نقد النظرية المادية الكلاسيكية للوعي و استعراض النظرية الحديثة
نظرا لما يحتله الوعي من الأهمية في تعريف الكائن الحي و العاقل فإن عدة نظريات كُتبت لتفسيره و قولبته بشكل يحدد خطوط علاقته مع المادة و تأثيره فيها و تأثره منها و أول نظرية عمومية لوصف تلك العلاقة - المادة و الوعي - هي النظرية المادية الكلاسيكية للوعي و قد بقيت تلك النظرية محرابا يتلوا فيه الماديون صلواتهم فترة طويلة من الزمن حتى ظهرت نظرية جديدة
كانت أكثر تماسكا و منطقية و قد اعتمدت النظرية الجديدة على العلم و الفيزياء أكثر من اعتمادها على الفلسفة بينما كانت الأولى
مرتكزة على بحوث عالم النفس الأكثر شهرة سيجموند فرويد الذي وضع تعاريفا غاية في الأهمية لأقسام العقل و تصرفاته و إداركه للمادة و تعامله معها ......
بقلم الكاتب :
إن هذه المقالة لا تمثل براءة اختراع لمؤلفها بل هي تجميع لنصوص كتبها علماء و فلاسفة كبار. قام المؤلف الذي اقتنع بآراء هؤلاء العلماء و الفلاسفة بعد أن تبين له علمية آرائهم بتجميعها ونسخها وترجمتها معنويا وتحوير قسم منها بما يتفق ورأي العلم في لحظة التأليف من خلال تحوير النص او تغير المصطلح بحيث يؤدي ذلك الى حذف الآراء التي لم يقبلها العلم او التي لم يحسم امره بعد فيها وينطبق ذلك على نصوص الفيلسوف كارل بوبر المأخوذة من مؤلفه الخالد : النفس ودماغها .
في مقالتنا هذه سنتطرق لنقد النظرية المادية الكلاسيكية للوعي وبيان عيوبها ونقاط الضعف فيها كمقدمة لمقالتنا التالية المتعلقة بعرض للنظرية المادية الحديثة (الحالية) للوعي
وكتوطئة للموضوع وتقديم لا بد منه يجب ان نبدأ بتعريف عن نظرية اقسام العقل التي وضعها العلامة سيجموند فرويد والتي لابد من التطرق اليها لنعرف حول ماذا تختلف النظرية المادية الكلاسيكية والمادية الحديثة للوعي او عن أي جزء من العقل تختلفان حوله؟
نظرية فرويد في اقسام العقل
لقد قسم العلامة سيجموند فرويد العقل البشري الى عدة اقسام. وقد وضع نموذجين لتقسيم العقل هما حسب التسلسل التأريخي
النموذج الطوبوغرافي: ينقسم العقل البشري بموجب هذا النموذج الى ثلاثة اقسام هي
العقل الواعي: ويشمل الافكار والمشاعر والاحاسين والصور العقلية والخيالات التي نعيها وندركها ونحسها بصورة مباشرة والتي تتكون لدينا بنتيجة عمل الحواس من لحظة الى اخرى دون ارادة مسبقة. ويشتمل العقل الواعي على ثلاثة عناصر رئيسية هي: الادراك الحسي (ومن ثم تفسيره على ضوء الخبرات السابقة المكتسبة) ، والمشاعر ، والإرادة
العقل اللاواعي: ويشمل الافكار والمشاعر والاحاسيس والصور العقلية التي لا نعيها وانما تكون مخزونة في ذاكرتنا الطويلة الامد والتي لا نستطيع استرجاعها بطلب من الارادة الواعية ، وبعبارة اخرى نستطيع ان نعرفه بانه ذلك الجزء من الذاكرة الطويلة المدى التي لا نستطيع استرجاعها بطلب من الارادة
العقل تحت الواعي: ويشمل ما ليس موجود في الوعي في لحظة معينة حيث يكون مستقر في الذاكرة الطويلة المدى - أي العقل غير الواعي - لكن نستطيع استرجاعها الى الوعي بطلب من الارادة ، أي انه ذلك الجزء من الذاكرة الطويلة الامد الذي يمكن أن يسترجع بطلب من الارادة
النموذج التركيبي: وينقسم العقل بموجب هذا النموذج الى
أنا أو (Ego)
ويشتمل على جزئين : واعي وغير واعي. فاما الجزء الواعي فهو يقابل العقل الواعي في النموذج الطوبوغرافي ، في حين أن الجزء غير الواعي يشمل ذلك المسؤول عن القيام بوظيفة الكبت
الهو أو (Id)
وهو جزء من العقل غير الواعي في النموذج الطوبوغرافي ويشمل الاحاسيس والمشاعر من هذا الجزء
أنا عليا أو (Super Ego)
وهذا جزء من القسم غير الواعي من ال (أنا) والذي يشتمل على المثل والقيم العليا للفرد والمتأتية من ما لقن به الفرد في الطفولة ، والتي تطفو الى السطح من وقت لآخر في الحياة اليومية الواعية لتحددة من سلوكية الفرد واستجاباته وتوجهها وفقا لهذه القيم
إن العقل الواعي ككل (والإرادة على وجه الخصوص) هو ذلك القسم من العقل الذي يدور حوله الخلاف بين النظريات المادية الكلاسيكية للوعي - ومنها النظرية الماركسية الكلاسيكية - من جهة ، والنظرية المادية الحديثة للوعي من جهة اخرى. أما العقل اللاواعي فلا مشكلة معه حيث يتفق العلماء بأنه ليس إلا وظيفة فسيولوجية للدماغ وبالتحديد جزئه المعروف بالنظام الطرفي .
النظرية المادية الكلاسيكية للعلاقة بين المادة والوعي[/center
عرض للنظرية: ترى النظريات المادية الكلاسيكية للوعي (ومنها النظرية الماركسية الكلاسيكية) بأن العقل بكل اجزائه واقسامه ليس إلا وظيفة للدماغ أي انه انعكاس للفعالية الفسيولوجية للدماغ. فالظواهر العقلية كلها حسب هذه النظرية ليست سوى ظواهر مصاحبة للفعالية الفسيولوجية للدماغ بمعنى انها ليست سوى وهم. ويمكن تلخيص اركانها كما يأتي :
نظرية التطابق (Identity theory) : والتي تقول بالتطابق المطلق للفعاليات العقلية مع الفعاليات الفسلجية للدماغ
فهذه النظرية ترى أن الظواهر العقلية متماثلة بصورة مطلقة للظواهر الفسيولوجية للدماغ. فهذه النظرية ترى أن العقل والدماغ هما نفس الشيء. أي أن العقل ع = الدماغ غ (لاحظ الهامش رقم 1) ومن هذه الفكرة جاء الركن الثاني وهو
نظرية التصاحب ( Epiphenomenalism ) : وهي كما قلنا ترى أن الفعاليات العقلية ليست سوى ظواهر
مصاحبة للفعاليات الفسيولوجية للدماغ فهي ليست سوى مظهر او وهم. ينتج من ذلك - كنتيجة مباشرة - أن العقل والوظائف العقلية ليست سوى ظواهر سلبية وليست فعالة (لاحظ الهامش رقم 2). ومن ذلك ينتج الركن الثالث وهو :
الأختزال (Reductionism ) : وهي نظرية ترى أن جميع الظواهر العقلية يمكن اختزالها (أي ارجاعها) الى
ظواهر فسيولوجة الدماغ. فبموجب هذه النظرية يمكن توضيح وشرح جميع الظواهر العقلية بالظواهر الفسيولوجية الدماغية على اعتبار أن الظواهر العقلية هي انعكاس للظواهر الفسيولوجية باعتبار أن جميع مكونات العقل من فعاليات وظواهر عقلية هي وظيفة للدماغ. من هذا الركن ينتج - كما من سابقه - أن الفعاليات العقلية ليست سوى ظواهر سلبية وليست فعالة
نقد النظرية :
لقد تربعت هذه النظرية طويلا على عرش العلم وضلت سائدة سيادة مطلقة ، حتى حلول الخمسينات بعد أن اثبتت الظواهر الباراسايكولوجية. فعندها بدئت الطعون والنقد يوجه لها ، وبدئت نقاط الضعف فيها تبدو للعيان شيئا فشيئا. لكن برغم ذلك ضلت كل هذه الطعون على الهامش وبقيت هذه النظرية هي السائدة الى بداية التسعينات حيث انزلت عن عرشها من خلال اثبات الجزء الصعب من نظرية أكلس - بوبر حول العقل الواعي لذاته ونعني به ذلك الجزء المتعلق بمنشأ الافعال الارادية والنبضات الكهربائية العصبية اللازمة لتوليدها كما سنتطرق لذلك لاحقا
يمكن اجمال اهم نقاط الضعف في هذه النظرية بما يأتي
[b]اولا : بالنسبة لنظرية التطابق او التماثل فهي تتناقض مع قوانين الثرموداينمك في التغير المستمر. فقد اثبتت قوانين الثرموداينمك بان من صفات الكون الرئيسية الاستمرارية بالتغير. وكنتيجة منطقية لذلك لا يوجد هناك شيئآن متطابقان تماما. حتى الشيء الواحد لا يتطابق مع نفسه. فكما علم الفيلسوف هيراقليط لا يمكن لشخص أن يسبح في نفس النهر مرتين. فالشخص خ في اللحظة الزمنية ن1 ومكان م1 ليس هو بالضبط ذات الشخص نفسه في لحظة زمنية اخرى ن2 ومكان آخر م2
أي أن: خ ن1 م1 لايساوي خ ن2 م2
وبالتالي فأن الظواهر العقلية لا يمكن أن تتطابق مع الظواهر الفسيولوجية الدماغية بأي حال من الاحوال. فأذا كان الدماغ غ في لحظة ن1 ومكان م1 ليس هو نفس الدماغ تماما في لحظة ن2 ومكان م2 ، فكيف اذن يكون العقل ع متطابق مع (أي هو نفسه) الدماغ غ؟ أي أن ع لا يمكن أن يساوي غ
[b]ثانيا : نظرية التصاحب ينتج منها جملة صعوبات نظرية جمة وكبيرة يمكن ايجازها بما يأتي
أ) اذا صح أن العقل مجرد ظاهرة مصاحبة للفعاليات الفسيولوجية الدماغية أي انه مجرد مظهر للوظائف الفسيولوجية للدماغ أي مجرد وهم أي ظاهرة سلبية وليست فعالة ، ينتج من ذلك مباشرة أن العقل والظواهر العقلية هي صفات غير تكيفة وهذا يتناقض مع نظرية التطور العضوي. ذلك أن بموجب نظرية التطور العضوي الحديثة او ما تسمى بالنظرية التركيبية يمكن أن تظهر صفات غير تكيفية وأن تبقى. فالسلوك الحر - التصادفي - للفوتون والذرة هو مصدر ظهور الصفات الجديدة من خلال الطفرات الوراثية والتعابر والانجراف الوراثي وغيرها من ميكانيكيات ظهور الصفات الموروثة. بنتيجة زيادة عدد الكائنات الحية بمتواليات هندسية في حين أن الثروات الطبيعية تزداد بمتواليات عددية يحصل صراع بين الكائنات الحية من اجل البقاء. طبيعة المحيط هي التي تحدد كون الصفة الوراثية تكيفية (ذات فائدة للكائن في صراعه من اجل البقاء) او غير تكيفية (أي غير مفيدة في هذه العملية). بعملية الصراع تهلك الكائنات التي لا تحظى بصفات تكيفية في حين تبقى تلك التي تملك مثل هذه الصفات (ظاهرة الانتخاب الطبيعي). وبتكرار العملية - ظهور صفات جديدة ، صراع ، هلاك غير التكيفي وبقاء التكيفي ، تتجمع الصفات التكيفية وتتراكم في حين تسقط الصفات غير التكيفية وتؤدي عملية التهذيب والصقل هذه الى ظهور كائنات جديدة عليا (ارقى) من كائنات دنيا سابقة لها في الظهور. كانت نظرية التطور التي وضهعا دارون والقائمة على توارث الصفات المكتسبة لا تستطيع تفسير ظهور صفات غير تكيفية في أي من الكائنات الحية الموجودة حاليا فمثل هذه الصفات غير التكيفية يمكن أن نعثر عليها في الكائنات المنقرضة فقط. وهذا غير واقع الحال فهناك الكثير من الصفات غير التكيفية موجودة في الكائنات الحية المعاصرة مثل لون ريش الطيور الجميلة لا تحمل صفة تكيفية. بظهور علم الوراثة ظهرت الدارونية الجديدة القائمة على اساس علم الوراثة فنجحت هذه النظرية في تفسير وجود صفات غير تكيفية في الكائنات الحية المعاصرة الموجودة في وقتنا هذا. فمثل هكذا صفات غير تكيفية كوجود الزائدة الدودية عند الانسان يمكن أن تظل رغم استمرار عملية التهذيب وذلك بأن تورث كصفة متنحية او من خلال الانعزال الحر. أن الذي يناقض نظرية التطور العضوي في حالة فرض أن العقل هو ظاهرة سالبة وغير فعالة (أي صفة غير تكيفية) هو :
1) الصفة لكي تكون غير تكيفية (أي لا غير متضمنة لاهمية بقائية) يجب أن لا تكون ذات بنيان عالي المستوى من حيث التصميم والتنظيم والرقي ، وهذا لا ينطبق مع الوظائف العقلية حيث يظهر ذلك جليا واضحا من خلال الكتب الضخمة التي تؤلف لتصف هذه الظواهر وتدرسها فكل مكون او وظيفة من وظائف العقل يحتاج الى مجلدات ومجلدات لشرحه واستيعابه .
2) ان الظواهر العقلية لها دور وظيفي وتطوري واضح للعيان ووظائفها تزداد اهمية كلما ارتقينا من كائنات دنيا الى كائنات اعلى مرتبة. ان ظهور العقل والعمليات العقلية يؤخذ بنظر الاعتبار من وجهة نظر الدارونية ، في حين أن نظرية الظاهرة المصاحبة لا تأخذ هذا الدور الوظيفي الفعال للعقل في حسبانها فهي تعتبره ظاهرة سالبة ، مجرد مظهر (وهم) لا غير. على العكس من ذلك فأن نظرية التطور تأخذ ذلك في اعتبارها ذلك انها تعتبر أن هناك قيمة بقائية لظهور العقل. فعلى سبيل المثال الشعور بالالم يعتبر من وجهة نظر نظرية التطور اشارة تحذير للكائن الحي تنبهه للخطر. وبصورة عامة الدارونيين يعتبرون العقل شيء مناظر لعضو جسدي نشأ بفعل الانتخاب الطبيعي. ان وظيفة العقل هي المساعدة في عملية تكيف الكائن للبيئة. فوجهة النظر الدارونية تتمثل بأن الوعي والعمليات العقلية بصورة عامة يجب أن تعتبر (وتفسر إن أمكن ذلك) كنتيجة من نواتج عملية التطور بالانتخاب الطبيعي. فاذا كانت عملية الانتخاب الطبيعي مسؤولة عن ظهور الوعي فأن نظرية الانتخاب الطبيعي يجب أن توضح الكيفية التي من خلالها يؤدي ظهور العقل (والمنطق) الى اكساب الكائن صفات تكيفية تساعده على البقاء. ان عملية الانتخاب الطبيعي تعتبر بصورة او بأخرى صراع عنيف من اجل البقاء. لكن بظهور العقل (والمنطق) والنظريات تغير ذلك. فنحن نستطيع أن ندع نظرياتنا تتصارع وتتقاتل ونستطيع أن نجعل نظرياتنا هي التي تموت في الصراع عوضا عن أن نموت نحن في الصراع- وهذا ما يصطلح عليه كارل بوبربالانتخاب النقدي. فمن وجهة نظر الانتخاب الطبيعي فأن الوظيفة الرئيسية للعقل هي انه يسمح لتطبيق التعلم من طريق المحاولة وازالة الاخطاء من دول ازالة عنيفة لانفسنا وفي هذا يكمن الدور البقائي العظيم للعقل (والمنطق) لذا فبظهور العقل والمنطق يسمو الانتخاب الطبيعي على نفسه وصفاته الاصلية العنيفة بظهور ما يسميه كارل بوبر بالانتخاب النقدي. من ذلك يظهر جليا واضحا إن نظرية التصاحب تتناقض مع نظرية التطور لانها على العكس من الأخيرة تعتبر العقل ظاهرة مصاحبة (سالبة) أي مجرد مظهر أي وهم .
ب) أن اعتبار العقل مجرد مظهر أي وهم كونه ظاهرة سالبة مترافقة مع الفعالية الفسيولوجية للدماغ يؤدي بالضرورة الى اعتبار أن المنطق (بأعتباره شيء عقلي كونه واحد من مكونات العقل) وهم ايضا وهذا سيؤدي الى خلق صعوبة نظرية كبيرة جدا. فاذا سحبنا نظرية المصاحبة على النقاش والجدل وتوزين ما نسوقه من تبريرات اثناء الجدل فان هذه النظرية تعد انتحارية. ذلك لان هذه النظرية بما انها تعتبر ان الظواهر العقلية ليست سوى وهم (مظهر لفعالية الدماغ الفسيولوجية) ستؤدي الى اعتبار ان النقاشات والجدل والمبررات ليست سوى اوهام كونها من الظواهر والنشاطات العقلية ، وبالتالي فهي لا تستطيع ان تؤثر على امزجتنا للعمل كالكلام او الكتابة ولا على الافعال نفسها. فهذه كلها ناتجة من مؤثرات ميكانيكية ، فيزيو- كيميائية ، ضوئية او كهربائية. فاذا كانت نظرية المصاحبة صحيحة سينتج من ذلك اننا لا نستطيع ان ناخذ على محمل الجد أي مبرر او نقاش مهما قيل لتدعيمه بحجج منطقية. ذلك أن المنطق ، نظرية التقيم العقلاني للآراء ، اداة ضرورية للحكم على الافكار والنظريات والفرضيات من حيث كونها صحيحة ام خاطئة وبدونه يستحيل انجاز هذه العملية. والمنطق هو شيء عقلي (أي انه اداة عقلية) وبالتالي يستحيل هو الآخر الى وهم اذا كانت نظرية المصاحبة صحيحة وبنتيجة ذلك لن تستطيع ان نعتمد على المنطق في البرهان على صحة النظريات حتى وان كانت صحيحة فكل النظريات حتى وان كانت صحيحة فكل النظريات في هذه الحالة بما في ذلك النظرية المادية ستتحول الى مجرد نظرية ميتافيزيقية لايمكن البرهان على صحتها باستعمال الادلة المنطقية حتى وان كانت صحيحة لأن المنطق (العقلي) ليس سوى وهم أي ظاهرة مصاحبة .
فحتى لو كان العقل الواعي ناتج ومشتق من الجسم (على الأخص الدماغ) يجب أن يصبح مستقل الى حد كبير ذلك انه في النقاش والجدل النقدي يجب أن يوجه العقل الواعي نفسه بنفسه بالاعتماد على معاير خاصة (المنطق) اكثر من ما يفعل ذلك اعتمادا على الدماغ. فلو كان العقل الواعي مجرد ظاهرة مصاحبة لفعالية الدماغ الفسيولوجية عندها فان كل معتقداتنا ستكون في هذه الحالة مجرد اوهام لاتختلف عن أي اوهام اخرى وهذا سينسحب على كل المذاهب بما في ذلك نظريتي المصاحبة والانتخاب الطبيعي. فعندها ستتحول المادية المستندة الى نظرية الانتخاب الطبيعي الى نظرية ميتافيزيقية لايمكن رفضها ولكن ايضا لايمكن اثباتها منطقيا لأن من اركان نظرية المصاحبة : كل مثل هكذا نظريات ميتافيزيقية ليست سوى اوهام وبالتالي فهي متكافئة. اذا لم نفترض بأنه قد ظهر من خلال عملية الانتخاب الطبيعي نظام خاص مستقل منمقاييس تقييم للنقاش النقدي فأن كل النظريات سوف تكون اوهام ميتافيزيقية متكافئة ومن ضمنها نظرية الانتخاب الطبيعي .
ثالثا : بالنسبة لنظرية اختزال العمليات العقلية بصورة كلية الى العمليات الفسيولوجية الدماغية - أي اعتبار العقل بكل مكوناته ومظاهرة مجرد وظيفة للدماغ - فتنطبق عليها نفس النقد الموجه ضد نظرية التصاحب في ما يتعلق بتعارضها مع نظرية التطور العضوي لأنها تؤدي الى نفس ما تؤدي اليه نظرية المصاحبة من اعتبار العمليات العقلية ظاهرة سالبة غير فعالة وبالتالي كونها مجرد مظهر
يرى علماء النفس الروس بأن العمليات والوظائف العقلية لايمكن اختزالها بصورة كلية الى العمليات الفسلجية للدماغ لأنها - أي الظواهر العقلية - تمثل مستوى اعلى جديد لانظير له من التطور والارتقاء .
[center]
***********************************
هامش رقم 1) لقد كان لينين يعتقد بان العمليات العقلية تتطابق مع العمليات الفسيولوجية للدماغ ، لكنه في نفس الوقت كان يرفض اعتبار العقل والدماغ شيء واحد!! فقد كان يرى ان الدماغ شيء مادي في حين ان الوعي شيء لا مادي. وفي حقيقة الامر فان القول بتطابق العمليات العقلية مع العمليات الفسيولوجية للدماغ يعني من الناحية المنطقية ان العقل والدماغ هما نفس الشيء. وقد اثبت العلم الحديث كما سنرى لا مادية الوعي وبالتالي برهن على أن المادة (الدماغ) والوعي ليسا نفس الشيء بل شيئان مختلفان ، فكيف ذلك؟ ان حل هذا التناقض يتمثل بكل بساطة في عدم صحة تطابق الفعاليات العقلية مع الفعاليات الفسيولوجية للدماغ وقد اثبت العلم الحديث ذلك .
هامش رقم 2) على الرغم من أن لينين كان يعتقد يتطابق العمليات العقلية مع العمليات الفسيولوجية للدماغ وبأن العقل ليس سوى انعكاس لهذه العمليات الفسيولوجية الدماغية كون العقل ليس سوى وظيفة مجردة للدماغ وأن جميع الظواهر العقلية ليست سوى ظواهر سلبية غير فعالة ، رغم كل ذلك فأن لينين كان يعتقد بأن العقل هو موجود واقعي شأنه في ذلك شأن المادة. قال لينين:أن يكون الفكر والمادة ((واقعيين)) ، أي انهما موجودان ، هذا صحيح. لكن القول ان الفكر مادي هو خطوة فاسدة نحو خلط المادية والمثالية. - لينين ، الدفاتر الفلسفية-2 ، الجزء الاول ، الطبعة العربية ، بيروت ، دار الحقيقة ، ترجمة وتعليق الياس مرقص ، الطبعة الاولى ، 1974 ، ص 39. وفي حقيقة الأمر فأن ذلك يعتبر تفكير غير منطقي من لينين لان كون العقل بجميع اجزائه وكل وضائفه ليس سوى وظيفة للدماغ يؤدي من الناحية المنطقية الى كون العقل مجرد مظهر او وهم. وقد اثبت العلم الحديث بعد ذلك أن العقل هو موجود واقعي ، فكيف ذلك؟ أن حل هذا التناقض يتمثل بعدم كون جميع الظواهر العقلية مجرد وظائف فسلجية للدماغ بل أن قسما منها هو عمليات عقلية خالصة وليست وظائف مجردة للمخ ، وهذا ما اثبته العلم الحديث .
ملاحظة: النظرية الماركسية - اللينينية الكلاسيكية للوعي لا تختلف عن النظرية المادية الكلاسيكية في شيء سوى اعتبار لينين للوعي بأنه حقيقة أي موجود واقعي وبانه شيء لا مادي ، على العكس من كل الفلاسفة الماديين المعاصرين له والذين كانوا يقولون بمادية الوعي كونه ناتج من عمل الحواس وهذا واحد من اعظم انجازاته الفلسفية .
مصادر :
Benjamin B. Wolman: Hand book of parapsychology , Van Nostrand Reinhold Company , New York
Karl R. Popper: The Self & its Brain , Routlegde & Kegan Paul plc , 1983
يتبع ..... :-x