الربيع العربي يفتقد الإلهام/ عمر العمر 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011
عنصر المباغتة شكل سمة بارزة في
الربيع العربي. إثارة المفاجأة اقترنت بانتفاء وجود خط أيديولوجي للثورات
الشعبية العارمة. الشوارع والساحات العربية التهبت في غياب أي قيادة
كرازماتية أو فكرية ملهمة أو سياسية قائدة. هذه الخطوط تمنح الربيع العربي
فرادة في التاريخ، إذ استطاعت الجموع الشعبية تحقيق إنجازات استثنائية، عبر
تعبئة جماهيرية اتخذت مسارات تلقائية. الثورة التونسية كما المصرية
والليبية، أطاحت أنظمة مسرفة في الاستبداد على نحو جعل اقتلاعها بمثابة
معجزة.
الربيع العربي خرج بهذا الاستثناء عن النص التاريخي للثورات، منذ أشعلت
النخبة الفرنسية قبس التنوير ثم شعلة الثورة في القرن الثامن عشر.
السيناريو الروسي لم يكن مطابقاً للنص الفرنسي، غير أنه لم يكن مناقضاً.
هناك قاد لينين البلاشفة لوضع نهاية للنظام القيصري ووضع روسيا على
طريق الاشتراكية، في ضوء منهج ماركسي. في الصين قاد ماوتسي تونغ ثورة صنعت
من وطنه نمراً اقتصادياً وثاباً فيما بعد. حتى عندما ثارت شعوب أوروبا
الشرقية ضد هيمنة الامبراطورية السوفييتية وجمود النظام الشيوعي وفساده،
نهضت نخب في مقدمة الشعوب. البولونيون أشعلوا شرارة الثورة بتحالف بين نخبة
مثقفة ونقابات العمال. عندما تسلق ليش فاليسيا جدار حوض غدانسك، بدأت روح
الثورة تنسرب في شرايين الكتلة الشرقية المتيبسة. شعراء وموسيقيون ألهبوا
شعوبهم في تشيكوسلوفاكيا وجورجيا والمجر.
كما عجزت النخب العربية عن إنجاز مهام البناء الوطني في مرحلة
الاستقلال، تقاعست عن النهوض بأعباء الثورة المتنسخة عن مراجع ليبرالية في
الغرب أو اشتراكية في الشرق. كل التجارب العربية انتهت إلى ديكتاتوريات
مشوهة، بقبعات عسكرية في معظمها. الربيع العربي فاجأ نخبتنا القعيدة، إذ
حجب إعشاؤها المزمن رؤية بوادر الثورة الشعبية العارمة. الأنظمة العربية
أفلحت في استقطاب قطاعات عريضة من المثقفين العرب، بالترغيب غالباً
والترهيب أحياناً. من رفض التلوث ضاق به الوطن، فاضطر للهروب إلى المنفى
اختياراً أو قسراً. الطوق الأمني الضاغط قلص فرص الحراك، فغيب فرص مراكمة
تجارب شخصية من شأنها بناء قائد جماهيري.
هكذا وجدت الشريحة السياسية نفسها محشورة في مأزق حرج غداة التهاب حركة
الجماهير، إذ أصبحت تلك الشريحة في العربة الأخيرة من قطار الثورة. القفز
إلى كابينة القيادة يمثل قرصنة، تدمغ مرتكبيها بجريمة سرقة الثورة.
المراوغة بين الاستسلام للبقاء في الظل وخيار القفز إلى المقدمة، طغى على
الطبقة السياسية التقليدية. المأزق التاريخي لم يعد وقفاً على النخبة.
الثورة نفسها دخلت مرحلة حرجة. الطلق الجماهيري لم يفرز قيادات وليدة قادرة
على الإمساك بزمام الأحداث.
التضاريس على الساحة اليمنية، تتطلب مهارات أكثر مما لدى الهواة
المسلحين بالحماسة. جرأة الشارع السوري لا تكفي وحدها لرفع ركام نحو نصف
قرن من التكلس السياسي والعسكري. ثقافة القبضة الأمنية بثت الشكوك أكثر من
تعزيز الثقة. هذا الحال لا يقتصر على سوريا أو اليمن، بل يطال مصر، ليبيا
وتونس. الربيع العربي لا يزال يبحث عن الإلهام على صعيد الرؤى والقيادة.
اقتلاع النظام لا يعني نهاية الأزمة.
على النقيض، مع استهلال المرحلة الانتقالية يستحكم المأزق، إذ تبدو ثمار
الثورة أقرب إلى الطبقة السياسية التقليدية، الجالسة على الرصيف عند بدء
رياح الربيع. ثمه قلق يتصاعد من قطف الإسلاميين ثمار الربيع العربي.
التجربة التونسية مؤشر واضح لما سيكون عليه الحال في مصر. اللغة
المتداولة والوجوه المتعاقبة على الشاشة في ليبيا، توضح بجلاء مصير الوضع
هناك. في كل المدارات العربية يبرز الإسلاميون أكثر تنظيماً وأصلب عوداً.
قراءة الواقع على هذا النحو، ينبغي ألا تثير الخوف أو القلق كما هو بادٍ
حالياً. السؤال الملح يتعلق برؤى كل تيار إسلامي في كل بلد. من غير الممكن
اتخاذ موقف موحد ضد الإسلام السياسي، إذ لا يوجد إسلام سياسي واحد يصلح لكل
الأقطار.
لكل بلد خصوصية تنفي إمكانية استنساخ تجربة من الخارج. الأنموذج التركي
غير قابل للتطبيق في مصر. المجتمع التونسي ليس مطابقاً لليبي. الإسلام
السياسي دخل في طور التباين في الرؤى، منذ اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن
البصري واتخذ حلقة في المسجد نفسه في البصرة ذاتها.