لعل السبق التعبوي في مضمار استنفار الحساسية المذهبية، الذي أحرزه المفتي قباني بالرغم من وداعة قسماته التي لا يملك التصرف حيالها شيئا، على الشيخ سعد الحريري زعيم تيار المستقبل في تأبين النائب عن هذا التيار في البرلمان اللبناني: وليد عيدو وولده ومرافقه، ما يكمل المشهد الذي يتشكل في أربع أرجاء العالم العربي –الإسلامي.
المشهد الذي يزاحم فيه رجل الدين، رجل السياسة حقل وظائفه ..الصورة التي تقدمها مصر المحروسة عن استعادة الشيوخ زمام المبادرة ليست الحالة القصوى.. لكنها العينة الأكثر إقلاقا في القطوع الحرج الذي يجتازه النظام السياسي العربي، نظرا لاحتلال مصر موقع الشرابة في السبحة التي يتشكل منها هذا النظام.. إلا أن المآل في كل الأحوال واحد، إن استمرت هذه الوتيرة العالية لمشيخة السياسة: جر مجتمعات المنطقة إلى التذابح تحت قيادة الطرابيش والعمائم. بعد أن يحتل الطرفان ما تبقى من الحقل السياسي ليديراه وفقاً للصلاحيات الممنوحة لهم لإدارة شؤون المقدس.
الفصل النسبي للدين عن الدولة الذي أجراه معاوية بن أبي سفيان في مطلع الخلافة الأموية أغلق الى حين باب الفتنة الكبرى التي عصفت بالخلافة الراشدية.. والتي تمحورت (أي الفتنة) حول أحقية خلافة النبي محمد بوظيفتيه الدينية والسياسية.. ولعل الموقف السلبي الذي وقفه الفرع الأموي من آل عبد مناف (قبيلة الرسول) حيال الإسلام المبكر قد سّهل على معاوية التخلي عن الوظيفة الدينية (لخليفة رسول الله ) لصالح الفقهاء الملتحقين باستراتيجية الغلبة التي أسسها ( الصيغة الأكثر مواءمة لإدارة الإمبراطوريات الخراجية من صيغة شورى القبيلة). ظل الميل للعب الدور المزدوج للرسول طموحا للفرع الفاطمي من آل هاشم عشيرة النبي الأقرب..
بين نموذج الدولة الدينية الصرف الذي يمسك فيها ولي الأمر بخيوط الدين والدنيا..أي (المقدس والسياسة ) وبين صيغة مخففة عنها يحتل فيها الفقهاء وظيفة إدارة المقدس بشقيه: العبادات والمعاملات ويتابعون فيها
مما حكاتهم العقيدية بلا تماس مباشر مع السياسة كنظام لإدارة المصالح، انشق الإسلام إلى شطريه
العقيديين: السني / الشيعي... هكذا منذ البداية ضاق المسلمون الأوائل ذرعا بالتدخلية المفرطة للمقدس في شؤون الدنيا... وبالرغم من عسف الخيار الآخر (دولة الغلبة)، لكنه بقي أخف ظلا وأقل وطأة من غلبة تتقمص المقدس لتخفي كما في الأمثال (حسوا في إرتغاء)..
في الأربعة عشر قرنا التي مرت على انبثاق الظاهرة الإسلامية لم يبق شيء على حاله.. ادعى الكثيرون شرعية من السماء لقيادة الأمة.. وولدت على خلفية هذه الدعاوى بالعصمة انشقاقات عقيدية تتنازع مع غيرها صفة الفرقة الناجية. وعلى مقلبي الإسلام: السني /الشيعي، خرج الأكليروس الديني كثيرا خارج التخوم التي حبسه داخلها معاوية، مستفيداً من هذا الميل الدائم لدى العامة الرازحة تحت وطأة دولة الغلبة لتقديس من يخرج على الجور (أنظر محورية المهدي بتنوع مسمياته في التراث الإسلامي).
وأنظر من جهة أخرى ربط الكثير من السلالات المؤسسة للدولة الدينية (الفاطميون،الزيديون..الخ ) نفسها بخط النسب الموصول بالرسول عبر فاطمة..رغم ذلك ظل التعديل الذي أجراه معاوية على نموذج دولة الرسول في المدينة (يثرب)، مخرجا من مآلات أفضت الى انقسام المقدس نتيجة انغماسه بالسياسة (قارن في هذا المجال انشقاق التشيع لعلي وذريته، الذي أخذ طابعا عقيديا، بالطابع الفقهي للتشققات السنية الأخف وطأة على لحمة الجماعة الإسلامية ).. ألا يلفت النظر أن الصراع السياسي داخل سلالات الإمبراطوريات الإسلامية السنية الثلاث المتعاقبة: الأمويون، والعباسيون، والعثمانيون، لم يوّلد انشقاقا لاهوتيا قادرا على البقاء تاريخيا؟.. بينما قاد الطابع الديني للإمبراطورية الفاطمية الى انشطار المذهب الإسماعيلي (نسبة الى إسماعيل بن جعفر الصادق ) الى بضعة مذاهب تتنازع طرق النجاة ..في النموذج الفاطمي للدولة الدينية كانت وفاة أمير المؤمنين محنة لإتباعه. نادرا مايفلتون منها بلا انشقاق لاهوتي . ولم تسلم من هذا المسار (مسار الانشقاق اللاهوتي) الجماعات المعارضة.
ذلك أن الداء واحد هنا وهناك (عدم الفصل بين الدين والسياسة). أسوق هذا الاستقراء للتجربة الإسلامية لأصل الى هذا الاستنتاج: لم يولّد الصراع السياسي على منصب الخليفة جراحا غير قابلة للشفاء في جسد الجماعة الإسلامية السنية، كما ذهبت إليه الأمور في الجماعة الشيعية، بفعل النموذج الذي وضع معاوية لبنة التأسيس له للفصل بين الدولة والدين. لا بل إن هذا الفصل النسبي قد أعطى للإسلام السني حيوية تفسر جزئيًا توسعه على حساب خطوط التقديس المنافسة (الشيعية والخارجية). تركت هذه الحيوية بصمتها في كل مكان. بدءا من طرح الأسئلة المحرجة على فلسفة الوحي التي باشرها المعتزلة، لعزل الذات عن الصفات لجهة القدم، وصولا الى تأكيد تاريخية النص القرآني لتوسيع مساحة التفكر البشري فيه إنقاذا للمسلمين من الطريق المسدود الذي يوصلهم إليه بسرعة التفسير الحرفي للنص المقدس.
وبمعزل عن موجات الاجتياح الرعوي التي تعرضت لها الاميراطورية العباسية، فقد أظهر الاحتكاك مع الغزاة اتساع هوة التحضر التي تفصل المجتمعات الإسلامية عن الشعوب الغازية (لقد فاجأت أوضاع الفلاحين في المنطقة فلاحي الجيوش الإقطاعية الصليبية لجهة تفاوت وطأة الجور الواقع عليهما).و بقي نمط الإنتاج الخراجي في المنطقة محتفظا بتفوقه النسبي على معاصره (الإقطاع الأوربي) حتى بدء التحول البرجوازي عند هذا الأخير...
أعود إلى جدل المقدس والسياسة في التجربة الإسلامية لأقول إن محاولات المشتغلين بالمقدس التمدد خارج تخوم الأخير ظلت ملجومة ببقاء هذه المعادلة التي رتب توازن عناصرها معاوية في العقدين:الخامس والسادس الهجريين. فهل للخطاب الإسلامي الراهن أن يتواضع ويعترف بقطيعته المزدوجة: مع الماضي الذي ينتفخ غرورا بمعرفته إلى درجة احتكار ملكيته، ومع الحاضر الذي تصنعه الحداثة التي فقدنا القدرة على المساهمة في إنتاجها منذ طردنا من بين ظهرانينا آخر تجلياتها: الرشدية.