نشأ التنوير فكرًا وحركةً في سياق انخراط أوروبا “الناهضة” في دينامكية التحديث الديني والفلسفي، ليمثل أسّ الحداثة الفكرية المتحققة أو المأمولة وقاعدتها. وبهذا المعنى فإنّ التنوير صيرورة ومآل وليس بمذهب أو إيديولوجيا. بالطبع، هناك ما يمكن اعتباره مضمون التنوير ولبّه ممثَّليْن في أفكار الحرية والعقلانية والتقدم، لكنّ المقصود هنا هو مشترك إنسانيّ عامّ وليس إرثا خاصا بحضارة فضلا عن قارّة بعينها. فالتنوير لم يكن واحدا ولا موحّدا في أوروبا ذاتها، بل عرف مسارات وتمايزات شتّى في إنكلترا وفرنسا وألمانيا مثلا. هذا أوّلا.
ثانيا: كما أنّ التنوير عرف مآلا “غربيّا” وله امتدادات معاصرة، فقد كانت له إرهاصات وجذور “شرقية” ضاربة من كونفشيوس إلى ابن رشد. وعليه، فالتنوير يختزل في مضمونه الأصيل والعميق خلاصة المسيرة الإنسانية الكبرى والشاملة. وهذا ما لا يتيسّر للأفهام الضيقة والمتعصّبة أن تدركه وتستوعبه. وبالتالي، بروز نزعة التمركز الذاتي في “الغرب” مقابل النزوع إلى الانغلاق والتقوقع في “الشرق”.
ثالثا: فهم التنوير في هذا المنظور الإنسانيّ الشامل لا يعني تمييعه كمفهوم، ولكن ضبطه كنوع من “تربية الجنس البشري” (ليسنج) ضمن ما يمكن أن نعبّر عنه بـ”تعدّد الثقافات” و”وحدة الحضارة”. وبالتالي، يسقط القول بـ”صراع الحضارات” وترّهات أخرى مثل الزعم باستئثار مجتمعات وشعوب بعينها بالحضارة والتقدّم مقابل “بربرية” الآخرين و”تخلّفهم”.
وهذا هو بيت القصيد: لقد تضافرت عوامل شتى لجعل أوروبا الغربية تقع في قلب عملية ميلاد وبناء عالم جديد تميّز أساسا بنزوعه نحو “عالمية” بفعل منطق الرأسمالية الظافرة التي مثلت دينامو ومحرك التاريخ الجديد. وبقدر ما طفح العالم الجديد بعلامات إيجابية تؤشّر على تقدم إنسانيّ حقيقيّ، فعلامات سلبية (الاستعمار بالخصوص) حصرت التقدم المنشود في منطقة الطوبى أو الحلم المجهض.
ولعبت أوهام بعينها دورها الفادح في عملية الحصر أو البلوكاج هذه: وهم فرادة التفوق الأوروبي (المركز) وتفرّده مقابل الآخر (الهامش). وتحوّلت دعوة التنوير ذاتها – في بعض الحالات- إلى إيديولوجيا تبرّر الاستعمار والتسلّط وفرض الوصاية وتشرّع لها. وكان من اللازم أن تنطلق حركات التحرّر الوطني وتنتصر في “الهامش”، وتبرز تيّارات النقد والمراجعة وتترسّخ في “المركز” ليعود الأمل مجدّدا -مع تجدّد فكر التنوير وإعادة بنائه من جديد- في تقدم إنساني شامل وحقيقي وأصيل. وهذا في تقديري رهن بما يلي:
تجاوز نزعات وتيارات ما بعد الحداثة “العدمية” في “المركز” بعد استيعاب مكتسباتها في مجال “النقد الجذري” و”التفكيك البنيوي” و”الحفر الأركيولوجي”… هذه العمليات المخلخلة لمركزية الفكر الغربي “الميتافيزيقية”، وبالتالي التحرّر من عقدة المركز.
التحرّر في “الهامش” من نرجسية السبق الحضاريّ المريضة وأوهام التفوّق الديني المتضخّمة وتجاوز عقدة الذات والآخر، وقبول الانخراط المتواضع في حضارة العصر التي هي مشترك إنسانيّ عامّ على كلّ مجتمع راهن أن يتدبّر طريقة تملكه وتفعيله والمساهمة في تطويره، وبالتالي، التحرّر من سجن الهامش.