أحيت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، الـ “يونسكو”، نشاطاً ثقافياً لافتاً في طبيعته، ومفاجئاً بعض الشيء، هو “اليوم العالمي للّغة الأمّ” International Mother Language Day، تناول الأخطار المحيقة بما يقارب 3000 لغة، هي نصف التراث اللغوي البشري، معرّضة للإنقراض (69% من لغات العالم الـ 6000، ينطق بها 4% فقط من سكّان المعمورة). وقد كانت للكاتبة والروائية الجزائرية آسيا جبار (عضو الأكاديمية الفرنسية، وأوّل امرأة مسلمة جزائرية تشغل هذا المقام الرفيع، كما تفاخرت وزارة الخارجية الفرنسية في موقعها على الإنترنت!) مساهمة نشطة في أعمال المؤتمر، بدت استكمالاً لمواقفها السابقة من إشكالية اللغة الأمّ، والتي عبّرت عنها مراراً في صيغة مقالات، أو من خلال أعمالها الروائية العديدة.
والحال أنّ العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تقف خلف الواقع المأساوي الراهن للغات الآيلة على انقراض، لكنّ أحد هذه العوامل (التجربة الاستعمارية، التي خضع لها أكثر من ثلاثة أرباع البشرية في هذا الطور التاريخي أو ذاك)، غابت عن مداولات اليونسكو. وغابت معها، استطراداً ربما، حال المرأة ـ اللغة بوصفها أيضاً الطرف الإنساني المؤنث في اصطلاح “اللغة ـ الأمّ”. وإذا كانت المرأة قد شاركت الرجل أنساق الخضوع لأواليات القهر والقمع والإلغاء والتدجين في غمار التجربة الاستعمارية، فقد زادت عليه في خضوعها لقهر آخر يتّصل بطبيعة موقعها داخل المجتمع المحلي قبل مجيء الاستعمار، وأثناء أطواره، وبعد التحرر منه. و«ابن البلد» في عين المستعمِر هو «الآخَر» المعمَّم، امرأة كان أم رجلاً، أما المرأة فهي «آخَر الآخَر» في عين ابن البلد كما في أعراف الهيمنة البطريركية. إنها، كذلك، موضوع الرغبة البهيمية المحضة في عين المستعمِر الغربي الذي جمّد صورتها عند حدود الكتابات الإستشراقية ومناخات الحريم، حيث لا تتمكن من تمثيل نفسها خارج الجسد المجرّد من إنسانيته، كما أوضح إدوارد سعيد في عمله الكلاسيكي «الإستشراق».
ثمة، بالتالي، أواليات قهر إضافية تتسبب في اغتراب الكاتبة الأنثى مرّتين: الأولى عن هويتها الوطنية في سياق الاستعمار، والثانية عن هوّيتها الوطنية في سياق النظام البطريركي. وهي في الاغترابين تعيش حال نفي قصوى عن صوتها الخاص في تاريخها وهوّيتها ولغتها، ويعكس نصّها توتّراً شديداً في العيش ضمن صيغة «الآخر، تحت سقف الآخر»، بحيث يتضاعف الوجود والمعنى وتختفي أكثر من لغة واحدة طيّ الكتابة. ولعلّ غياب التجربة الاستعمارية عن مداولات اليونسكو يذكّر بحضورها الطاغي في رواية جبّار «الحب، الفانتازيا» L’Amour, la fantasia، 1985، حيث تندمج وتتقاطع سلسلة من الإشكاليات حول المرأة واللغة والهوية.
والرواية تستعيد تاريخ الغزو العسكري الفرنسي للجزائر منذ يومه الأول، فجر 13 حزيران (يونيو) 1830، وذلك في مستويات ثلاثة هي في الآن ذاته ثلاثة تواريخ: العمليات العسكرية للقوّات الفرنسية، والذاكرة القريبة للنضال الجزائري من أجل الاستقلال، والسيرة الذاتية للروائية كما ترد على لسان الشخصية الراوية. وهي في ذلك تحلل سلسلة من الوثائق والرسائل والصحف والمقالات التي تصف الغزو، كتبها شهود عيان فرنسيون، باستثناء واحدة كتبها الحاج أحمد أفندي، المفتي الحنفي للجزائر، وهي بدورها مكتوبة باللغة التركية ومن المنفى التركي الذي سيق إليه أحمد أفندي بسبب مناهضته للاستعمار. وهذه مفارقة إضافية مزدوجة، لأن الروائية تنقل بالفرنسية شهادة جزائرية مكتوبة بالتركية، واللغة العربية غائبة دائماً عن النصّ التاريخي الوثائقي، مثلما عن النصّ الروائي، حتى حين تسترجعه وتعيد بناءه أديبة جزائرية.
وتسرد جبّار روايات الغزو كما سجّلتها ذاكرة الجزائريين والجزائريات، ولم تحفظها سوى السجلات الأوروبية. ذلك يدفع الروائية ـ الراوية إلى أن تقصد مسقط رأسها في قرية جبلية على كتف المتوسط، لإجراء حوار تقاطعي بين النصوص الفرنسية المكتوبة والنصوص الجزائرية الشفاهية التي تسردها نسوة القرية الناطقات بالعربية العامية، وباللغة البربرية في القرى المجاورة. وسرعان ما يتضح انّ الغزو يشمل عنصرَيْ العنوان: الحبّ (وسوف يتضح جانبه المعقّد المتصل بالهوية الوطنية والذاتية والأنثوية)، والفانتازيا كمظهر ثقافي ـ اجتماعي جزائري أصيل حوّلته التجربة الاستعمارية إلى «فعل يمارسه حيوان متدرّب يُطلَب منه أن يزأر فقط» كما يقول الباحث الفرنسي ألبير ميمي.
ومنذ السطور الأولى في وصف الغزو، تشدّد جبّار على التماثل بين صورة الجزائر البلد وصورة الجزائرية المرأة، بحيث يتحوّل الغزو العسكري إلى عملية اغتصاب جسدي متخيَّلة، مشبعة بالرؤى الحسية الإستشراقية: «المدينة تظهر للمرّة الأولى في دور امرأة شرقية، غامضة وبلا حراك». وفي ناظر أمابل ماتيريه، صاحب الشهادة الأولى والمراقب والغازي في آن معاً، تندمج علاقة متكافئة بين الفتح العسكري والرغبة الجسدية، وتصبح المرأة الشرقية كناية عن الجزائر المستباحة: «لماذا تبدو هذه الحملة الأولى على الجزائر وكأنها ترجّع أصداء مضاجعة فاضحة؟ حين ينبلج فجر هذا اليوم الذي سيتقابل فيه الفريقان وجهاً لوجه، ماذا ستقول النسوة لبعضهن البعض؟ أية أحلام رومانتيكية ستتوهج في قلوبهن؟ لكأنّ الغزاة جاؤوا على هيئة عشاّق».
والمرأة موضوع رغبة حتى في المشهد المؤثّر لسيّدة جزائرية سقطت قتيلة قرب جثة جندي فرنسي، نهشت قلبه. وهذا المشهد يصفه البارون بارشو دو بينوين، الشاهد الثاني «الذي يكتب انطباعات طازجة عن المشهد بصفته المحارب والمراقب والرجل الذي وقع في غرام الأرض التي يحرقها». وهو يصفه في سياق تفصيلٍ تسجيليّ للحدث الرهيب الذي تلتقطه آسيا جبار لتدشّن به أولى التواريخ الدامية لغزو الجزائر. وذلك لحدث يدور حول عدد من المقاومين الجزائريين البربر، ممّن رفضوا الاستسلام للغزاة ولجأوا إلى الكهوف القريبة من القرية، فاستخدم الضابط الفرنسي بيليسييه سلاح الدخان لإخراجهم منها، فقضوا خنقاً، وكان عددهم 1500 من النساء والرجال والأطفال مع مواشيهم.
وفي سردها لهذه الواقعة الوحشية، والتي ستتكرر بعد شهرين على يد الكولونيل سانت ـ آرنو، تقتبس جبّار شهادة ضابط إسباني روى أنّ بيليسييه أمر جنوده بإخراج ستمائة جثة من ظلام الكهوف إلى ضياء الشمس، وتضيف إليها مقاطع من تقرير رسمي كان بيليسييه نفسه ينوي رفعه إلى رؤسائه: «وبيليسييه، الذي ينطق الآن بالنيابة عن هذا الألم الطويل، وبالنيابة عن 1500 جثة مدفونة أسفل قرية القنطرة، وبالنيابة عن المواشي التي لم تتوقف عن إطلاق ثغاء الموت، سلَّّمَني تقريره وأخذت منه هذا اللوح الذي أخطّ عليه، بدوري، مشاعر الألم المتفحمة التي عرفها أسلافي».
ولأنها تستخدم لغة المستعمِر لكي تسجّل وحشيته وبعض الذاكرة الدموية التي خلّفها، فإن كتابة جبّار بتلك اللغة تأخذ صفة الإشكالية المفتوحة. الكاتبة تضع نفسها في موقع ابنة البلد التي يجب أن تتوافق مع تاريخ بلدها الجزائر ومع نفسها كذاتٍ عربية مؤنثة تكتب بالفرنسية عن النساء العربيات اللواتي لا يتكلمن الفرنسية، وعن رجال عرب حجبوا عن النساء حقّ الكلام بالأصالة عن أنفسهن. وجبّار تقول: «بذلك فإن اللغة التي جهد والدي كثيراً لكي أتعلمها، تخدم الآن كوسيط لسرد التاريخ، وهي منذ الآن علامة مزدوجة متناقضة تهيمن على عَمَادتي في الحياة».
واللغة الفرنسية علامة مزدوجة لأنها جزء من ازدواجية السلطة البطريركية. الأب يريد لابنته أن تتعلم الفرنسية، ولكنه يكره لها أن تقرأ بالفرنسية رسالة غرامية كتبها فتى مراهق، فيمزق الرسالة وهو يقول: «لا ريب في أن كلّ عذراء متعلمة سوف تتقن قراءة وكتابة مثل هذه الرسائل الملعونة». وعبارة الأب تدخل في سياق فعل الكتابة ذاته، وفي منطق السياج الاجتماعي الذي يحيط به، خصوصاً حين يُوضع في خدمة محرّم محدّد مثل الحب: «سوف تحين الساعة لهذه العذراء، ويكون الحبّ الذي يكتب أكثر خطورة من الحبّ الذي يخبو خلف جدران موصدة». وجبّار هنا تلعب على التشابه اللفظي والاختلاف الكتابي بين كلمتي s’écrit (يُكتب) وكلمة ses cris (صرخاته)، بحيث يجري تبادل المواقع دلالياً بين الكتابة وإطلاق الصرخة، والعكس بالعكس. ولكنها لا تكتفي بذلك، فتنتقل من صيغة الضمير الغائب إلى صيغة المتكلم حين تتقمّص شخصية الفتاة المراهقة وتعيد تلصيق الرسالة، لكي تكتشف أنّ فرنسية هذا المراهق تقليدية وباردة، ولكن تحريم الأب لقراءتها أسبغ عليها جاذبية خاصة.
والعودة إلى عناصر السيرة الذاتية تتيح لآسيا جبّار متابعة هذا الخطّ في معادلات اللغة والكتابة والصمت، وتأخذ مرّة ثانية موقع الصبيّة بدرة، ابنة سي محمد بن كدرومة الوحيدة، التي تؤسر في يوم زفافها وتقاوم الأسر على نحو ينقلب إلى قدوة في الوجدان النسوي الجزائري. والراوية تتماهى مع بدرة وهي تتابع المفاوضات الشاقة بين أبيها وخطيبها، حيث جسدها هو موضوع المساومة، وحيث لا يقبل المتساومان بأيّ تنازل دون ثمن يُقتَطع من السلعة واستناداً إلى قوانين اقتصاد بضاعي. وفي برهة ما تتداخل صورة المتفاوضَيْن مع صورة اللغة المستعمِرة واللغة المستعمَرة وتوتّر الصمت والكتابة في ذلك كلّه: «هذا العالم الغريب الذي اخترقوه وكأنهم يخترقون امرأة، هذا العالم يواصل الصراخ بلا توقف. لقد تمّ الاستيلاء على أفريقيا واختراقها وفضّ بكارتها، بالرغم من صرخات الاحتجاج التي لا تستطيع كتمها».
وفي الجزء الثالث من الرواية، والذي يحمل العنوان الدالّ «أصوات مدفونة»، تكتب جبّار: «للرجل الحقّ في أربع زوجات شرعيات، ولنا نحن الصبايا الراشدات الحقّ في أربع لغات للتعبير عن رغباتنا، غير الحقّ في التأوّه والأنين: اللغة الفرنسية من أجل المكاتبات السرية، واللغة العربية من أجل رغباتنا المخنوقة في الوصول إلى الربّ ـ الأب والربّ ـ صاحب الكتاب، واللغة البربرية ـ الليبية التي تردّنا إلى الآلهة الوثنية والأمهات الإلهات في مكّة قبل الاسلام. أما اللغة الرابعة الخاصة بجميع الجنس المؤنث ــ الشابات والعجائز، المحجور عليهنّ وأنصاف المتحررات ــ فهي لغة الجسد: ذلك الجسد الذي يريد أبناء العمّ وأعين الجيران الذكور أن يكون أصمّ أعمى».
ولغة المستعمِر تبرهن هنا على العائق الأقصى، خصوصاً في القسم الثالث من الرواية حيث تتزايد مناخات الاغتراب والاقتلاع، ويتذبذب السرد بين ضمير المتكلم وضمير الغائب، وتصبح اللغة تشخيصاً ممتازاً لثنائية الانتماء والنفي: «منذ طفولتي خدمتني اللغة الأجنبية كنافذة أطلّ منها على مشهد العالم وكنوزه. ولكنها سرعان ما انقلبت إلى مِدْية مسلطة على عنقي». بل إن الأمر يبلغ عند الراوية حدّ اختيار الحَبْسة Aphasia الطوعية، أي القرار الذاتي بفقدان القدرة على الكلام، في مسائل الحب كما في استرجاع ذاكرة الفتح الاستعماري: «هذه اللاإمكانية في الحبّ دعمتها ذاكرة الفتح. لقد ورثتُ هذه الكتامة، ومنذ مراهقتي جرّبت نوعاً من الحبسة في مسائل الحب: لقد تراجعت أمامي الكلمات المكتوبة، الكلمات التي تعلمتها».
وفي نهايات الرواية لا تترك آسيا جبّار ظلاً للشك في طبيعة هذا الانقسام الثنائي: «حين أكتب وأقرأ بلغة أجنبية، فإن جسدي يسافر إلى فضاء تدميري. الكلمات التي أستخدمها لا تعكس واقعاً من لحم ودم. وجميع ما تعلمته في القراءة والكتابة يقذف بي نحو موقع ثنائي الانقسام. وضربة الحظ هذه تضعني عند حافة الانهيار». هذه الثنائية في استخدام اللغة، أو هذا التعارض بين الانتماء والاقتلاع وبين الذات والآخر، يختزل المتكلم (أو المتكلمة بالأحرى) إلى كائن يرتكز تشكيل هوّيته على حقلين لغويين وثقافيين منفصلين، يتكاملان في ترسيخ الثنائية وتجريد الهوية من سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية. ذلك لأن استخدام اللغة العربية يرتبط على نحو وثيق بتشكيل الهوية، ويلعب دور «البرهة التطهيرية المطلقة»، على حدّ تعبير جبّار، الأمر الذي يرتطم على نحو حاد بالاستخدام القسري للغة الفرنسية التي تحرّر وتأسر في آن معاً.
وضمن هذا المعنى بالذات يمكن أيضاً إثارة الأطروحة التي تحاجج بأنّ مفارقة الكتابة بلغة المستعمِر (المفروضة من الخارج بفعل اعتبارات الاستيعاب الثقافي أو المثاقفة الإلزامية) هي أيضاً عتبة للقمع الثاني الذي تخضع له المرأة بوصفها «آخَر الآخَر»، وأداة كتابة وإعادة كتابة الخطاب الجمالي التحريري على صعيد الذات المؤنثة. والحقّ أننا لا نحتاج إلى استراتيجيات تحليلية معقدة لكي ندرك هذا الجانب، وآسيا جبّار توفّره على نحو مدهش حين تقول: «الفرنسية هي لسان زوجة الأب. ما هو اللسان الأمّ الضائع منذ زمن بعيد، والذي تخلّى عنّي واختفى؟ تثقلني المحرّمات الموروثة، وأكتشف أنني لا أملك ذاكرة من أغاني الحبّ العربية. الحبّ وصرخاته (الحبّ يُكتب)... المسألة لم تعد تتعلّق بالكتابة من أجل البقاء على قيد الحياة فقط. وبعد أكثر من قرن على الاحتلال الفرنسي، ما تزال توجد أرض محايدة بين الفرنسية واللغات الأصلية، بين ذاكرتين وطنيتين. واللسان الفرنسي، بجسده وصوته، أسّس في داخلي موقع تحصين يدعو إلى الفخار، في حين أن اللسان الأمّ كان يقاوم ويهاجم بتراثه الشفاهي فقط. أنا في الآن ذاته الأجنبية المحاصرة وابنة البلد المترنحة الموشكة على الموت».
وبعض هذا اللسان الأمّ الضائع تجده آسيا جبّار في حواراتها مع عجائز القرية ومشاركتها في تقليد جزائري يقوم على سرد الأقاصيص و«الثرثرة» و«الوشوشة» من أجل إيقاظ الصوت واستعادة «أكبر قدر ممكن من الأخوات الضائعات». وبعضه تجده بمعنى رمزي عند رسّام مثل أوجين دولاكروا (1798 ـ 1863) يهديها صورة المرأة/الحرّية التي تقود الشعوب، وآخر كاتب ـ رسّام ـ مستشرق مثل أوجين فرومنتان (1820 ـ 1876) يهديها «يداً غير منتظرة، يد امرأة مجهولة لم يكن بمقدوره أن يرسمها. إنه يصف، على نحو شرير، كيف غادر الواحة بعد ستة أشهر من مذبحة الكهوف، وأثناء مسيره عثر في التراب على يد مبتورة لامرأة جزائرية مجهولة. بعد ذلك رمي اليد وتابع سيره. لقد التقطتُ تلك اليد الحيّة، يد البَتْر والذاكرة، وحاولت أن أضع فيها القلم qalam (الكلام، الكتابة)».
وهي، ثالثاً، تستعيد اللسان الأمّ الضائع حين تكتب، وفي سياق فعل الكتابة تنبش من رماد الأيام رسائل امرأة فرنسية هي التي ستصالحها مع الجانب الإنساني في لغة زوجة الأب، ومع تراث آخر في ثقافة وحضارة المستعمِر يختلف كلّ الاختلاف عن مذابح الكهوف واستباحة الجزائر. إنها ماريه ديزيريه بولين رولان، المعروفة اختصاراً باسم «بولين» (1805 ـ 1852)، وهي امرأة ثورية سان ـ سيمونية ونسوية داعية إلى السلام، نفاها نابليون إلى الجزائر بعد ثورة 1848 فعاشت في كنف الجزائريات كواحدة منهنّ، وكتبت إلى أصدقائها في فرنسا تصف علاقتها بنساء الجزائر اللواتي شاركتهنّ ظروف السجن القاسية وآسيا جبّار تعتبر «بولين» السلف الحقيقي لنساء الجزائر، وأمّ المجاهدات، وممثلة لسانٍ تستطيع الروائية الانتماء إليه دون أن تفقد هويتها. أيكون هذا التماهي بالذات هو «المنفذ» الذي تحدّث عنه فرانز فانون في وصفه لسيكولوجية المقهور، حيث يلقي هذا الأخير بنفسه، «بيأس الغريق»، على ثقافة القاهر، أو على هذا أو ذاك من عناصرها الإيجابية المضيئة في أقلّ تقدير؟ أم هو منفذ من هذا النوع، ولكنه مطعّم بالتعطّش إلى التحرّر الآخر: تحرّر المرأة من وضعها كـ «آخَر الآخَر»؟ أم هو المزيج من هذا وذاك، الذي اعتبرته آسيا جبّار «جرحاً عميقاً ينفتح أخيراً، وبالتدريج، ليحرز أغنيته»، حيث «النسوة يتقدّمن كأطياف بيضاء، وكشخوص مكفّنة مدفونة طولانياً، لكي يمنعنني من القيام بما أقوم به الآن، أي منعهنّ من إطلاق عواء الوجع الدائم: تلك الصرخة الضارية البربرية، والراسب المروّع لقرن لا بدّ أن ينصرم».