصدد الإبداع. لسنا بصدد الرواية ولا القصيدة ولا المسرحية ولا الأغنية ولا... كما لسنا بصدد ما يكتب عن مثل هذه الأصناف والأجناس، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحوز صفة إبداع لمجرد كونها انتسبت، أو نسبت نفسها، إلى جنس أو صنف من تلك الأجناس والأصناف... وإلاّ صار الإبداع حمارا قصيرا يركبه كل من هبّ ودبّ، حتّى وإن هبّ ودبّ بلا حنكة ولا ذوق ولا أدب.
كم عندنا من مبدع في الشعر طيلة التاريخ العربي ومنه الإسلامي؟
كم عندنا من متنبي وعنترة وأبي تمام وشيرازي ... كم عندنا من درويش ومن أدونيس ومن الماغوط؟ كم؟
كم عندنا في النقد من الجرجاني وحازم القرطاجني ... كم عندنا من ناقد معاصر في حجم النقاد المبدعين؟ هنا لا أظفر بأي اسم من فرط جهلي وجهالتي، طبعا!!
ماذا نسمي تدوروف أو رولان بارت أو جاكوبسون... أليسوا مبدعين وهم يقيمون على الربى ذاتها التي يسكنها الجاحظ ودوستويفسكي ومحفوظ وهيغو وماركيز وكل الكبار الآخرين من عرب وعجم ومن كل اللغات والخيالات والأجناس والألوان والأديان وغير الأديان؟؟
—
أعرف شخصا في حومتنا (حارتنا!) الأدبية الصحفية حين تبادره بتحية صباح الخير يهتف في وجهك مبتهجا: أبدعت والله أبدعت... لعل الإبداع الذي يكثر الحديث عنه عندنا هو من قبيل هذه التحايا الصباحية التي لا خير فيها من فرط تبذيرها للخير بلا أي رصيد، رغم تفاؤلنا الصباحي بها، لمن كان له صباح!
—
من المستحيل تقريبا، وفي الغالب الأعم بدون تقريب، أن تجد سلفيا دينيا أو غير ديني يدعو للإبداع ولحرية الإبداع، وخصوصا الأصوليين منهم. الإبداع في النص وفي قراءة النص وفي الصياغات اللامتناهية للنص، مهما كان جنس النص. الإبداع في الواقع وفي قراءة الواقع وفي الفعل في الواقع والتصرّف فيه وخلقه على أشكال بلا مثيل. وهنا تحضر تلك المقابلات السخيفة بين النص والواقع وفقه العبادات والمعاملات وقضايا التنزيل. وكأن العبادات ليست معاملات يعامل بها وفيها الإنسان خالقه أو خليفة خالقه. وكأن المعاملات ليست عبادات يسفر فيها الباطن عن الظاهر، ويكون فيها الخالق خُلُقا يتنزّل فيما هو فعل بشري. كأن العبادات من جنس الإبداع وكأن المعاملات من جنس النقد. جزيرتان منفصلتان لا سبيل للوصل بينهما أو للوصول، ولا مصالحة بينهما ولا خير فيهما. كأن الواقع في ذلك بدع وكأن العبادات إبداعات. مع أن المنطق السليم أو العليل يرشدنا إلى أن العبادة هي واقع والواقع هو عبادة، وفي الجوهر من المسألة تندفع إلى وجوهنا البدعة التي هي الأخرى أم الإبداع متنكرة لغويا، فنشيح وجوهنا، ونمضي إلى معهودنا وأعرافنا ومألوفنا.
لا ننسى أن الإبداع بدعة وكل بدعة هي للنار، حسب صريح المنطوق الديني أو الفني الجامد المتداول وكل منطوق سلطوي. (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور... كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار... حسب الرائج الفقهي الإسلامي... وقال عليه الصلاة والسلام: “وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة” [رواه الإمام أحمد في “مسنده” (4/126، 127)، ورواه أبو داود في “سننه” (4/200)، ورواه الترمذي في “سننه” (7/319، 320)؛ كلهم من حديث العرباض بن سارية).
محمد العظيم عليه صلاتي وسلامي، وكل الصلاة والسلام في دنيا المؤمنين، كان مبدعا فذا لا يضاهى، كم أشفق عليه وكم أحبّه وكم أتعلّم منه؟ وهل ثمة مبدع غير بشري، بما يعتري البشر من أحوال وظروف، مهما كانت قسوتها ورقتها؟ أعرف، تقريبا، ما سبّبه للديانة اليهودية وللديانة المسيحية، ولمعتنقي تلكما الديانتين، من التحديات ومن المحن، وتبعا من فتنة لليهود وللمسيحيين، من فرط ما كان مصدّقا ومهيمنا لما بين أيديهما. والتصديق هنا والهيمنة هما أسّ الإبداع بلا منازع.
إبداع بلا تصديق ولا هيمنة إنما هو في مهبّ الريح، أي لن يكون إبداعا ولن يسمح له بذلك كونيا، بمشيئة صاحب الكون وسننه. فالطبيعة لها قوانينها، سننها، كما للشرائع، دينا كانت أو اجتماعا أو ثقافة أو اقتصادا أو جنسا، أو كل ما يمت للغات بصلة.
بإمكان ثقافتنا الخائفة، أو المؤمنة القنوعة والتي بلا همّة، أن تسمّي محمدا نبيا ورسولا وخاتما للرسل والرسالات، لكن هل بإمكانها أن تسمّيه مبدعا في الدين والأديان وفاعلا في الواقع والتاريخ والإنسان؟
ذلك مستحيل ثقافة خائفة لإسلام لا ينظر إلاّ للوراء، مع أن مؤسسه نظر دائما لقدّام، بعد أن نظر للوراء وأخبرنا عن الوراء وضاق بالوراء. ضاق بمقولات “وجدنا آباءنا على هذا وإنّا لتابعون”؟
حين تشرع الثقافة الأبواب للإبداع فلن يظل شيء على حاله، وذلك ما تخشاه، بل تخافه خوفا شديدا، كل ثقافة مسكينة مستكينة، يتولى حراستها أفراد غلاظ شداد بلا أفئدة يلقى فيها السمع، وهم لا يرحمون، لا يرحمون حتى رموزهم العالية الكبيرة، التي يريدون موتها الأزلي، حتى يظلّون يتنعّمون بالكلام على لسانها.
ذلك لأن الإبداع كيفما قلّبنا النّظر فيه هو انتهاك وخروج عن المعهود ونشدان لما بعد المستقر. والمستقر دوما يدافع عن الاستقرار والركود في النص وفي الواقع. ذهنية التسليم والاستسلام والقناعة والاقتناع تلك هي التي يستهدفها الإبداع. الإبداع من حيث قلب للقناع وتقليب له، وتلاعب بالقناعات والأقنعة، هو أخطر شيء في الدنيا. أي أهم شيء هو الإبداع، كيفما تجلّى. هو المستقبل لمن شاء المستقبل، وهو الحرية لمن شاء الحرية، أما الماضي فهو ملئ بالجثث والقبور، ومليء بالأرواح التي غادرت جثثها وقبورها، لتعلّمنا حرية تجاوز الأجساد. وأما العبودية الإنسانية الحالية فهي لم تبق فينا شيئا أو تكاد.
حقّا، الإبداع مخيف، مخيف جدّا، ويبعث في النفوس الهلع، بما في ذلك نفسي. لأن الإبداع يطلب دائما ومطلقا تغيير الدّين ومقومات الدّين، أكان الدّين سماويا أو أرضيا. وتغيير الوجهة وزاوية النظر، مهما كانت مقدسة أو مدنسة، ولا شيء غير ذلك، لا أقل ولا أكثر، والتغيير لا يعني النكران ولا الجحود، أبدا، ولا الانقلابات العسكرية المسلحة، سواء تمت في الواقع أو في الذهن، بالدماء أو بغير دماء.
أدين بماذا؟ ينصرف إلى ذهني أبيات لابن عربي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وهذا الشعر العميق الشامل والجميل الذي يفي بغرض روح سابقة ودينها الحبيّ العاطفي، لا يفي بغرض روحي الحالية. أي قلب وأي صورة وأي مرعى، وأي غزلان وأي دير وأي رهبان، وأي أوثان، وأي كعبة، وأي ألواح، وأي مصحف، وأي قرآن، وأي حبّ؟
تلك مفردات تخاطب الغرائز القديمة للذاكرة، لكنها ظلت هتافا فرديا لم يتجاوز الملفوظ رغم عمره المديد، وفي أحسن الأحوال هتافا لأفراد معزولين بلا أي قيمة ولا وزن في تحويل الهتاف إلى قناعة وجدانية لدى الشعوب والأمم.
ذلك الشعر الرائع لا يفي بغرضي حقا؟ إنه مجرد تعبير عن نوايا روح شقية بوجودها تطلب التآخي والسلامة. مجرد أشواق قديمة لم تعرف كيف تتأسس فيما ينقذها من زلازل العنف والتحيّز.
وجدانيات جميلة ينقصها معنى ما في ظروفنا الحالية، عدا النوايا الطيبة، تنقصها المواثيق الدولية، وما هو مدني من القوانين الملزمة. وإن شئتم تنقصها ما هو ليبرالية وعلمانية، مع تحفظي على كل ما هو دغمائي وتزمت في كل اللغات والمعاني والسياسيات والدعوات. متى يصبح منجز ابن عربي الإبداعي ثقافة مشتركة لعموم الشعب؟ من سيضطلع بذلك في ظروفنا الذليلة من حزب حاكم وأحزاب راغبة في الحكم ولها لعاب يسيل، ومن أشخاص لا شخصيات لهم؟
أليس ابن عربي في المهبّ؟ بما أنه إبداع؟ هذا في قديم هذا النوع من المسلمين، بما يسمى مسلمين، الحاضرين بيننا اليوم بالتسمية ذاتها وبأقنعة العصر، والذين لا يعترفون بما تم في القديم من توهجات... فما بالك بما يتم في الجديد؟
تجرأ ابن عربي في القديم على مسألتين خطيرتين محرّمتين في الديانة الإسلامية، هما الوصول والحلول، وذلك بعد ختم النبوّة التي كان شعارها لا وصول للإله بعد محمد الذي قابل الإله حين إسرائه ومعراجه، وفق ما يورده الحدث القرآني، ولا حلول للإله في البشر بعد شعب الله المختار ومسيحه الذي اختار وخيّر نفسه من بين الشعب المختار. شعب مختار أنجب إنسانا مختارا، فجاء الإسلام ليصادق على ما تواضعت عليه الأديان التوحيدية من مسائل غير عنصرية، وغير وصولية ولا حلولية. لا أحد من البشر يصل للإله ولا أحد يحلّ فيه الإله. ويخلصها (محمد) من الشرك ومن الوثنية، ويربط دعوته بالحنفية الإبراهيمية، ويتذكر جدّا منسيا كاد أن يُضحّى به: إسماعيل في مقابل إسرائيل، وهاجر في مقابل سارة. انتصر للمقهور والهامشي في مقابل المركز والمستقر، ومن خلال العربان انتصر لكل بني الإنسان، حسب لحظته التاريخية وما يرتفع بها إلى مطلق الزمان، فيما لو صادف أن توهجت دعوته في عقول نيّرة، تعرف معنى القراءة، التي هي معرفة وحرية، ولا شيء ثالثا لها، وبنى من حيث شاء مركزا ومستقرا، ولم يكن في ذلك ملقيا السمع للنقد والنقاد، لأنه كان هو ناقد أول من حيث هو مبدع بلا مثيل، كأي فعل إبداعي صميم.
وفي ذلك كان ابن عربي معاندا للرسول وللديانة الإسلامية، قال بالوصول وبالحلول، حيث جعل الطريق سالكا بينه وبين الله ولم يكترث بشريعة وبعلامات الطريق... كان ابن عربي شاعرا صميما من شعراء العرب ولم يكن أبو العرب، مع تقديري الكبير لأبي يعرب المرزوقي بصفته مفكرا لا شاعرا، ولم يدّعٍ الشعر، فالشعر الحق رهيب وخطير وأدعى للمودة أو للحيطة من كل تفكير، لأن الشعر تفكير بالغرائز والمشاعر وبما تختزنه اللغة من ذاكرة وإيقاع، وهو بذلك شقيق الأسطورة والدوام، في حين أن الفكر، على جلالة قدره، يمضي ويدور ويأكل ما قبله، دون أمل له في أكل ما بعده، لأن ثمة فكرا آخر في غيب الفكر يتربّص به سيأكله حتما، ويظل يلوكه ويجترّه أبدا. في حين لا شعر يتربص بشعر لكي يسفّهه أو يلغيه. الشعر رغم عدوانيته الصميمة ونزعته الراسخة للقتال هو أخ حميم للشعر.
أختم بالتذكير أن الروائي الروسي الكبير كما جاء في ترجمة أعماله الأدبية الكاملة من قبل الدكتور سامي الدروبي كان يقال عنه في زمنه حسب قفا المجلدات الثمانية عشر في طبعتها العربية الأولى سنة 1967 ( وما أدراك ما 67) عن المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر ودار الكاتب العربي للطباعة والنشر : “إن معاصري دوستويفسكي قد أساءوا فهمه، فأكثرهم لم يشأ أن يرى فيه إلا كاتبا اجتماعيا يدافع عن الفقراء والمذلين المهانين، فإذا عالج مشكلات ما تنفك تزداد عمقا أخذ بعضهم يشهّر به ويصفه بأنه”موهبة مريضة“...”
كل كبار الرسل والنبوات والكتابات والمقولات كان حظهم من الدنيا الإبداع، وكان حظهم من ناس الدنيا، في الغالب الأعم، النكران والجحود. فطوبى للحظوظ الإبداعية الرهيبة.
أما المسلم الراهن الحزين فهو مسلم رهينة لما يعلم ولما لا يعلم!