[شهدت البشرية حتى اليوم (مطلع الألفية الثالثة) ثلاثة أصناف من التصورات الكونية، أي تلك التصورات المعنية بالموجودات بصفتها كلاً أو نظاماً كليا تترابط مكوناته مكانيا وزمانيا وأصلاً ونوعاً. هذه الأصناف هي:
1- التصورات الأسطورية التي تعتبر الكون مسرح فعل الأرواح والآلهة.
2- التصورات الفلسفية التي تعتبر الكون نتاجاً لمبادىء عقلية موضوعية أولية، فلسفية وجمالية وأخلاقية (مثلاً: كون أفلاطون، كون أرسطو، كون أفلوطين، كون الفارابي وابن سينا، كون السهروردي).
3- التصورات العلمية التي ترتكز إلى نظريات الفيزياء والرصدات الفلكية.
وقد انحسر الصنفان الأولان انحساراً شبه تام في القرون الأربعة الأخيرة، وحل محلهما الصنف الثالث من حيث المشروعية والتزام النخب المعرفية. لكن هذا الصنف ابتدأ مثقلاً بالتناقضات والاستحالات القاتلة وظل كذلك طوال قرنين من الزمان، الأمر الذي حال دون تكونه علماً، وإن كانت قاعدته الفيزيائية علمية. وبالتحديد، فإن الفيزياء الكلاسيكية، التي أرسى قواعدها نيوتن في القرن السابع عشر، لم تكن قادرة على توفير أساس متسق منطقيا لعلم الكون. لذلك ظلت التصورات العلمية تراوح مكانها مثقلة بتناقضاتها الداخلية حتى عام 1917، يوم نشر ألبرت آينشتاين ورقته المشهورة، التي طبق فيها نظريته في النسبية العامة (1915) على الكون (أو، قل: الزمكان) بوصفه كلا عضويا مترابطاً. وكان نشر هذه الورقة إيذانا بانطلاقة الدراسة العلمية للكون، أي ببدء علم الكون، بوصفه علماً بالمعنى المتعارف عليه اليوم، كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا. ذلك أن نظرية النسبية العامة هي نظرية كونية في جوهرها، فلا تكتسب تناسقها الداخلي إلا بكونيتها وتطبيقاتها الكونية. ولئن أعاق الفصل المطلق بين المكان والزمان والمادة في نظرية نيوتن اعتمادها قاعدة لعلم الكون، فإن ربط هذه الموجودات عضويا في بعضها في نظرية النسبية العامة أتاح المجال، لأول مرة في التاريخ، لمعالجة الكون علميا بوصفه نظاماً ماديا واحداً موحداً.
لكن تطور علم الكون في غضون القرن العشرين أثبت أن نظرية النسبية العامة تشكل جزءاً من قاعدة علم الكون، وليس القاعدة كلها. كان على علماء القرن العشرين أن يرفدوا نظرية النسبية العامة بالفيزياء النووية، ثم بنظرية المجال الكونتمية، ثم بنظريات التوحيد المجالية الحديثة (نظريات التوحيد المهيبةGUT’s ، نظريات الخيوط الفائقة، نظرية أم النظريات M-Theory ، وغيرها)، حتى يتسنى لهم التغلب على مفارقات علم الكون وتفسير فيض الظاهرات الكونية الذي تفجر على الساحة العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وتكمن مشكلة نظرية النسبية العامة في أنها نظرية جزئية وغير مكتملة. فهي نظرية في بنية المكان والزمان، وليست نظرية شاملة في المادة. وكان أكثر من أدرك هذا النقص في النظرية هو مبدعها الرئيسي، ألبرت آينشتاين، نفسه، الأمر الذي قاده، منذ نشر نظرية النسبية العامة وحتى لحظة وفاته، إلى تركيز قدراته الذهنية الخارقة على محاولة بناء نظرية مجال موحد شاملة تشكل إطاراً نظريا مكتملاً لفهم جميع الظاهرات المادية، بما في ذلك المجال الكهرمغناطيسي والجسيمات دون النووية. لكنه أخفق في ذلك، وترك الأمر للأجيال اللاحقة، التي ما زالت ماضية على هذا الدرب بزخم ومثابرة. ولكون نظرية النسبية العامة نظرية في المكان والزمان فقط، فإن تنبؤاتها الكونية جاءت مقصورة على المكان والزمان، ولم تمس المادة وظاهراتها الغنية. إذ تنبأت أن المكان إما أن يكون متمدداً، وإما أن يكون متقلصا، في الزمان، إذا كان توزيع المادة فيه متجانساً، أي إذا كانت كثافة المادة لا تتغير من موضع إلى آخر. وضع هذا التنبؤ لأول مرة عام 1922 على يدي الرياضي الروسي، ألكسندر فريدمان. وجاءت أبحاث الفلكي الأميركي، إدوين هابل، بعد ذلك بسبع سنوات لتدعم فكرة أن المكان يتمدد، حيث اكتشف هابل أن المجرات تتباعد عن بعضها بسرع تتناسب طرديا مع المسافات بينها، تماماً كما تنبأ فريدمان على أساس نظرية النسبية العامة.
لكن نظرية النسبية العامة قادت أيضا إلى فكرة أن الكون محدود في العمر، وإن عجزت عن تحديد هذا العمر بدقة لكونها نظرية غير مكتملة، أي لغياب تصور داخلي للمادة فيها. وعلى أي حال، فما كان بالإمكان لنظرية نيوتن أن تقود إلى هذه الفكرة الغريبة بحكم بنيتها الفكرية الأساسية. فالمكان مطلق وثابت في نظرية نيوتن. أما الفكرة التي قادت إليها النسبية العامة فهي أن عمر المكان محدود، بمعنى أن المكان ابتدأ في لحظة معينة (من العدم؟) على صورة نقطة لامتناهية الصغر، ثم تمدد حتى وصل إلى الأبعاد الهائلة التي نشهدها اليوم. فقبل بضعة مليارات من السنين (حوالي 12 مليار سنة، وفق أحدث القياسات الفلكية)، كان المكان نقطة لامتناهية الصغر والسخونة والكثافة.
وكان أول من توصل إلى هذه النتيجة المثيرة هو العالم الكاهن الكاثوليكي البلجيكي، ليميتر. ولعله لم يكن من قبيل الصدفة أن هذه النتيجة جاءت على يدي عالم كاهن. ولربما كان للدافع الديني أثره في وصول ليميتر إلى هذه النتيجة. وقد هلل لها واحتفى بها رجال الدين من كل حدب وصوب، ظنا منهم أنها تؤكد قصة خلق العالم الواردة في كتبهم المقدّسة، غير مدركين أن هذه النتيجة المبهمة تنبع من نواقص نظرية النسبية العامة وثغراتها، لا من مكامن قوتها وكمالها، وأنها مؤشر على حدود انطباق النظرية ومحدودية قدرتها على معالجة مسألة نشوء الكون. وهذا هو شأن رجال الدين، أنى كان مذهبهم؛ يتمسكون كالغرقى بما ينثره العلم أمامهم من قش في مسيرته المعرفية المظفرة، لانعدام ثقتهم بنهجهم الأوامري الاستبدادي.
ولنتوقف قليلاً عند هذه الفكرة، فكرة أن المكان، بما يحمله من مادة، انبثق جملة وتفصيلا من نقطة منفردة لانهائية الصغر والسخونة والكثافة. ولندقق في معنى هذه المقولة.