mona21 ثـــــــــــــــائر متردد
الجنس : عدد المساهمات : 32 معدل التفوق : 82 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 23/02/2012
| | حديث في راهن ومستقبل الانتفاضة واليسار العربي في مشهد الإسلام السياسي .. غازي الصوراني | |
5/2/2012
عشية الانتفاضات ، وطوال السنوات الماضية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي خصوصا، لاحظنا ظاهرة التراجع والتفكك – الفكري والسياسي والتنظيمي – التي أصابت معظم الأحزاب الشيوعية واليسارية في العالم عموماً وفي البلدان العربية خصوصاً ، وهي ظاهرة عكست إلى حد كبير حالة التبعية الميكانيكية الجامدة للمركز الأممي في موسكو منذ نشأة الاتحاد السوفياتي حتى لحظة الانهيار، إلى جانب هشاشة التكوين الفكري وجموده عند النصوص السوفياتية ، علاوة على ضعف أو غياب الاستقلالية الذاتية لدى أغلبية الأحزاب الشيوعية، وبالتالي ضعف قدراتها الخاصة في تحليل واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، مما أدى إلى تحولها –بدرجات متفاوتة- إلى أحزاب نخبوية من حيث تكوينها الطبقي الداخلي، ومن ثم انعزالها عن قيعان مجتمعاتها وشرائحها العمالية والفلاحية الفقيرة، على الرغم من دورها الطليعي الثوري المتميز في العديد من المحطات التاريخية في مسيرة نضالها الوطني والطبقي خلال الفترة الممتدة بين أربعينيات وثمانينات القرن العشرين، وصمودها المنقطع النظير في المعتقلات والزنازين، الذي ضربوا من خلاله أروع الأمثلة في النضال الباسل والتضحيات الغالية التي قدمتها هذه الأحزاب في صراعها ومواجهتها للاستعمار والإمبريالية والصهيونية والأنظمة الرجعية وأجهزتها الأمنية، لكن عمق التبعية والخضوع السياسي، والفكري، للمركز في موسكو ، أدى إلى تكريس عوامل الجمود فيها ، وإرباكها وإضعاف استقلاليتها ، مما حال بينها وبين ممارسة التفكير النقدي لسلبيات البيروقراطية السوفيتية، وبقيت أسيرة لهذه التبعية حتى لحظة الانهيار التي فاجأت الأحزاب الشيوعية واليسارية العربية ، وأصابتها بالذهول والشعور بالاغتراب والعزلة واليتم ، لذلك كله ، كان من الطبيعي أن تنتشر ظاهرة التفكك والتراجع والارتداد لدى العديد من هذه الأحزاب ما بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي ، في مرحلة يتبدى فيها نضوجاً غير مسبوق للظروف الموضوعية ، المتمثلة في تزايد مظاهر الصراع الطبقي وتراكمات ظلم واضطهاد ومعاناة وكبت واستبداد وقمع الجماهير الشعبية الفقيرة ، بحيث يبدو لي أن هذه الظروف الموضوعية باتت – طوال العقود الأربعة الماضية- تستنجد بالعامل الذاتي / الحزب الثوري الماركسي، لكي يقطف ثمارها عبر دوره الطليعي في توعية وتنظيم الجماهير من أجل تجاوز والغاء مظاهر اضطهادها ومعاناتها ، وفي المقدمة من ذلك تصعيد وتائر النضال الوطني والصراع الطبقي ومقاومة الاستبداد واسقاط أنظمته القائمة. لكن أحزاب وقوى اليسار العربي وقفت عاجزة عن القيام بهذا الدور التاريخي ، على الرغم من أن حاجة الجماهير الشعبية العربية ، لتلبية أهدافها الوطنية وقضاياها المطلبية والديمقراطية هي موضوعياً ، حاجة ملحة طوال العقود الماضية ، أكثر من أي مرحلة سابقة على انهيار الاتحاد السوفيتي ، لكن ضعف وتراجع معظم الأحزاب الشيوعية والقوى اليسارية العربية ، وضعف الوعي الفكري وضحالته وارتداده، بعد أن اخترقته الأفكار الليبرالية الرثة ومظاهر التدين الشكلي والهبوط السياسي، وما رافقها من مظاهر الفوضى الفكرية والانقسامات التنظيمية، أدى إلى تراكم وتفاقم حالة الرخاوة التنظيمية والسياسية، التي ترافقت مع الهبوط الفكري الليبرالي وتراجع الهوية الماركسية أو التخلي عنها لدى البعض، وهي عوامل أفسحت المجال لتراكم وتفاقم الأزمات الداخلية، التي أدت إلى مزيد من إضعاف دور هذه الأحزاب والقوى على الصعيدين الوطني التحرري، والديمقراطي والمطلبي الداخلي، وفي مثل هذه الاوضاع لم يكن ممكناً لها أن تشارك في إشعال الانتفاضات الشعبية او التأثير في مجرياتها ، خاصة عشية اسقاط الرئيسيين "بن علي" و "مبارك" حينما تفاعلت مع الانتفاضة وشاركت فيها بصورة هامشية و بدرجات متفاوتة من التأثير الضعيف في تونس ومصر والمغرب والأردن خصوصاً ، وبدرجات أكثر هشاشة وضعفاً في سوريا وليبيا واليمن، الأمر الذي أفسح المجال لولادة حالة من الإرباك الشديد المتمثل في اختلاط وتداخل عوامل التغيير الديمقراطي المنشود، مع عوامل القلق المشروع من اتساع دور القوى اليمينية الكومبرادورية والبيروقراطية والليبرالية عموماً، والقوى الدينية وقوى الثورة المضادة خصوصاً، التي تتفاعل صعوداً، بدعم مباشر وغير مباشر من القوى الامبريالية و"حلف الناتو" وعملاءه من الحكام العرب في قطر والسعودية والخليج والعراق...إلخ ، ما يفرض علينا مجدداً طرحً السؤال التقليدي : ما العمل؟... ما هي العملية النقيض لذلك كله؟ إن الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بصحوة حقيقية نشطة ، سياسياً وفكرياً وتنظيمياً ، من قبل أحزاب وحركات اليسار العربي ، على الرغم من ادراكنا للطبيعة المركبة والمعقدة لأزمة هذه الأحزاب، ومرهونة أيضاً بتبلور ولادة احزاب وحركات يسارية ماركسية ثورية قادرة على التقاط هذه اللحظة، ومن ثم الالتزام بعملية النضال الحقيقي، السياسي الديمقراطي، عبر قيادة الجماهير الشعبية الفقيرة وتوعيتها للخروج والمطالبة بتحقيق الأهداف التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها، وخاصة إسقاط رؤوس وأنظمة الاستبداد والقمع والاستغلال، وتأسيس النظام المدني الديمقراطي الجديد من خلال " هيئة تأسيسية" تجسد الشرعية الثورية ورؤيتها التي لا تتوقف عند محاكمة رموز النظام فحسب، بل أيضاً المطالبة بتنفيذ عملية التطهير لكل مؤسسات وأجهزة حكومة النظام المخلوع وكافة الأجهزة والمؤسسات المنبثقة عنه في المجتمع، وإصدار القوانين التي تتضمن صراحة إلغاء كافة الامتيازات، ومصادرة كل الثروات غير المشروعة في جميع المجالات، والتعويض الفوري لأُسر شهداء الانتفاضة، وإعادة إحياء مؤسسات القطاع العام الإنتاجية وتجديدها ودمقرطتها بعد تطهيرها من كل مظاهر الفساد والاستغلال، وتحديد الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور، والتطبيق الصارم لمبدأ تكافؤ الفرص، ودعم السلع الغذائية والأساسية للشرائح الفقيرة، واصدار القوانين والقرارات المطلوبة التي تؤكد على اهتمام والتزام النظام الجديد بالقضايا المطلبية، في الاقتصاد والتنمية والشباب والمرأة والصحة والتعليم والثقافة والبحث العلمي ، في إطار مبدأ تحقيق تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وإحياء قيم الديمقراطية والتنمية المستقلة، ونشر وتكريس روح الانتفاضة عبر التطبيق الفعال لرؤية وبرنامج الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية، ضد كل أشكال التبعية ، وضد الوجود الصهيوني والقواعد العسكرية الأمريكية والغربية، وضد كل أشكال الاستغلال الرأسمالي والتبعية في شتى صورها، وأن يخطط النظام الديمقراطي الجديد إلى إعادة بناء الذات الوطنية والقومية الوحدوية على أسس ديمقراطية و تنموية حديثة وفق قواعد الاعتماد على الذات وفق رؤية وطنية تستند إلى رفض ومقاومة السياسات والمخططات الامبريالية الشرق أوسطية . لذلك فإن قوى وأحزاب اليسار العربي، تواجه في هذه اللحظة الثورية، تحدياً كبيراً، سيحدد مصيرها ووجودها ومستقبلها، فإما أن تسارع إلى الخروج من أزماتها صوب النهوض الثوري، أو تتزايد عوامل التراجع والتفكك تمهيداً لإسدال الستار عليها وتجاوزها .
لكن يبدو ان عوامل الاستنهاض الثوري الذاتي، في معظم أحزاب اليسار العربي، باتت اليوم في حالة شديدة من الترهل والضعف، غير مؤهلة –حتى اللحظة- لهذه المجابهة، مما وفر بالتالي فرص تراكم عوامل الأزمة البنيوية الشاملة فيها، وعندئذ لا مجال للحديث عن أي صحوة أو استنهاض ، في انتظار ولادة حركات اليسار الجديد من بين الشباب الثوري الديمقراطي العربي صاحب الدور الرئيسي في إشعال الانتفاضة . أما فيما يتعلق بظاهرة " الإسلام السياسي " فلا بد من الاقرار بأن النمو المضطرد لما يعرف بـ"الإسلام السياسي"، فقد أصبح جزءاً من الحياة السياسية العلنية في العديد من البلدان العربية، حيث تم الاقرار بمشروعية جماعة الإخوان المسلمين وحركة النهضة والحركات والأحزاب السلفية لأول مرة منذ أكثر من خمسين عاماً، وبالتالي، فإننا لا نستطيع الحديث عن رؤية برنامجية للمرحلة الجديدة، -ما بعد إسقاط مبارك وزين العابدين بن علي أو أي رئيس آخر لاحقاً- يتم فيها تجاوز الحركات والجماعات الإسلامية، دون معالجتها والتفاعل الحواري معها بصورة ديمقراطية، لأن ذلك يتنافى مع القراءة الموضوعية للواقع العياني العربي في هذه اللحظة، إذ أنني اعتقد أن المشهد السياسي العربي الراهن يؤذن بميلاد مرحلة جديدة، عنوانها الأبرز، انتقال التيارات الدينية (الإخوان والسلفيين تحديداً ) من موقع المعارضة السرية، إلى موقع السلطة، حيث شكلت الانتفاضات الشعبية فرصة ذهبية أو جسراً استخدمته التيارات الدينية للعبور إلى مشهد الإسلام السياسي المحمول بالثقافة الشعبية العفوية، في المناطق المدينية الفقيرة وفي الأرياف، حيث نجحت القوى الدينية في التفاعل والانتشار في هذه المناطق في ظل غياب تأثير الأحزاب اليسارية والديمقراطية، وبدعم مباشر وغير مباشر من الأنظمة العميلة في الخليج والسعودية، بإيعاز من النظام الرأسمالي المعولم وركائزه في تركيا وباكستان وأفغانستان والعراق، لكن نجاحه في الوصول إلى السلطة في مصر، أهم دولة مركزية في الوطن العربي، سيضمن تعزيز ركائزه في تونس والمغرب تمهيداً لانتشاره واستيلائه على السلطة في ليبيا واليمن وسوريا والأردن وغيرها من البلدان، ليس من خلال الدعم العفوي ومظاهر التخلف الاجتماعي السائدة في المجتمعات العربية فحسب، بل أيضاً ، وهذا هو الأهم، مدعوماً من الولايات المتحدة والنظام الرأسمالي الذي يجد في حركة الإخوان المسلمين، قوة سياسية اجتماعية، تتقاطع معه في الكثير من الأهداف والمصالح التي تضمن استمرار احتجاز تطور الشعوب العربية واستمرار تبعيتها واستغلال ثرواتها، خاصة وأن حركات الإسلام السياسي انتقلت في هذه المرحلة من حالة التهميش، إلى حالة التأثير والفعل، ليس لنشر منطلقاتها وآرائها فحسب، بل أيضاً لتمارس – بصورة مباشرة وغير مباشرة- نوعاً من الاستنفار لأدواتها الايديولوجية أو الفكرية الغيبية المنغلقة، في محاولة لمواجهة الفكر التنويري، الديمقراطي، العلماني التقدمي، الوطني والقومي، لتجعل من تهديم مفاهيم التنوير والعقلانية والحداثة والليبرالية والعلمانية والمواطنة والدولة المدنية والوحدة العربية والاشتراكية غايتها الأساسية الأولى، ومن ثم استخدام الدين السياسي، كأداة مصالحة مع الواقع المرير وأدواته الطبقية، الرأسمالية، الداخلية والخارجية، خاصة وأن هذه الحركات لا تتناقض أبداً مع النظام الرأسمالي بل تعتبر نفسها جزء لا يتجزأ منه، ولكن بمنطلقات إسلامية عبر ما يسمى بـ"دولة الخلافة" أو "الأمة الإسلامية"، ووفق ما يسمى بـ"الاقتصاد الإسلامي" الذي لا يختلف في جوهره عن الاقتصاد الرأسمالي . ما يعني أن القوى الديمقراطية واليسارية (القديمة والجديدة) تعيش منذ اللحظة في مرحلة هي ليست مرحلتها ولفترة قد تمتد لسنوات، الأمر الذي يفرض على هذه القوى مراجعة كل خطابها وأساليب ممارساتها وإعادة بناء تنظيماتها من خلال الحرص على الانتشار الفعال في أوساط جماهيرها، إذ أنه بدون هذا الشرط الاخير فلا مستقبل لها . أما بالنسبة للعلاقة بين اليسار العربي وحركات الإسلام السياسي، فعلى الرغم من قناعتي بان أكثر ما يشغل أذهان القوى الديمقراطية واليسارية العربية تجاه حركات "الإسلام السياسي"، هي مرجعياتها السلفية المتزمتة، وانعكاس ذلك على المسار التحرري والديمقراطي لمجتمعاتنا، حيث أن حركات الإسلام السياسي يمكن أن تتعاطى مع قضية الديمقراطية، بطريقة استخدامية، كآلية للوصول إلى السلطة السياسية ومن ثم الاستفراد بها، وتحويلها من مهدٍ للتغيير الديمقراطي، والتطور السياسي والمجتمعي إلى لحد لهذه العملية كلها، وما قد يترتب على ذلك من إعادة إنتاج التبعية والاستغلال الرأسمالي الطفيلي والاستبداد بأشكال وصور مستحدثة، بالتعاون بين قوى الإسلام السياسي من ناحية والجيش ورجال الأعمال الكومبرادور من ناحية ثانية، وما سيؤدي إليه هذا المشهد من قيود جديدة، يتم فرضها على عملية النهوض والتطور الديمقراطي لمجتمعاتنا، عبر تقييد وقمع حرية الرأي والتعبير والمعتقد، إلى جانب الموقف الرجعي تجاه مفاهيم الحداثة والتطور المجتمعي عموماً ومن قضية تحرر المرأة ومساواتها بالرجل خصوصاً، إلا أنني أود التوضيح هنا أنني لست في وارد تناول موضوعة " الدين" من زاوية فلسفية, في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية, فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة مهمة وحساسة, فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين, بل على العكس، فان التحليل الموضوعي، إلى جانب الوعي والشعور بالمسئولية والواجب، يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الإسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فالماركسية تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل –في مراحل تاريخية معينة- تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع. وعلى الرغم من كل ما تقدم، فإن المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، تؤشر إلي أننا سنواجه –مع حركات الإسلام السياسي- ظروفا وأوضاعاً معقدة, ما يفرض على قوى اليسار الفلسطيني والعربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديموقراطية وقضايا الصراع الطبقي والسياسي، ومفاهيم الاستنارة والعقلانية مع هذه الحركات بمختلف مذاهبها، كما عبر عنها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق ومحمود شلتوت وغيرهم، بحيث نحرص على ان لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري الذي يحكم علاقتنا بالعدو الإمبريالي الصهيوني، انطلاقاً من رؤيتنا تجاه هذه الحركات، التي تؤكد على "أن قوى الإسلام السياسي هي مكون طبيعي من مكونات النسيج السياسي، والاجتماعي والثقافي العربي، وعلى هذا الصعيد يهمنا أن نؤكد بأننا نرى في تلك القوى إحدى دوائر الفعل والتفاعل والحوار الوطني، وذلك وفق قواعد الديمقراطية والتعددية والحريات العامة والخاصة التي أوصلتهم إلى السلطة، والتي يتوجب الاحتكام إليها وعدم التنكر لها، وبهذه الرؤية تستطيع القوى اليسارية عبر وجودها الفعال في أوساط الجماهير، الحد من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحريات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر . وفي كل الأحوال، يجب ان تظل علاقة اليسار العربي مع قوى الإسلام السياسي، علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع والصراعات الطبقية الاجتماعية والسياسات الداخلية، وطبقاً للموقف من التحالف الامبريالي الصهيوني، دون ان نتجاوز مخاطر تطبيق الرؤية الأيديولوجية الدينية على الصعيد الاجتماعي، حيث يتجلى التعارض والتناقض بصور أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية للعمال والفلاحين، والشباب، وحرية المرأة، وحرية الاعتقاد والرأي والتعبير والاجتهاد والإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها . إن وضوح هذه الرؤية، ومن ثم البناء عليها بالنسبة لعلاقة القوى اليسارية مع القوى الإسلامية يتطلب من هذه الأخيرة أن تتخذ موقفاً واضحاً من التوجهات التالية: أولا: تكريس أسس الدولة المدنية الديمقراطية . ثانيا: رفض التبعية بأشكالها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية . ثالثا: رفض التطبيع بكافة أشكاله ورفض الصهيونية كعقيدة معادية لشعوبنا العربية وحضارتها وتراثها وقيمها. رابعا: الالتزام بمفاهيم وآليات الديمقراطية السياسية والاجتماعية وترسيخها كنهج حياة مجتمعي يضمن الحرية بكافة أنواعها وفي مقدمتها حرية المعتقد. خامسا: تغليب التناقضات الرئيسية على الثانوية. هذه هي ابرز ملامح وسمات المرحلة السياسية الجديدة كما نقرأها في اللحظات السياسية الراهنة. وفي هذا السياق، أؤكد على أن احترامنا للأديان عموماً والتراث الديني الإسلامي خصوصاً، يتطلب منا –عبر الحوار الديمقراطي- رفض استخدام الدين كأداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي وحرية الرأي والرأي الآخر، وكذلك رفض اختزال الإيمان الديني إلى تعصب حاقد ضد الآراء والأفكار والعقائد الأخرى.
لهذا على القوى اليسارية، الماركسية، في كل بلد عربي، أن تعي هذا الدرس، وأن تتداعى على الفور لكي تناقش الأفكار الكفيلة بالتمهيد الجدي لوحدتها، كخطوة ضرورية على طريق تنظيم وتأطير أوسع شرائح العمال والفلاحين الفقراء. بما يمكنها من امتلاك أدوات الضغط السياسي الجماهيري، واثبات وجودها وفعاليتها تجاه قوى الإسلام السياسي وكافة القوى اليمينية ، وبدون ذلك ستظل مشاعر القلق والخوف من المشهد القادم ورسوخه في السنوات القادمة، ماثلة في ذهني – بالمعنى الموضوعي – إذ أن سقوط أنظمة الاستبداد في البلدان العربية عموماً وفي القاهرة وبغداد ودمشق خصوصاً دون بديل ديمقراطي يقطع مع التحالف الإمبريالي الصهيوني، فإننا قد نكون مقبلين على مرحلة جديدة وطويلة من التبعية والتطبيع والتخلف في مشهد الإسلام السياسي الذي بدأت تباشيره تلوح –في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة- في سماء تونس والمغرب والقاهرة وغيرها من العواصم على الجدول . وفي هذا الجانب، أشير إلى أن الموقف ضد الاستبداد والتخلف وكل أشكال الاضطهاد وأدواته ورموزه سواء في الأردن أو اليمن أو سوريا أو في أي نظام عربي تابع ومستبد، يجب أن يتوحد مع الموقف ضد القوى الامبريالية وركيزته الحركة الصهيونية، وهذا هو المقياس الاول -من وجهة نظري – لمصداقية الفصائل والأحزاب الوطنية والديمقراطية واليسارية في علاقتها مع جماهيرها، إذ أن هذا الموقف هو الكفيل -عبر الممارسة في أوساط الجماهير- بالتصدي لمخاطر التدخل الخارجي (العسكري والسياسي) من جهة والتصدي للأصولية الدينية وقوى الثورة المضادة التي تسعى بالفعل إلى ركوب موجة الانتفاضة، لإعادة انتاج التبعية والتخلف القبائلي والطائفي بأشكال جديدة. والسؤال : هل هذا هو مآل الانتفاضات الثورية العربية ؟ الجواب لا كبيرة ، لان هذا المآل لن يؤدي إلى تحقيق أي من أهداف الشباب العربي أو الجماهير الشعبية التي قامت بانتفاضاتها الثورية من أجل الخلاص ليس من كل أشكال الاستبداد والحرمان والفقر والذل والمعاناة والخضوع فحسب، بل أيضاً من أجل تحطيم أسس النظام الرأسمالي المشوه والتابع في بلدانها باعتباره السبب الأوحد في ما وصلت إليه من افقار وإذلال لكرامتها وحرمان لحريتها، ما يعني بوضوح أن هذه الجماهير العفوية، ضد استمرار أي شكل من أشكال الاستغلال والإفقار والاضطهاد الداخلي، وضد التبعية لأمريكا وإسرائيل ونظام العولمة الرأسمالي، لكنها بحاجة إلى الطليعة الثورية المنظمة، الأمر الذي يتطلب سرعة استنهاض قوى اليسار الماركسي الثوري في كل بلد عربي لالتقاط هذه اللحظة المواتية والتفاعل معها، عبر استلهام دروس وعبر الانتفاضة التي يمكن تلخيصها فيما يلي : 1- الانتفاضات الشعبية العربية عموماً، وانتفاضة تونس ومصر خصوصاً، أثبتت أن صاحب السيادة، هو الشعب مصدر السلطة. 2- إنّ الشارع العربي يسبق، بمسافةٍ طويلةٍ جدًا، كل القوى المعارضة للنظام، لكنه في نفس الوقت ظل أسيراً لعفويته التي شكلت حاضنة للحركات الدينية في ظل غياب تأثير القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية . 3- إنّ أيّة محاولةٍ لإنجاز "تسوية" سياسية أو اجتماعية على طريقة "الإصلاحات" و"المشاركة في الحكم" عبر الانتخابات أو بدونها، هي إطالةٌ لعمر أنظمة ما بعد الانتفاضة، واطالة أيضاً، لعمر الهيمنة الامبريالية الصهيونية على مقدرات شعوبنا عبر استخدام الديمقراطية الشكلية كجسر عبرت من خلاله التيارات الدينية، بما يمهد لخلق أشكال جديدة من التبعية والخضوع من خلال ما يسمى بـ"الإسلام السياسي المعتدل" ، لهذا فلا بد من استمرار الانتفاضة الشعبية والنضال الديمقراطي، السياسي والمطلبي، برؤية يسارية ثورية وديمقراطية، لاستكمال أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية . 4- إن حركات المعارضة أو الحركات الاحتجاجية لا يمكن أن تحقق النجاح المطلوب إذا كان إنطلاقها في خدمة الرؤى أو البرامج الانقسامية أو الطائفية أو الأثنية، لأنها بذلك تفتقد لكل المقومات التوحيدية ، وهنا تتجلى مسئولية القوى الديمقراطية واليسارية في ابداع الشعارات المركزية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الكفيلة بتعميم الأفكار التوحيدية المبسطة والمعبرة عن تطلعات الشباب وجماهير الفقراء والكادحين، في بناء البديل الاشتراكي . 5- إن الدور الأبرز للنخب السياسية المعارضة والمثقفين هو كسر حاجز الخوف، وكشف خواء الأنظمة وفسادها واستبدادها في إطار الصراع الطبقي، جنباً إلى جنب مع تفعيل عملية الصراع الوطني التحرري والنضال ضد الوجود الإمبريالي/الصهيوني، كعملية واحدة حيث أننا نعيش مرحلة تحتم علينا عدم الفصل بين النضال الطبقي والنضال الوطني، لذا فإن من واجب هذه القوى أن تسارع إلى التوحد والاصطفاف لحماية الانتفاضة وتحقيق أهدافها، في إطار جبهة اشتراكية تضم كافة قوى اليسار على المستوى القطري أولاً، ثم على المستوى القومي والأممي ثانياً، في إطار التفاعل والتواصل النضالي في أوساط الجماهير، وفي خضم الصراع السياسي الديمقراطي ضد كل القوى الطبقية اليمينية بمختلف أطيافها الليبرالية والدينية، انطلاقاً من القناعة الراسخة بامكانية تطوير الانتفاضة وصيرورة نضالها الراهن والمستقبلي لتحقيق اهدافها، آخذين بعين الاعتبار أننا نعيش- ما قبل وبعد الانتفاضات العربية - أزمة اقتصادية في الوطن العربي،تتخذ منها قوى اليمين الليبرالي والرجعي ورجال الاعمال الكومبرادور ذريعة لافراغ الحالة الثورية من مضامينها الطبقية الاجتماعية والسياسية التحررية والديمقراطية على الصعيدين الوطني والقومي، ونرد على كل هؤلاء من جهة، ونخاطب قوى الانتفاضة الثورية العربية من الشباب والعمال والفلاحين وكل الكادحين من جهة ثانية بالقول: إن الأزمة الاقتصادية – كما يقول المفكر الماركسي العربي الشهيد مهدي عامل – غير كافية لتوليد أزمة سياسية تنتقل فيها المبادرة داخل الصراع الاجتماعي العام من الطبقة المسيطرة إلى الطبقات الثورية صاحبة المصلحة في البديل الديمقراطي، فما دامت " الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة، (واضح أنها بقيت على حالها –حتى اللحظة- رغم إزاحة زين العابدين ومبارك والقذافي وغيرهم على الجدول) فإن هذه الطبقة ليست في أزمة سياسية بالرغم من أزمتها الاقتصادية والأيديولوجية، ولكي تكون الطبقة المسيطرة في أزمة سياسية فعلية ، فلا بد أن تكون السيطرة في الحقل السياسي للصراع الطبقي، أي للممارسة السياسية الثورية و الديمقراطية للطبقة النقيض، الذي يجب أن تحرص قوى اليسار العربي على تحققها داخل الانتفاضة، شرط أن تخرج من ازماتها المستعصية، السياسية والفكرية والتنظيمية عموماً، وأزمتها القيادية بالدرجة الأولى ، التي أدت إلى تكريس غياب أو عجز البديل اليساري الديمقراطي في هذه اللحظة التاريخية المواتية التي جسدتها الانتفاضات الشعبية العربية، وقدمت بذلك العجز، مزيداً من عناصر القوة لقوى الاسلام السياسي التي نجحت في قطف ثمار الانتفاضة وتجييرها تمهيداً لإنتاج نظامها في مشهد الإسلام السياسي القادم . 6- أحد السمات الأساسية التي تتميز بها ثورة الشارع العربي الراهنة هو الدور المركزي والقيادي الذي احتله القطاع الشبابي من أبناء العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة (التي يطلق عليها البعض تعريف "المتوسطة") ، وهو دور لابد من التفاعل معه واحتضانه ، من منطلق ان حركة الشباب، قامت بقيادة العملية الانتفاضية الثورية، بعيداً عن كل الأحزاب ، كتجسيد صارخ لوصول تراكمات الاستبداد والقهر والإفقار والإذلال إلى درجة القطع مع الأنظمة في تونس ومصر واليمن وسوريا، كما كانت انتفاضتهم أيضاً تجسيد للصورة الحقيقية للشباب العربي الذي أثبت بالفعل حضوره ومتابعته لأزمات مجتمعاته وهموم شعوبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على النقيض من تقييم البعض لدور الشباب السلبي البعيد عن القضايا السياسية والمجتمعية. 7- في عصر عولمة الاتصالات والمعلومات، باتت كل الأنظمة السياسي في العالم، متيقنة من أن السلطة لم تعد حكراً لها ولأجهزتها الأمنية، وأنها لن تستطيع ممارسة ما يحلو لها من بشاعات القمع والتعذيب والملاحقة والاستبداد دون حساب وعقاب كما كانت تفعل في العقود السابقة، فقد تغيرت الدنيا مع ظهور الانترنت وانتشار وسائل الاتصال والتواصل بالكلمة والصورة عبر الفيس بوك وتويتر والمواقع الالكترونية الديمقراطية والتقدمية، خاصة موقعنا "الحوار المتمدن" ودوره الطليعي في هذا الجانب الذي لا يتوقف عن التنوير بل يتعداه صوب التحريض الثوري العقلاني على واقع التخلف والاستبداد والتبعية والفقر على طريق الديمقراطية والتنمية المستقلة بآفاقها الاشتراكية، إلى جانب الفضائيات التي كرست ما يسمى بسلطة الصورة المباشرة للأحداث، حيث باتت كل من الكلمة والصورة عبر الفيس بوك وتويتر والفضائيات، هي الطريق السهل والمباشر أمام الشباب لنقل الأفكار والثقافات والمشاعر، وبالتالي باتت أهم وسائل التواصل والتحريض الديمقراطي والثوري، والاعتصامات والمظاهرات والإضرابات، أو باختصار باتت حوارات الانترنت وصورها تسهم بدور هام في صنع الأحداث، من خلال الشباب الالكتروني المتعلم، والمهني، والمثقف، والسياسي، سرعان ما ينفعلون عاطفياً بالأحداث، لكنهم يلتزمون بالرؤية العقلانية التأملية والتخطيطية في إدارتها ومتابعتها، وهنا يجدر بالقوى اليسارية أن تتعلم كثيراً من دور وخبرات الشباب الالكتروني وذكائه في مواجهة استبداد السلطة، ودوره المتميز في اللحظات الأولى على إدارة الانتفاضات الشعبية . إن اللحظة الراهنة، على الرغم من تفاؤلي الدائم بالمستقبل الواعد لليسار العربي، إلا أنها محمولة بكثير من الغموض، الذي يصل إلى درجة كبيرة من تشاؤم العقل الناجم عن غياب تأثير القوى الماركسية الديمقراطية الثورية المنظمة القادرة وحدها على تحديد وتوجيه الانتفاضات، صوب القطيعة مع العلاقات الرأسمالية التابعة والرثة من ناحية، وصوب القطيعة مع التخلف والتبعية للنظام الامبريالي وحليفه الصهيوني من ناحية ثانية، في مقابل تزايد تأثير القوى اليمينية عموماً وقوى الإسلام السياسي والسلفيين خصوصاً، الأمر الذي يثير كل دواعي القلق بالمعنى الموضوعي من مشهد الإسلام السياسي القادم، ما بعد سقوط أنظمة الاستبداد، ما يعني من وجهة نظري أن هناك إمكانيات –تملك العديد من المقومات- لإعادة تشكيل بلدان النظام العربي في إطار أشكال جديدة من التبعية للسياسات الأمريكية والنظام الرأسمالي العالمي بما في ذلك العلاقة التطبيعية مع دولة العدو الإسرائيلي تحت يافطة ما يسمى بالليبرالية أو الديمقراطية السياسية الشكلية، من خلال القوى الطبقية الكومبرادوية والبيروقراطية المدنية والعسكرية المؤثرة، والجيش، في إطار التحالف مع الإخوان المسلمين، والقوى الليبرالية الرثة وبقية قوى الثورة المضادة بحكم ارتباطها بشكل مباشر أو غير مباشر بالسياسات والمشاريع الامريكية والإسرائيلية، ومن هنا لم أطلق على ما يجري في بلدان العرب، ثورة، بل اسميها مجازاً انتفاضة أو حالة ثورية لا أنكر دورها في خلق واشتقاق عملية تغييريه في النظام العربي، لكنها لم تحقق حتى اللحظة سوى تغيير طربوش النظام (مبارك، قذافي، زين العابدين، علي صالح، وغيره على الطريق) دون أن تنجح في تحقيق أهدافها الاجتماعية السياسية والاقتصادية فيما يتعلق بتطبيق مفهوم الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي، أو فيما يتعلق بتطبيق مفاهيم الحداثة والتنوير وفصل الدين عن الدولة وحقوق المواطنة وتحديد كل من الحد الأدنى والأعلى للدخل وفق قواعد العدالة الاجتماعية، ودون أن تحقق أي من أهدافها السياسية الخاصة بإلغاء معاهدة كامب ديفيد أو المطالبة بطرد القواعد العسكرية الأمريكية وإلغاء التبعية للسياسات الأمريكية، وكل ذلك بسبب حالة السبات أو الهشاشة والتفكك وغياب الرؤية والإرادة لدى معظم فصائل وأحزاب اليسار الماركسي الثوري في بلادنا، الذين لا يمكن الحديث عن المستقبل الواعد لتطور ونهوض وتقدم شعوبنا بدون استعادة الدور الطليعي، والجماهيري لهذه الأحزاب والفصائل، التي يتوجب على الكوادر الطليعية فيها أن تناضل من داخل أحزابها، لإخراجها من حالة الترهل وغياب التأثير السائدة اليوم، والتي لا يقبلها عقل أو منطق . إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعوبنا العربية كلها، في هذه اللحظة الثورية، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دوراً رئيسياً وأحادياً فيها، بل يعني تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، والاستجابة لمبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن. | |
|