سعيكم غير مشكور.. مجدداً!
صبحي حديدي
2012-03-11
إذا
كان النظام السوري، خصم الانتفاضة وعدوّها الأوّل، يتكالب على أبنائها
بالحديد والنار والأسلحة الفتاكة كافة، فإنّ بعض 'أصدقاء' الانتفاضة، هنا
وهناك في العالم، يتكالبون عليها بدورهم، تحت لافتات شتى فضفاضة، تزعم
تأييدها، وتحثّ على دعمها مادياً وسياسياً وعسكرياً؛ لكنها، في الحصيلة
الفعلية، تنتهي إلى النقيض، فلا تخدم الحراك الشعبي، بقدر ما تصبّ في
مصلحة النظام. هذه صداقة تدسّ السمّ في الدسم، كما يقول التعبير الشهير،
عن سابق قصد وتصميم، وعن نفاق وتكلف؛ فلا هي تصدق مع الشعب وانتفاضته،
أياً كانت مستويات الصدق المنتظَرة أو المرجوّة؛ ولا هي تحول دون استغلال
النظام لها بما يجعل القاتل ضحية.
مؤخراً، تلقى الرئيس الأمريكي باراك
أوباما رسالة مفتوحة، كانت وراء تدبيجها والتوقيع عليها اثنتان من
المؤسسات الأبرز للمحافظين الجدد في أمريكا: 'مبادرة السياسة الخارجية'،
التي تزعم الدفاع عن قيادة أمريكية أولى، مسلّحة وأقرب إلى دور الشرطي
الكوني، للعالم المعاصر؛ و'مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات'، التي تأسست بعد
هجمات 11/9/2001، بهدف 'الدفاع عن الأمم الحرّة في وجه أعدائها'. والرسالة
حملت تواقيع 56 من 'خبراء السياسة الخارجية ومسؤولين سابقين في حكومة
الولايات المتحدة'، كما عرّفوا عن أنفسهم؛ بينهم كارل روف، المستشار
السابق في إدارة جورج بوش الابن، ومهندس حملاته الانتخابية؛ جيمس ووزلي،
المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية؛ بول بريمر، الحاكم
الأمريكي للعراق بعد غزو 2003؛ وروبرت مكفارلين، مستشار الأمن القومي في
عهد رونالد ريغان.
بين أصحاب التواقيع، أيضاً، ثلة من عتاة
المحافظــــين الجــــدد، أمثال جون بودوريتز، محرر 'كومنتري'، الشهرية
الأعلى ولاء لليمين الصهيوني؛ دانيــــيلا بليتكا، نائبـــة رئيـــــس
دراسات السياسة الخــــارجية والدفاع في المؤسسة اليمينية الأعرق American
Enterprise Institute؛ وليام كريستول، نجل إرفنغ كريستول، الأب الروحي
لفلسفة المحافظين الجدد، ومؤسس مجلة الـ 'ويكلي ستاندارد' بتمويل سخيّ من
الملياردير اليهودي الشهير روبرت مردوخ؛ وإليزابيث شيني، ابنة ديك شيني،
نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، وإحدى أبرز صقور الحزب الجمهوري. وليس لهذه
اللائحة أن تكتمل (أو تتكامل، بالأحرى) إلا إذا كان في عدادها أناس من
أصول عربية وسورية: خيري أباظة، عمار عبد الحميد، حسين عبد الحسين، فؤاد
عجمي، توني بدران، خولة يوسف، ورضوان زيادة (بالترتيب الأبجدي اللاتيني).
الرسالة
تحثّ على القيام بخطوات أشدّ فعالية لمنع النظام السوري من الاستمرار في
ارتكاب الفظائع بحقّ المدنيين السوريين، كما تطالب بفرض 'مناطق آمنة'،
وأخرى 'محظورة الدخول' على جيش النظام حول حمص وإدلب وسواها من المناطق
المهددة، وتدعو إلى التواصل مع 'الجيش السوري الحرّ' بالتنسيق مع
'الحلفاء' في المنطقة، وتزويده بنطاق تامّ من المساعدة، بما في ذلك وسائل
الدفاع عن النفس. في الإجراءات الأخرى، تحثّ الرسالة على تنسيق أمريكي
أفضل مع 'مجموعات المعارضة السياسية'، وتزويدها بتكنولوجيات الاتصال
المأمونة، بما 'يساعد في تحسين قدرتها على التحضير لسورية ما بعد الأسد'؛
وتناشد الكونغرس الأمريكي فرض عقوبات عسكرية شديدة على 'الحكومة السورية'،
خاصة في قطاعات الطاقة والمصارف والتوريد.
فما الذي تريده الانتفاضة،
أكثر؟ لم يتبقّ سوى قيام الموقّعين بامتطاء دبابة أمريكية (حسب الاستعارة
العتيقة المكرورة، التي يلوكها البعض من قبيل الإدمان الصرف، أو العوز
اللفظي)، واقتحام دمشق العاصمة من أوسع بوّاباتها، والمرابطة أمام قصر
الروضة، أو الصعود حتى قصر قاسيون، واقتياد بشار الأسد إلى محكمة الجنايات
الدولية، بعد رفع علم الاستقلال السوري بالطبع! وكيف للمرء، بعد قراءة
رسالة مثل هذه، أن يلوم ذلك الطراز الآخر من الحقّ الذي يُراد به الباطل
وحده، الذي يدّعي الحرص على 'مصلحة' الشعب السوري، ويستعيذ بالله من عواقب
الحرب الأهلية، وتقسيم البلاد، وسقوط سورية لقمة سائغة في قبضة القوى
الطامعة (وهذه تشمل الإمبريالية والاستعمار الجديد والصهيونية العالمية،
دون أن تُسقط اتفاقيات سايكس ـ بيكو من الحساب)؟ هذه، بدورها، تقدّم
للنظام خدمة مماثلة، إذْ ليس أسهل على أجهزته من توظيف دموع التماسيح،
المنهمرة تباكياً على حــكم 'مقاوِم' و'ممانع' يواجه تحالفاً باغياً!
بيد
أنّ الشعب السوري أدرك، عن كثب وحصافة، طبائع الصراع مع النظام، وخارطة
القوى، الصديقة والعدوّة والوسيطة، المشاركة في صناعة معادلاته، ومشاقّ
هذا المشهد المعقد؛ وتبصّر فيها ساعة بساعة، وعايشها في كلّ نسق من أنساق
الحراك، منذ طلائع الشهداء في درعا، وحتى الرقم الذي يقــــترب اليوم من
العشـــرة آلاف شهـــيد. جـــوابه الأهمّ، حتى الساعة، هو تشديد الصفة
السلمية والوطنــــية للانتفـــاضة، إذْ لم يسبق أن مرّ أسبوع لم تبلغ فيه
التــــظاهرات معــــدّلاً أعلى من الذي ســبقه. صحيح أنّ حصيلة التضحيات
فادحة، إلا أنها لا تكفّ عن مراكمة الانتصارات اليــومية، الصغير منها
والكبير، في وجه نظام لم يردعه رادع، بقدر ما تلقى تطمينات صريحة، وأخرى
مبطنة.
وتلك الأحابيل، التي تغوي بتجرّع السمّ في الدسم، لم تنطلِ على
الشعب السوري طيلة سنة تقريباً؛ وما الشعار الشعبي الشائع 'يا الله، ما
إلنا غيرك يا الله!' سوى صياغة أخرى تقول لـ'أصدقاء' سورية الكَذَبة، على
طرفَيْ المعادلة: سعيكم غير مشكور، و... حلّوا عنّا!