المتأمل فى تاريخ الإنسان القديم منذ عرف معنى الإعتقاد والإيمان سيجد نفسه أمام سؤال محورى , هل الدين سبق السياسة أم أن السياسة هى التى سبقت الدين ..يأتى هذا السؤال على شاكلة أيهما أسبق المادة أم الوعى .
ولمزيد من التوضيح ...
هل الدين كفكر مستقل عن السياسة , وفى مراحل من التاريخ سطا أهل السياسة على الدين وطوعوه لخدمتهم
وأغراضهم ..أم أن أهل السياسة والنفوذ إبتكروا الدين والمعتقد لمزيد من الهيمنه على الجماعة وتطويعها لخدمة
أفكارهم ومخطاطتهم .
نحاول أن نتلمس فى هذا الشريط أى الإجابتين هى الأصح ..هل الدين تم تسيسه أم السياسة تم تديينها .
ولعل النموذج اليهودى فى نسخته التوارتية وكذلك الإسلامى فى نسخته القراءنية تعطينا نماذج واضحة وجليه
عن خلق الدين ليخدم السياسة وهو ما نتبناه كأطروحة .
سنحاول التطرق إلى الدين اليهودى والأسلامى مع عروجنا على المعتقدات القديمة والتى تثبت وجهة نظرنا
فى أن الدين والمعتقد جاء كتمرير مشاريع قومية وعرقية لها متطلباتها الخاصة والمشروعة فى زمانها ومكانها .
وأن صيغة الدين بتشريعاته وقصصه ماهو إلا الأطار الذى يجمع البشر على هوية وراية إجتماعية ...وليست
فكرة تقديم مشروع فكرى يرضى متطلبات الإنسان المعرفية إلا رغبة ثانوية تأتى من خلال السياق والتكوين.
سنحاول الخوض فى دراسات لعلماء فى الميثولوجيا مثل مرسيا الياد ودوركهايم والكاتب العراقى وليد عبد الله
على أمل أن نخرج بإجابة عن هل تم تسييس الدين أم تديين السياسة .
*** النموذج الإسلامى .
الانقلابات السياسية والعسكرية التي حصلتْ في الديانات واستيلاءُ الثقافة العسكرية على العقل الإيماني بسبب الصراع التاريخي والعقائدي للأرباب، في الدين الإسلامي خاصةً الذي نمَّط السلوكَ الديني كسلوك مواجهة وتصدٍّ لأعداء الله (الملحدين، أهل الكتاب، بحسب التعبير القرآني: النصارى واليهود، أهل الأصنام، المشركين، والخارجين عن الملَّة والدين، أهل البدع والفتن من المذاهب الأخرى، المرتدِّين عن الدين، العاصين في عدم تطبيقهم الشريعةَ المقدسة، إلخ) ومحاربة لأية رؤية أو اعتقاد يخرج عن الشكل الذي يؤمن به العسكرُ المتَّبِعون ظاهريًّا للنصوص المقدسة (القرآن والسنَّة)، المنتمون إلى الشكل التقليدي الظاهري للدين الذي يوفِّر غطاءً شرعيًّا لانتمائهم لروح العسكرة ومهنية الممارسة السلوكية في الحرب والقتال، التي نمَّطتِ الآياتِ والأحاديثَ كلَّها التي تشير إشارةً مباشرةً إلى العسكر (المجاهدين) وإلى الحرب (الجهاد والغزو) والتي جعلتْهم يزحفون على مقومات الدين كلِّها ويستولون عليه بالقوة العسكرية، حتى صار يمثل النسخة الرسمية للدين الإسلامي، مما جعل المقومات الإسلامية الأخرى التي تفسِّر الدين الإسلامي "مدنيًّا"، وليس "حربيًّا"، تحاول أن تجد لنفسها مساحاتٍ دينيةً ودنيويةً أخرى في التعبير عن تأملاتها وسلوكها الديني، أو تحاول الانفصال عن الدين برمَّته، أو تمارس قدراتٍ عقليةً وروحيةً في تأويل النصوص التي تشير إلى القتال والحرب، على الرغم من أن هذه المقومات من المذاهب والملل والنِّحَل بقيت في دائرة الشاذ والمتهم والخارج على الدين، غير المعترَف به دينيًّا أمام الشكل التقليدي الرسمي، وخاصةً عند أصحاب العقيدة الجهادية والعسكرية، التي أصبحت العقيدة الرسمية في التفكير الإسلامي الحديث، الموثَّقة تاريخيًّا كشريعة مقدسة وواقعيًّا كسلوك يُتأسَّى به، مارسَه النبي والصحابةُ الأوائل والخلفاءُ من بعدهم والأمراءُ والتابعونُ، وذلك بحسب رؤية أهل القتال والحرب، فصار دستورًا مقدسًا للشكل الإسلامي في الظهور والتكون الواقعي للحياة.
ولا غرو أن نقرأ أو نرى أو نحمل في ذاكرتنا الإنسانية صورًا من الصراعات التاريخية والدينية والحروب الدامية بين البشر، ومن القرابين المتراكمة في صحائف التاريخ الإسلامي، ومن ثقافة التوحش والإزاحة والتدمير وتصنيف البشر إلى مراتب ودرجات في مدار الأعداء التاريخيين أو المفترَضين، تحت مسمَّيات دينية مختلفة (كـ"مشركين" و"ملحدين" إلخ).
ومهما كان منشأ هذا الصراع وكيفيته، فهو يعبِّر عن ضعف الإنسان وخوفه من المجهول وعن سلطان الذاكرة الحيوانية والمصالح المفتوحة عليه – وكلها يعبِّر بشكل ما عن انحطاط الحقيقة الإنسانية إلى مراحل تاريخية مؤيدة لهذا التوحش والاقتتال والصراع الدامي.
لكننا، في بحثنا هذا، لا نريد أن نستعيد أو نسرد أشكال هذا الصراع وماهيته ورغبة الإنسان في التعسكر الدائم ضد الآخر، وذلك لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. لذا سوف نركِّز فقط على مدى استغراب العقل الإنساني، قديمًا وحديثًا بشكل عام، وعقل الإنسان المسلم، بشكل خاص، وتساؤله عن ضرورة الإقرار الربوبي لشرعة القتال، وفرضه كحقيقة دينية مُلزِمَة وأساسية للمعتنقين، وعدم إيجاد الربِّ وسائل أخرى للتعبير عن دعوته أو ممارسة ظهوراته في الديانات.
نحن تحت ضغط المعرفة المعاصرة والحاجة الروحية والإنسانية وعدم إيجاد أجوبة تنطوي على حكمة حقيقية ومعرفة خالصة بيضاء، وتحت ضغط الأسئلة المعاصرة والتفاوت الحضاري بين الأمم، نجد الأجيال المعاصرة تدعو إلى محاولة التنقيب والتجديد في الدين والتشكيك في منظومته التاريخية وفي خصوصية الصراعات المقدسة والدامية والمؤثرة على الحياة والإنسان. كذلك فمن خلال التمحيص الروحي والتأمل الحقيقي لفعالية الديانات وقراءة التاريخ الديني (الإسلامي خاصة) لم نرَ عطاءً ربانيًّا واقعيًّا على الصعيد الإنساني، ولا أية ملامح خالصة لتطور روحيٍّ ومعرفيٍّ وحضاريٍّ حقيقيٍّ للمسلمين عندما مارسوا فعالية الحرب عبر العصور كحقيقة ربانية مشرَّعة باسم الله والدين (إذ إنه من المفروض أن يُظهِرَ الدينُ ما يملك من خزين روحاني يحقق العدالة والتكامل الروحي للشعوب)، بل رأينا حضارةً حققت نجاحاتِها، كأية حضارة "عسكرية" أخرى، باسم العسكريين وأنجزت وجودها بالسيف والرعب.. هذا ويمكن لهذه الانتصارات أن تصنع مقدَّراتِها ومنجزاتِها العلمية والتاريخية، وكذلك أخطاءها الكارثية على الإنسان والحياة والروح. فقد توالت الدسائس والخيانات والقتل في التاريخ الإسلامي، كنتيجة طبيعة لسلوك المتعسكرين، وكحقيقة أرضية تنتج هذا النوع من السلوك الإنساني .
والتساؤلات في هذا البحث تركِّز على شراكة "الرب" الديني للإنسان في حروبه ضد الإنسان الآخر؛ وهي شراكة فعالة وجوهرية في قيادة كثير من تلك الحروب. ولا يقتصر الأمر على استثمار المجاهدين أو المتدينين، المتعسكرين بالحرب والموت، اسمَ الله في الحروب، بل إن "الله" يصير لديهم شريكًا فعالاً وأساسيًّا في صياغة النصوص المقدسة التي تؤسِّس للغة الحرب وثقافتها، للتفنن في ممارسة القتل والإزاحة والتعذيب والتشفِّي، ولصناعة الموت بطُرُق العسكر "الجهادية" الخالية من الرحمة والإنسانية، تحت شعار "عسكرة الإنسان باسم الله".