العرب وإيران والأقطاب الجديدة في الساحة الدولية
د. إبراهيم علوش
صعود
روسيا والصين في الساحة الدولية، ووقوف الهند والبرازيل في الدور خلفهما
كأقطاب اقتصادية وسياسية صاعدة، وتفلت دول أمريكا اللاتينية من هيمنة
"الإمبراطورية"، كما تسمى الولايات المتحدة الأمريكية هناك، قوبل كما يجب
بالكثير من الترحاب في الشارع العربي خاصة أن العرب دفعوا الثمن الأعلى
لسيادة "القطب الواحد"، الأمريكي-الصهيوني، على ساحة العلاقات الدولية
عشية انهيار كتلة الدول الاشتراكية.
وقد
سفك الكتاب العرب وغير العرب كثيراً من الحبر في وصف مظاهر وعوارض بداية
نهاية عصر القطب الواحد، من بروز منظمة شنغهاي إلى طريقة تعامل روسيا مع
أزمة جورجيا إلى استهانة شافيز وموراليس في أمريكا اللاتينية بالهيبة
الأمريكية، إلى التنافس الإيراني-الأمريكي على غنيمة العراق، إلى مشروع
أوبك موازية للدول المنتجة للغاز وعلى رأسها روسيا، الخ...
كما
جاءت أحداث السنوات الخمس الماضية، منذ احتلال العراق، لتؤكد مقولة الرئيس
الشهيد صدام حسين بأن احتلال العراق سيكون بداية نهاية عصر القطب الواحد.
ولا
يوجد أدنى شك بأن العراق هو الصخرة التي تكسرت عليها الهيبة الأمريكية،
وأن أمريكا علقت بطمي الرافدين مما سمح لقوى كثيرة أن ترفع رأسها على
الساحة الدولية والإقليمية ممن كان يرتجف رعباً قبلها من رعونة الكابوي
الأمريكي وصلفه. فبداية نهاية عصر القطب الواحد، بعد أكثر من عقد ونصف من
انهيار الاتحاد السوفييتي، كان هدية العراق للبشرية.
ومع
أن العراق لم يختر هذه المعركة، وحاول تجنبها قدر المستطاع، وساير تخاريف
ما يسمى "الشرعية الدولية" حتى لحظة الغزو، فإن المعركة فرضت عليه، بعد
العدوان الثلاثيني وثلاثة عشر عاماً من الحصار، فاضطر لخوضها وهو مثخنٌ
بالجراح. وبالرغم من ذلك، تمكن بموارده المحلية أساساً من أن يكسر جبروت
القطب الأوحد - فالمقاومة العراقية لم تكن تتمتع بدعم دولي أو إقليمي
كغيرها من المقاومات مثلاً - وكانت النتيجة أن العراق قدم التضحيات بلا
حساب ليس فقط لتحرير أرضه من رجس الاحتلال، بل أيضاً لتحرير البشرية برمتها من أحادية القطبية. هذا هو فضل العراق على العالم.
لكن
السياسة الدولية لا تقاس بالمعايير الوجدانية أو المعنوية أو الأخلاقية،
بالرغم من أهميتها، بل بمعايير المصالح والجغرافيا السياسية.
باختصار،
نعم، المقاومة العراقية والشعب العراقي وتضحياتهما هي التي سمحت للعالم أن
يقف على قدميه في وجه الولايات المتحدة، لكن القوى المستفيدة من شلل
الولايات المتحدة في العراق أولاً وأساساً، يعني روسيا والصين بالتحديد،
كانت قد تبنت منذ أمدٍ بعيد سياسة اللعب ضمن قواعد العلاقات الدولية، وعدم
دعم حركات التحرر، أو الحركات المسلحة بشكلٍ عام، واقتصار علاقاتها على
الدول، لكي لا تكون ذريعة لأمريكا لدعم حركات التفكيك والمنظمات غير
الحكومية الممولة أجنبياً لديهما. ولعل هذا أحد أسباب دفع أبخازيا
وأوستيا الجنوبية لإعلان نفسيهما دولاً مستقلة، مقارنة ببقائهما حركات
انفصالية مثلاً...
الصين
بالأخص تبنت سياسة دولية دفاعية تماماً، وهي تبني قوتها الاقتصادية، إلا
في جوارها المباشر، كما تايوان والتيبت مثلاًُ. وروسيا ما برحت تلعق
جراحها منذ انهيارها المريع، ولم يكن متوقعاً لها أن تقف على قدميها أصلاً
قبل عقود، لولا انشغال أمريكا بالعراق وارتفاع أسعار النفط والغاز.
وبالتالي،
بمقدار ما دفع العرب عامة، والعراق خاصة، فاتورة صعود روسيا والصين في
الساحة الدولية، وبمقدار ما تستفيد البشرية بأسرها من صعود روسيا والصين
كمنافسين جديين للولايات المتحدة، وكذلك استفادت سوريا والسودان مثلاً...
فإن روسيا والصين اختارتا أن تلعبا لعبة إيقاف تقدم دعم الولايات المتحدة
في الإقليم عن طريق دعم إيران، وهنا المشكلة.
إيران
لم تُقبل رسمياً بعد كعضو في منظمة شنغهاي للتعاون، لكن من الواضح أن رد
الفعل الروسي في جورجيا كان جزئياً لحماية إيران، وليس فقط لوقف تطويق
روسيا بحلف الناتو.
في
الوقت الذي يجب أن ندعم فيه بقوة ظهور أقطاب متعددة في الساحة الدولية،
علينا أن نتذكر بأن الدول العظمى تعمل لتحقيق مصالحها في النهاية. وميزة
اليوم (بعد نهاية الحرب الباردة)، عن ما قبل البارحة (أي زمن الحرب
الباردة)، هو أن مصالح الدول تظهر جلية، ولا تغلف بمعلبات أيديولوجية أو
دينية أو غيرها.
الاتحاد
السوفييتي السابق كان حليفاً بالفعل، ووجوده كان أفضل لنا من غيابه، لكن
علينا أن لا ننسى أنه اعترف بحق "إسرائيل" بالوجود، وأنه لم يكن متحمساً
أبداً لفكرة قيام الوحدة العربية في الخمسينات والستينات.
أما
روسيا والصين اليوم، كقوتين عظميين، فتبحثان عن توسيع نطاق مجالاتهما
الحيوية، وحقول نفوذهما. وهما لا تريدان أولاً التورط بإقامة علاقات مع،
أو بالمراهنة على، قوى غير رسمية أو غير حكومية، هذا على المدى القصير،
أما على المدى الطويل، فقد يفضلان منطقة عربية لهما حصة كبيرة فيها، في
نفطها وأسواقها وقرارها السياسي، على منطقة عربية مستقلة قوية متحدة
تنافسهما في آسيا وأفريقيا. لكنهما تبقيان بالرغم من ذلك حليفاً طبيعياً،
في مواجهة طغيان الهيمنة والاحتلال الأمريكي والصهيوني، وفي الساحة
الدولية، وفي دعم التنمية المستقلة وتنويع مصادر التسلح، الخ.. المهم،
صعود الروس والصينيين أمر جيد جداً، لكنه ليس بديلاً لمشروع النهوض
العربي، بل يسهله فقط لو حزمنا أمرنا.
على
كل حال، فلنبق على المدى القصير والملموس: حتى روسيا والصين ستتعاملان
معنا كغنائم إن لم نثبت وجودنا القوي المستقل. يجب أن يلقي العرب دعمهم
خلف المقاومة العراقية من أجل تحرير العراق واستعادة نظامه الوطني
المستقل. فمن منطقة محررة واحدة يستطيع العرب أن يبدأوا بفرض احترامهم
على روسيا والصين، وأن يبدأوا بسحب البساط من تحت أقدام مشروع الهيمنة
الفارسي على الإقليم، الذي يربط نفسه الآن بزخم الصعود الروسي-الصيني،
بعدما ربط نفسه بالبداية بالاحتلال الأمريكي لأفغانستان ثم العراق.