إذا كانت رب ضارة نافعة، فإن الضرر الذي ألحقته حماس بالفلسطينيين، قد ينفع العرب، إذا استخلصوا الدروس المناسبة من أحداث الأيام القليلة الماضية في قطاع غزة. وهي دروس تتعلّق بالموقف من الأصولية.
بداية، يعرف أغلب الناس أن حظوظ الأصولية للفوز في انتخابات نـزيهة في مصر، أو سوريا، وفي بقية الدول العربية، ليست اليوم أقل من حظوظ حماس عند فوزها في انتخابات المجلس التشريعي في مطلع العام الماضي. فهي حركات تحظى بشعبية واسعة، ولا تجد منافسة حقيقية سواء من جانب الأحزاب والنخب الحاكمة، أو من جانب حركات المعارضة الأخرى القومية، واليسارية، أو ما تبقى منها.
كما يعرف أغلب الناس أن بقاء النخب الحاكمة في سدة الحكم يعتمد على أجهزة القمع التي تملكها الدولة، وتحتكر حق استخدامها، وعلى تصفية المعارضين بطريقة منهجية ومنظمة، علاوة على علاقات خاصة مع قوى خارجية تحميها كلما اقتضت الحاجة، أو تمدها بمساعدات اقتصادية وسياسية تمكنها من الاستمرار.
لكن ما سيتمكن الناس من معرفته، إذا استخلصوا الدروس المناسبة، وتأملوا التجربة الفلسطينية بتمعن، يتمثل في حقيقة أن الأصولية تشكل في حال فوزها بالسلطة تهديدا للدولة وللهوية الوطنية، بكل ما تنطوي عليه أمور كهذه من تهديد للوحدة الترابية، وللاستقرار والتماسك الاجتماعيين بطريقة ربما تتجاوز آثارها المأساوية أضرار وكوارث الأنظمة القائمة.
لا شك أن وضعا كهذا ينطوي على دلالات مأساوية كثيرة. فمن ناحية هناك الأنظمة القائمة، التي تفتقر إلى الكثير من الشرعية، ومبررات البقاء، ومن ناحية ثانية هناك الأصولية، التي تحظى بإجماع كبير في أوساط الناخبين، لكن نجاحها يهدد المجتمع نفسه. وبالتالي هل نتخلى عن الانتخابات، وضرورة التغيير الديمقراطي، أم نفكر بأن لكل بلد خصوصية تحول دون تكرار ما حدث في مكان آخر، خاصة وأن الوضع الفلسطيني يتسم بتعقيدات نادرة، ولا يشبه وضعا آخر في العالم العربي؟
ثمة الكثير من المرافعات المتداولة في العالم العربي، ومنذ وقت ليس بالقصير، حول الإسلام السياسي، وإمكانية دمج الأجنحة المعتدلة منه في التيار الرئيس للمجتمعات العربية، سواء لعزل الأجنحة المتطرفة وتطويقها، أو لتشكيل جبهات سياسية عريضة تتمكن المعارضة بفضلها من فرض تغييرات ديمقراطية، ومن الوصول إلى سدة الحكم.
ومع ذلك، فإن القضية الأساسية هي موقف الأصولية من الدولة والهوية الوطنية. وقد ثبت بالملموس، في سياق وبعد احتلال غزة من جانب ميليشيا حماس أن الأصولية تكن عداءا حقيقيا لمفهومي الدولة والهوية الوطنية، وكل ما يندرج في إطارهما، أو يتفرع عنهما من دلالات.
لا توجد دولة في فلسطين بطبيعة الحال، لكن الإنسان لا يحتاج إلى قدر كبير من الدراية السياسية لإدراك أن وجود الحد الأدنى من القناعة بوجود مصلحة وطنية عليا للفلسطينيين (يدمرها الاقتتال، ويهدد وجودها انفصال الضفة الغربية عن قطاع غزة) كان كفيلا بالحيلولة حتى دون التفكير في محاولة الاستيلاء على قطاع غزة بالقوّة.
وبالقدر نفسه، لا يحتاج الإنسان إلى كثير من المعرفة لإدراك أن التعامل مع العلم الفلسطيني باعتباره رمزا من رموز العدو (أي الفلسطيني الآخر) وإنزاله عن المؤسسات الحكومية، مقابل رفع علم لا يحمل سوى دلالة دينية، ينطوي على تحفظات أساسية تجاه الهوية ورموزها، في أفضل الأحوال، أما في أسوأها، كما اتضح على مدار الأيام القليلة الماضية فإن الدلالة الحقيقية هي تصفية الهوية نفسها، مقابل هوية دينية تهيم في فضاء المقدس، عابرة للحدود، والجغرافيا، والتاريخ.
وحتى إذا ما تجاوزنا، نظريا، كل ما تقدّم باعتباره ينطوي على إشكالات مفهومية، ثمة حقيقة يصعب تجاهلها، أو غض الطرف عنها، لأنها بلا إشكالات تقريبا، ولا تحتاج إلى سجالات كثيرة، وأعني في هذا الشأن الموقف من المصلحة العامة، بتعبيراتها الدنيوية، واليومية، أي الموقف من الناس، الجمهور، المواطنين (أو سمهم ما شئت)، ومصالحهم البسيطة من نوع الحصول على القوت، وتربية الأولاد، والتمتع بحد أدنى من الأمن والأمان.
من الواضح أن الأصولية لا تولي هذا الأمر أهمية خاصة، فلا يوجد شخص يتحلى بحد أدنى من الشفقة يجيز لنفسه تحويل مليون ونصف المليون من البشر إلى رهائن، وإلى موضوع للابتزاز الاقتصادي والسياسي والمعنوي. ومع ذلك هذا هو حال مواطني قطاع غزة في الوقت الحاضر، فقد اكتسب الحصار المفروض عليهم، منذ وصول حماس إلى سدة الحكم، مبررات إضافية بعد استيلائها بالقوّة على ذلك الجزء المعذب والمنكوب في فلسطين.
ليس المقصود بكل ما تقدّم تبرئة الطرف الآخر من الفلسطينيين، سواء ميليشيات فتح أو غيرها، فهؤلاء ليسوا أفضل حالا بالمعنى الأخلاقي والسياسي من حماس، لكن حماس فعلت ما لم يفعله الآخرون، بصرف النظر عن الأسباب والدوافع، وبالتالي فإن في ما فعلته ما يبرر التركيز عليها من ناحية، وفي هويتها الأيديولوجية ما يستدعي العثور على خصائص تقبل التعميم على بقية الحركات الأصولية في العالم العربي بشكل عام.
الموقف من الدولة، وهي كينونة أعلى من النظام، يعني أن ثمة مصالح قومية عليا، تحددها الجغرافيا السياسية، والتجربة التاريخية، والمنافع الاقتصادية والسياسية المتبادلة مع دول الإقليم والعالم، وهي أعلى شأنا، وأكثر أهمية، من مفهوم الأمة الإسلامية الوهمي والمتخيّل. أما الهوية الوطنية، فتعني أن الدين مكوّن من مكوّنات الهوية بالمعنى الثقافي، لكنه لا يحتل المكانة الأولى بالضرورة، ولا يشكل مرجعية، أو يصلح حكما في الموقف من المكوّنات الأخرى.
ولست، هنا، في معرض تقديم مزيد من الشواهد حول عدم اكتراث الأصولية بما يقوّض الدولة، وما يهدد الهوية الوطنية، ناهيك طبعا عن افتقارها إلى الشفقة، وعدم توّرعها عن تعريض حياة ملايين من البشر للأذى بالمعنى المادي والمباشر للكلمة. في كل مكان من العالم العربي تقريبا، ما يكفي من الشواهد. والأمثلة العراقية، واللبنانية، والفلسطينية خير شاهد ودليل.
المهم أن افتضاح أمر الأصولية بشاهد جديد في فلسطين يمكننا من إدراك حقيقة المأزق الذي يعيشه العرب الأحياء في مطلع قرن وألفية جديدين، فهم بين مطرقة أنظمة فاسدة، ومتوّحشة في أغلب الأحيان، وسندان معارضة أصولية تهدد بقاء الدول، وهوية الشعوب، وتماسك المجتمعات.
وإذا كان من الصعب، ومن غير المنطقي أن نتصوّر وجود إجابات سريعة، وحلول نظرية جاهزة لكل شيء تقريبا، فمن المؤكد أن كل محاولة لمعالجة قضايا الديمقراطية والتغيير في العالم العربي لن تتمكن من القبض على الواقع بطريقة صحيحة، أو تستنبط ما يناسبه من حلول دون مجابهة هذا المأزق، الذي يبدو ككل مأساة إغريقية صافية مزيجا من أقدرا لا ترحم وكوميديا سوداء.