كتابة على الكتابة ووعي للوعي
جميل قاسم
النقد – كلُّ نقد – كتابة أخرى. ومع تقدم وتطور علوم الإنسان لم يعد ثمة مناص ليس فقط من الذهاب إلى النص الخطابي "مباشرة" (بالمعنى الظواهري للكلمة)، ولا مندوحة من التعامل مع الخطاب كمادة موضوع thèse-objet، أو تحليل بنية النص، أو تفكيك هذه البنية بحثاً عن مفارقاته واختلافاته، إلخ؛ ليس كل هذا وحسب، بل صارت "حكاية" النص، أي بعده الحكائي الروائي الأنطولوجي، من الأبعاد الخاصة بالتأريخ والنقد، في الذهاب المباشر إلى نصوص الفكر والمفكرين. وإلا فكيف نفسر الاختلاف والفرق في الفكر ذاته، والنص الكلِّي للكاتب عينه، خلال حياته، في تطور الحياة وتغيُّرها وتعددها وتعقُّدها، بحيث تصير حكاية الحياة المعيشة وحدها ضمانة الفهم والعلم والمعرفة؟!
والمفكر هشام شرابي هو عيِّنة لهذه العلاقة "المعقدة" ما بين الذات والحياة، التي يختلف فيها "الشاب" و"الشيخ"، والذات والذات الأخرى، بل يتعدد الكائن في ذات الإنسان، بحيث لو تسنَّى له أن يعيد قراءة نصوصه بعين الحاضر لأعاد كتابتها بعين أخرى ثانية!
كتابة د. هشام شرابي في أزمة المثقفين العرب (هو عبارة عن نصوص ومقالات مختارة) لا تعكس فقط أزمة مأزم المثقفين فقط، ولكنها تحيل إلى مأزم الكتابة والنقد باعتبارها كتابة على الكتابة، أو كتابة أخرى في حياة المفكر وفي تشعباتها – وهي في حالة شرابي تتعدد وتتناقض (!)، وتختلف من النزعات الوضعية والإيديولوجية التي تمثل مرحلة الشباب (والاختلاف في ذات المرحلة والحقبة)، وحتى النزعات (الوجودية، الماركسية، التحليل النفسي، النظرية البنيوية) التي تبنَّاها الكاتب في شبابه وشيبه، وصباه وشيخوخته، بصورة أو بأخرى!
ولعل أهم ما يفسر هذه المفارقات في حياة كاتبنا أنه عاش هو حالة الأزمة الفكرية السياسية الوجودية، منذ اليوم الذي أُعدِمَ فيه رفيقُه وقائدُه المثالي أنطون سعادة (8 تموز 1949) وحتى غربته المكانية والنفسية، وعمله في البحث الفكري والتدريس الفلسفي الأكاديمي الذي أتاح له الاطلاع الموسوعي على كل تيارات الفكر الفلسفي الحديث في الغرب.
يرى شرابي أن "أزمة" المثقفين والثقافة العربية الحديثة كامنة في خاصية التشكُّل الهجين للمثقف الحديث بالنظر إلى النواحي المختلفة، التي أوْرَثَها التشظِّي الثقافي لأجياله، في صياغة موقفه الاجتماعي وموقفه الفكري، والشرخ الداخلي الناتج عن انفتاحه على الغرب ولغاته وحضارته، مع محاولته الاحتفاظ بوحدة شخصيته المستقلة. ولهذا السبب تتميز رؤية المثقف بخاصية مزدوجة، غير منسجمة، وبتعددية أخلاقية غير متسقة، وبنسبوية ثقافية مربكة، كما يقول شرابي عن المثقف بصورة محالة عن الذات، ما دامت حالة شرابي هي نموذج لهذا التوتر الثقافي الدرامي والخلاق في ذات الوقت.
لكن شرابي يدعو إلى وعي الوعي، من خلال الانتقال من قَدَرية المحاكاة والمصاداة إلى جدلية العلاقة بين الذات والآخر، في سبيل الخروج من القوقعة التي تشلُّه في البقاء تحت هيمنة "فهم" الآخر – المرآوية – وإلى اكتشاف الذات، لحلِّ الازدواج المترتب عن العلاقة الإشكالية مع غرب يجده المثقف العربي نفسه معادياً له سياسياً، فيما يعمد، في الوقت نفسه، إلى الأخذ بتراثه الإنساني وتقنيته الحديثة، أملاً بتغيير اجتماعي أصيل في عملية التحرر من الإمبريالية، بتحرير الذات في مجتمع أبوي ("بطركي" بتعبير شرابي) لا يتوافر له حتى الآن الحدُّ الأدنى من حرية التعبير والاجتماع.
يدعو شرابي إلى طريق للحداثة يقوم على إعادة تحديد مفهوم الحداثة: لا التحديد "الماهوي" الذهني المجرَّد، وإنما بتحويله إلى مفهوم إبستمولوجي اجتماعي انطلاقاً من السياق الكياني العربي، في تفاوتات مفهوم الحداثة بين العرب والغرب. فالحداثة في الغرب ليست مستقبلاً يُتوقَّع قدومُه، كما هي الحال عند العرب، بل هو ماضٍ تمَّ، أو يتم، تجاوزه نحو حداثة عصر ما بعد الحداثة. وإذا كانت إشكالية العرب حضارية واجتماعية أكثر منها فلسفية أو إيديولوجية أو جمالية فهذا لا يعني، بنظر الكاتب، أننا يجب أن نرفض منظور ما بعد الحداثة بكلِّيته، وخاصة آلياته النقدية ومفاهيمه التفكيكية (التي نحن بأشد الحاجة إليها في مجابهة النظام الأبوي وخطابه السائد). وإذا كنا نتفهم، مثلاً، دوافع نقد العقل التكنولوجي (عند أدُرنو وهايدغر) وفلسفة ما بعد الحداثة فيجب ألا يدفعنا هذا النقد الذي يسعى إلى تجاوز تمركزية العقل إلى نقض الحداثة التي يناط بها، ويرتهن إليها، تطورُنا العلمي والتكنولوجي الحديث.
ويربط شرابي في كتابه هذا وكل كتاباته بين الإشكالية المعرفية والإشكالية السياسية المرادفة. وهو يحددها في هذا الكتاب بثلاثة محاور: محور السلطة، ومحور المرأة، ومحور الفقر (أو التحول الاقتصادي). وهو يرى أن إشكالية السلطة في المجتمعات العربية تنبع من النظام الأبوي (البطركي)؛ والوسيلة لتغيير هذا النظام وتحديث الدولة هي الانتقال من النظام الأبوي إلى النظام الديمقراطي.
اختبار الحداثة
لكن الوجه السياسي للنظام الأبوي هو الوجه الظاهر. فتغيير النظام سياسياً لا يحقق بالضرورة التحرر الاجتماعي، كما بيَّنت عمليات التغيير السياسي المتوالية. ولذا يدعو الكاتب إلى استهداف الثقافة الأبوية بنقد بنيتها المنغرسة في المسألة الاجتماعية (تحرير الفرد وتحرير المرأة). ويعوِّل شرابي على تحرير المرأة، لا باعتباره قضية "نسائية"، وإنما بصفته قضية اجتماعية شاملة. أما إشكالية السلطة فتقع على عاتق الحركات الاجتماعية التي تحل محلَّ الأحزاب ذات الإيديولوجية الواحدة، نحو تعددية سياسية ومشاركة اجتماعية ديموقراطية، تعمل في تكتلاتها الحركات العمالية والنسائية والطلابية في ضوء الحاجات والأهداف المنبثقة من حياة الشعب وظروفه المحلية والقطرية والقومية.
وترتبط إشكالية الفقر بإشكالية التحول الاقتصادي. وشرابي يرى أن الأنظمة الأبوية ("الثورية" و"المحافظة") عجزت عن بناء اقتصاد عربي مستقل ومزدهر، بل فشلت في تحقيق الأمن الاقتصادي، هادرةً أموالها في التسلح والبذخ الفردي، الأمر الذي زاد في فقر شعوبها وشعورها بالمهانة والإحباط.
إن الدليل على اختلاف الحداثة وتفاوتها بين العرب والغرب هو بقاء العالم العربي في بنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مناخات القرن الثامن عشر، وليس القرن الواحد والعشرين! وإذا كانت أوروبا والعالم الغربي قد اختبرتْ الحداثة بمراحلها المتعددة (الانتقال من المجتمع التقليدي إلى الأفكار والمؤسَّسات الحديثة، والتجديد أو التحديث على الصعيد السياسي، فالتحول الاقتصادي، وحتى المرحلة الأكثر تقدماً التي تقوم على إعادة التنظيم الجذري للبنيان الاجتماعي كنتيجة لتحويله الاقتصادي والاجتماعي) فإن العالم العربي لم يختبر، بنظر شرابي، إلا بدايات المرحلة الأولى من التحديث في عصر النهضة، وذلك قبل إيقاف هذه العملية، حين أعيدَ توجيهُها في مجارٍ أخرى كامتداد للسيطرة الغربية والتسلط الإمبريالي على الاجتماع العربي. وسواء كان التسلط الغربي معنياً بالقطن أو بالنفط فقد انتهج السياسة عينها، سياسة المحافظة على الوضع القائم، وتعزيز الأنظمة الأبوية التقليدية فيه.
فما العمل؟ العمل والحل هو في المقاربة "الإصلاحية" في عصر نهاية الثورات (أليس التغيير الديمقراطي المطلوب نوعاً من الثورة الديمقراطية؟!) لاستعادة الحقوق الديمقراطية، وتأمين الحقوق الإنسانية، وإعادة بناء المجتمع المدني.
في فصل بعنوان "طريق الوجوديين" (كُتِبَ في العام 1947) نكتشف عند هشام شرابي تفكيراً فلسفياً غير معهود من قبل، هو أقرب إلى الفلسفة الشخصانية Personnalisme. فالإنسان الوجودي، بنظر شرابي، هو الشخص في كلِّيته المطلقة؛ والوجود الشخصي عنده هو الحقيقة الأولية، الحية، الواعية، الوجود الجمعي (الجماعي)، لا بمعنى المجموع العددي، بل بمعنى الأفراد الذين يشكِّلون ويكوِّنون المجموع (الجمهور). ويرى شرابي أن الفلسفة الوجودية الحقة هي الفلسفة التي تتبلور في الوجود برفضها الالتجاء إلى التجرد (التجريد) العقلي في علاقة الفلسفة بالحياة. وفي هذا المقال نجد عند شرابي التزاماً وجودياً قبل تحوله اللاحق إلى الماركسية وما بعدها.
لقد مثَّلت مدرسة فرنكفورت تحولاً، في فكر شرابي، من الفكر الوجودي "العالمي" إلى الفكر الوجودي الاجتماعي. ومن هنا يجد شرابي أن مقاربة لوكاش في كتابه التاريخ والوعي الطبقي (1922) هي أقرب إلى الحقيقة الواقعية. يقول: "إن مقولة "الوجود في العالم" عند هايدغر هي الأساس الذي يحدد "ظاهرة الحقيقة". أما عند لوكاش فأساس الوجود في العالم هو الوجود الاجتماعي، والحقيقة نتاج اجتماعي..." (ص 75). ومقابل مفهوم الأصالة عند هايدغر (أن يكون المرء نفسه)، يفضِّل شرابي موقف لوكاش القائم على الالتزام الاجتماعي ودحض الذاتية، باعتبار أن كينونة المرء لا تقتضي بالضرورة الانسحاب من المجتمع أو الارتداد عن الفعل وعن الالتزام الاجتماعي.
المفهوم الوجودي
لكن شرابي لا يتبنَّى المفهوم الحتمي ولا الاقتصادي للتاريخ، بل المفهوم الوجودي. وهو يعرِّف التاريخ لا بتاريخانيَّة هايدغر، وإنما بتاريخية ديلتاي، باعتبار الحاضر النقطة التي تنتقل بين حالتي الزمان. فتعبير الكون (الكينونة) هو بمثابة تأليف بين ما كان حتى الآن وما سيكون، ما حدث وما سيحدث. ويرى في هذا الفهم التاريخي عند ديلتاي (اعتبار التاريخ مكابدة جَوَّانية erlebnis) فهماً ثورياً للتاريخ، على النقيض من النزعة العلموية (ص 108).
في فصل بعنوان "أزمة الخطاب العلماني" يدعو شرابي إلى خطاب علماني جديد لا يرمي إلى تعميق الفجوة بين التيار العلماني والتيار الديني، بمنأى عن التسوية السطحية بين الموقفين، وصولاً إلى علاقة تقوم على الصراحة والاحترام والاعتراف المتبادل. وهو يرى أن مأزق العلمانية والخطاب العلماني كامن في التوفيق والتلفيق بين الخطاب الديني والخطاب العلماني الذكوري والأبوي المفتقر إلى الأصالة والجدية.
وإذا كان المرء يوافق المفكر شرابي على نزوعه الأنواري فلا يسعه إلا أن يتساءل عن فحوى موقفه من نهاية الوحدة العربية (دون تمييز بين أشكال الاتحاد الفدرالي والكونفدرالي، ولو على الطريقة الأوروبية!)، وتشبيه العالم العربي بأمريكا اللاتينية التي لا يجمعها إلا جامع اللغة (انظر كتابه نصوص ومقالات في القضية الفلسطينية). وإذا كان هذا الوصف يصح في ما هو كائن فهل يصح في ما ينبغي أن يكون عليه الوطن العربي والأمة العربية؟