2012-01-13 كونديرا بين خفّة الكائن وثقل الواقع
زيد الشهيد |
| |
لا
مجانبة للحقيقة، ولا تجاوز على الوقائع القول انَّ الرواية العالمية شهدت
في النصف الثاني من القرن العشرين تغييراً واضحاً، وطابعاً يمكن أن يوسَم
بالحداثة، 'سواء من حيث الشكل والمعمار الفني، أو من حيث الوسائل
التعبيرية المستخدمة في السرد' (1) خروجاً من الإطار التقليدي الذي ظلت
تتحرك بهيكليته ومضمونها داخله.
ومجرِدةً 'الشخوص من طابع البطولة، والفرادة' (2) رامية بهم إلى ميدان
التعامل مع الآخرين محمَّلين بمشاعر لا تتجاوز سقف مشاعر الناس الذين
نراهم في الشوارع والأسواق والميادين، متحركين تحت سقف الهموم والضغوطات
السايكولوجية والسوسيولوجية والاقتصادية حتى لتكاد أحلامهم، وتطلعاتهم أن
تكون مشتركة مثلما تخلت في غالبيتها عن التسلسل التقليدي في تراتبية
الأحداث، فلم يعد صبر القراء يوشك على النفاد وهم يتابعون مجرى الأحداث
وحركات البطل أو الأبطال لمعرفة ما ستؤول إليه الخاتمة 'فيختلسون النظر في
الفصل الأخير'(3) بفعل الاندماج بشخصيات الرواية 'اندماجاً ينشأ عن ارتباط
عاطفي وثيق'(4) ذلك أن الرواية الحديثة توخت الوصول إلى الذات القارئة وفق
رؤية الروائي ومسعاه الحداثي توافقاً مع زمن القراءة لتحقيق متعة خاصة
وتتبع قرائي غير مألوف.. وهذا ما سنضع أصابع اكتشافنا عليه في رواية ميلان
كونديرا 'خفة الكائن التي لا تحتمل' التي ستتعامل مع مواضيع عدة، نستطيع
التعامل مع بعضها في هذا البحث المتواضع.
القلق
2- التعاطف
3- الحرية وسلب الانسنة: التضاد
4- استخدام الكوميديا السوداء
5- اللجوء إلى الطبيعة
القــــلق
يعيش الروائي بوصفه خالقاً لعالمٍ ذي كينونة تحوي داخل محيط دائرتها حركة
موارة للأشخاص والأشياء، قلقاً مزمناً توارثه من أجيال متعاقبة عاشت تحت
وطأة التهجس والتطيّر، وواجهت بالتأمل والتحليل ظواهر لا تعد، هي من عداد
المجاهيل. وهو بمثابرته وفضوله كروائي تجاوز الكثير بعد الاكتشاف والوصول
إلى النتائج. لكن هذا لا يعني إدراكه للمرام وحيازة المآل. فتهافتات
موجودات البسيطة تجعل آلة استمرارية فعل القلق في حمّى اشتغالها، ما يدفعه
إلى حقيقة أن ديمومة هذا القلق متأتية من ديمومة تناسل الموجودات التي لا
قبل لإنسان اليوم ولا الغد القريب على الوصول إلى استيعابها جميعاً.. هذا
القلق يعبر عنه كونديرا - كمنتج خطاب روائي وراو في نفس الوقت - يسعى
لمحاورة المتلقي عبر شريحة من شرائح الموجودات بطرح موضوعات فلسفية يجعلها
مداخل استهلالية لأكثر من عمل سردي، لديه، بغية تهيئة ذهن المتلقي لما
سيأتي لاحقاً من عرض للشخصيات (القلقة حتماً) وأفعالها، والأحداث
وتواليها، وتفاقمها أيضاً فيدفع بهذه الشخصيات داخل الخطاب - والمتلقي
خارجه - إلى التحرّك من اجل إثبات مصداقيةِ الطرح وتلقّيه، وربما القبول
به واعتناقه. ففي 'خفة الكائن التي لا تحتمل' يقدم (فكرة الرجوع الأبدي)
معتقداً أنها فكرةٌ غامضةٌ طرحها نيتشه فأوقع غيرَه من الفلاسفةِ في حرجٍ
. تلك الفكرةُ ترى أنه 'سيأتي يومٌ يتكرر فيه كلُ شيء، كما لو كنّا قد
عشناه' ص7 (5). وهي فكرة ليست بجديدةٍ على الإنسان، إذ وردت في سورة
البقرة من القرآن الكريم 'وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يُميتكم ثم يحييكم ثم
إليه ترجعون'، قبل نيتشه بقرون اعتماداً على تواصلٍ وتكرار. هذا التواصل
والتكرار إلى ما لا نهاية يخلق في رأي كونديرا فعلاً متوالياً يستنتجه
ثقيلاً، فيتَّخذ رأياً (بعداً فلسفياً) يدعو فيه إلى التخلص من هذا الثقل
الذي بمثابةِ عبءٍ ليستحيل إنساناً آخر تملأ الحريةُ نصفَه، فيما النصف
الآخر يوظَّف للواقع المُقيَّد بالأنظمةِ والأعراف، 'ان غياب العبء غياباً
أبديا يجعل الكائنَ أخف من الهواء، يجعله يطير، يجعله يبتعد عن الأرض، عن
الكائن الأرضي، يجعله واقعياً بنصفه فقط' (6) وهذا يحيلنا إلى جلجامش ذي
النصفين: الأرضي والسماوي أو الإنساني والإلهي. لكأن كونديرا يعيدنا إلى
عوالم الأسطورةِ ومفاهيمها التي وردت وتفاعلت في ذهن الإنسان البدائي
واستمرت متناسخة حيث 'العقل الإنساني (...) وقبل أن يصبح مدركاً للمنطق،
رأى العالم مسرحاً للنزاع المثير بين النزوات المتباينة المتصارعة' (7)
والتكرار المتوالد للأشياءِ وغيره، من النزعات التي في دواخلنا، ولم تستطع
المعرفةُ العقلية تفكيكَه وصهره، يعود في جوهره إلى الأسطورة التي واجهت
الماثل وصورته وتعاملت معه (8). وكونديرا يستعيد ذلك الماثل ليتعامل معه
بمواجهة عصرية، تماماً مثلما نفعل نحن كقرّاء ونُقّاد ببنية عقلية
استناداً الى قوانين عصرِنا المُعاش لا قوانين استحداث الأسطورة، ذلك أن
'البنية العقلية للمؤلف والناقد تخضعان بشكل أو بآخر لقوانين (العصر) ونمط
الثقافة السائدة فيه' (9).
التعاطــف
يمثِّلُ التعاطفُ كمفهوم نابع من الذات الإنسانية حالةً تُبنى على أساس
غريزي يولَد مع المخلوقات ويُشكِّل لديها تصرّفاً مطلقاً لا يمكن تجاوزه،
لكنه لدى الإنسان يتصيَّر حالةً جدلية تتم من خلال التحاور والانتقال،
ويستطيع الإنسان التعبير عنه بوضوح. فالمشاعر الإنسانية تدخل في علاقةٍ
مطردةٍ مع حركةِ الواقع منتجةً قدراً نسبياً من التعاطف، يتفاوت والحدث
المُسبّب لهذا التعاطف الذي هو من الأشياء التي آمن بها كونديرا مع نيتشه
وحسبه ثقلاً ينتقلُ من شخص لآخر، ومن زمنٍ لزمن، وإنَّ تراجعه أو زواله
يمنح الإنسانَ خفَّة، فيها من اللذة ما يُدخِله إلى عالم اللاانتماء
فيمنحه الحريةَ الذاتية. فتيريزا التي عاشت معه في شقته سبعة أعوام وكانت
له كالظل في حبِّها الأنثوي ومتابعة علاقاته العاطفية مع النساء، ومنها
(سابينا)، ولومه إن اعتقدت بعضاً من سلوكياته سلبية طالما هي معه تغدق
عليه الحب والعاطفة، تيريزا هذه تفتح أمامه صفحةَ فلسفةِ الثقل الذي يعاني
وطأته ويرغبُ في تفكيكِه ليكون حرّاً تخلص من ماهيته كأحد القيود التي وجد
الإنسان نفسه مُكبلاً بها في حياته؛ تقيده فيشعر كما لو كان سجيناً في
قلعةٍ حجرية لا فِكاك من عتمتها وثقلها إلا بالموت مُخلِّصاً. 'لقد عاش
مقيداً إلى 'تيريزا' خلال سبعة أعوام، وكانت قد تتبَّعت بنظرِها كلَّ
خطوةٍ من خطواته. كان الأمرُ كما لو أنها قد علقت أغلالا في عقبيه. والآن
أصبحت خطوته فجأةً أشد رشاقة. وكان يكاد يدوِّم. ويلقي بنفسه في فضاء
'بارمينيد' السحري: كان يتلذذ بخفة الكائن اللطيفة' (10)، لكن هل نيل
الخفة يعفيه من التفكير في زوال المؤثر، بحيث تستمر لذة الفقد لديه إلى ما
لا نهاية أم هي مشوار زمني سيعود بعده من زوال العبء إلى هيمنة الثقل؟ ..
الجواب يجسده برومثيوس في حملهِ الصخرة والصعود بها نحو القمة ثم تبدد
طاقته في التحمل عند السفح، وعودته منهاراً إلى الوادي ليعيد حملها من
جديد؛ ذلك أنَّ غريزةَ العاطفة ومنتجها التعاطف مع الآخر لا يمكن تجاوزها
أو محوها من خارطة الحياة البشرية. ولوجودها في مكوِّن الإنسان وعالمه
الذهني رصيدٌ كبير يراه كونديرا لعنةً بثقله عندما يبغي توصيفه، خصوصاً
عندما يتسلل فعل التعاطف إلى الآخر وينفذ ليحل محل تعاطفه فيتضاعف الثقل
ويغدو حزناً وأسى. 'ما من شيء أثقل من التعاطف، حتى ألمنا الشخصي ليس بثقل
الألم الذي نشارك فيه شخصاً آخر إحساسه به، أو نأسى له على إحساسه به أو
نحل محله في الإحساس به، مضاعفاً بفعل التصور وممدوداً في مئات الأصداء'
(11).
الحرية وسلب الانسنة.. التضاد
على عكس الأنظمة الرأسمالية التي اتخذت من حرية الرأي كأحد مسالك تطبيق
الديمقراطية، سلكت الأنظمة الشمولية المنضوية تحت خيمة الاتحاد السوفييتي
ومن تمثل بها سلوكَ إفراغ الأوكسجين من هواء التصرف الإنساني، فراحت
تضيِّق الخناق على مواطنِها وتُدخِله حلبة الركوع إزاء هيمنتها؛ مُطبِّقةً
نهجاً ثقافيا ينتزع حريته ونزوعه إلى التحدث والتعبير عما يخالجه ويطلبه
بلا خشية ولا التفات حوله محاذراً. أنظمة لوحت بقبضة تهديدية متوعدة،
وجعلت من نفسها وفق نظريتِها ورؤاها قطباً سلبياً يناقضُ قطبَ الأنظمة
التي اتخذت الديمقراطية نظاماً فتحت فيه الأبوابَ لتفجير الطاقات وحققت
سموَ الإنسان، وأعطت رِفعةً للأفكار، وفتحت مُختبراً لا يتوقف لإجراء
التجارب التي تنحو بالإنسان صوب مرافئ خلقِِ سعادته وديمومتها وإنتاج
وسائل هنائه واستمراريتها... فرجل البوليس في الأنظمة الديمقراطية أُوجِد
لخدمة الإنسان بينما كُرس في الأنظمة الشمولية أداةَ قمعٍ، ورمزَ قهر،
ولافتة كابوسية. دنوها منك يعني هلعاً ورعباً سيطوقك ويرميك في أقصى حالات
المذلة.
ولقد اتخذ كونديراً من حكاية أوديب مثالاً لضرورة مراجعة كلِّ مَن تسلَّق
سلَّم السلطة وظنَّ أنَّ البراءة التي يتحلى بها وحسن الظن الذي يساوره
ويمشي معه في درب الحياة السياسية كافيان أن يجعلاه غير مسؤول عن أخطائها
(السلطة) وارتمائها في مستنقع القرار الجائر.. انه يدين حملة الأفكار
الشيوعية من التشيك الذين اكتشفوا بعد احتلال السوفييت لبراغ عاصمتهم أنهم
أدوات شطرنج تُحرِّكها أصابع الروس فتعذروا بعذر حسن النوايا في خدمةِ
الوطن وحُلمِ رُقيّهِ والأخذ به إلى مصاف حضارة بهية باهرة(12). وقد
أوِّلَ هذا القول في منظومة الدول الأمنية على أنه دعوة للشيوعيين لفقء
عيونهم مثلما فقأ أوديب عينيه كعقاب له على الزواج من أّمّه وإن كان
بريئاً في فعلته ولا يستحق العقاب... هذا التداول جاء عن طريق حوار طويل
جرى بين رجل وزارة الداخلية مع توماس، الذي نشر مقالاً يتناول فيه حكاية
أوديب وتم على أثرها فصله من عمله كجراح وجعله ماسح زجاج، ثم اضطراره إلى
البحث عن عمل وجده لاحقاً في ضاحية من ضواحي براغ.. حوار جاء مقصوداً يوم
زار هذا الرجل المرسل قصداً من وزارة الداخلية لمقابلة توماس في الضاحية
(13).
استخدام الكوميديا السوداء
يوظف كونديرا الكوميديا السوداء على أحسن وجه، وهي محاولة تعرية سلوك شاذ
بأسلوب سطحُهُ الظاهرُ يبعث على التفكّه والضحك، فيما الغورُ فيه يفضحُ
ألماً ويُعرّي مأساة. لقد وضع كونديرا توماس الجراح الذي له صيت واسع في
عمله المهني (بعدما أحيل وظيفة تنظيف ألواح زجاج الشقق والبيوت وواجهات
المحلات قبل أن يلجأ إلى ضاحية من ضواحي براغ ويعمل هناك) على تماس يومي
بفعل هذه المهنة مع البائعات في المخازن الكبيرة، حيث كن يعرفن وظيفته
السابقة فكُنَّ 'يسألنه نصيحة بشأن زكامهنّ وأوجاع أصلابهنّ وتأخر مواعيد
طمثهنّ' (14).. كوميديا سوداء تفشي أسىً مهولا يداهم المواطنَ المأسور
بنظام قمعي دموي قاهر يعامل المثقفين وأصحاب الشهادات والمهن المتميزة
معاملة تنأى عن الإنسانية ؛ بل تهبط إلى درك الوحشية والبغض المقيت.
فهؤلاء العاملات لا يغضضن الطرف أو يرسمن اللامبالاة في مشاهدتهن للاضطهاد
الذي تعرَّض ويتعرّض له توماس إنما 'كنَّ يشعرن (...) بالخجل لرؤيته يرش
الواجهات بالماء ويربط فرشاة في طرف عصاه ويبدأ بالغسيل'(15)
وتعالى كونديرا في طرحه للكوميديا السوداء بتحويلها إلى متعة وإحساس بحرية
يتلقّاها توماس بشعور من ينداح عنه الثقل إلى الخفة، ثقل المتابعة
والملاحقة إلى خفة السير في الشوارع ثمِلاً أُزيحت عنه الضغوط. فبحكم
كونِه جرّاحاً معروفاً صارَ مرضاهُ السابقون 'يستقبلونه بزجاجةٍ من
الشمبانيا أو الكونياك ويسجّلون على ورقتِه أنَّه غسلَ لهم ثلاثَ عشرة
نافذة' (16). بعدها يخرج 'يترنَّح بين كأسي خمر عبر شوارع براغ بذهنيةِ
إنسانٍ يتنقلُ من احتفالٍ إلى احتفال. وكانت تلك عطلته الكبرى' (17)، بيد
أنَّ كونديرا يبدي تشاؤماً من بقاء القبضة الشيوعية قويةً قاهرة، والنظام
السوفييتي يتقدم بجبروته، جرى ذلك من جعل ابن توماس (الجيل الآخر) يلقى
المصير نفسه الذي لقاه أبوه. فقد ُطرد من الجامعة ليكون 'سائق جرار في
إحدى القرى' ص359 فيغدو مصيراهما مرسومين (جنباً إلى جنب بالاتجاه نفسه
وكأنهما خطان متوازيان' ص359 أو أنَّ مآلهما كأجيال متعاقبة مآلٌ متشابه
يقضي رازحاً تحت ثقل العسف والسحق والعقاب.. وسوف لا تنتهي هذه الدوامة
الماحقة التي تستمر عقوداً من حياة الأب وترميه كهلاً إلا بالموت الذي
واجهه وتيريزا عندما كان يسوق شاحنته عائدين من سهرة ليلية في قرية
مجاورة.
اللجوء إلى الطبيعة
في خضمِ تفاقمِ الخشية والملاحقةِ القاهرة التي وجد كل من توماس وتيريزا
نفسيهما يتحركان في بحرهما من سلطة كانت تحصي عليهما أنفاسهما وتوغل في
إذلالهما وحرمانهما من أي عمل يحاولان التوجه إليه وعدم تركهما يرحلان
خارج الوطن، متحينة أية فرصة للإيقاع بهما - جراء أي فعل لا ترضاه منهما -
نفَّذا فكرةَ التوجّه إلى الريف كوسيلة لا بد منها كسباً لراحة البال
وتخلصاً من العين الراصدة الحاقدة.. وفي الريف كان توماس عملَ سائقَ شاحنة
بينما انشغلت تيريزا بعدد من الأبقار في حظيرة خلفية لبيتها. ولم يكن من
عَزاء لهما غير الكلبة (كارينينا) التي اصطحباها معهما من براغ ووجدا فيها
خيرَ مؤنس. لا تحمل طباعَ البشر البغيضة وليس لوجودِها أي ثقل قاهر .. لقد
خصصَّ كونديرا القسمَ السابع الأخير من الروايةِ ومنحه عنوان (ابتسامة
تيريزا) ليسحب القارئ إلى عالمِ المودّةِ الفائقةِ التي ربطت توماس
وتيريزا بالكلبةِ فعاشا أيام مرضِها مصابةً بالسرطان وموتها في ما بعد
ودفنها تفصيلياً لينتزعهما من عالم البشري الذي يجمع البغض في نفسه لأخيه
الإنسان مع شعور أنهما فقدا شيئاً مُهمّاً يحملُ الأمانَ في صميمه، ولا
يبث غيرَ الودِّ والوفاء لمَن هُم حوله .
الخاتمــة
تتحرك الرواية كرسالة أرسلت من باث (مرسل) إلى متلق (مستلم) وسط أجواء
قرائية تدعو المتلقي إلى 'أن يستخدم ذاكرته بفعالية أثناء قراءة الرواية
(...) وأن يستعيد في ذاكرته ما مضى وذكر من حوادث، وما أثير من حوافز، وما
وصف من شخوص، وما تنقل فيه السارد والشخوص من أمكنة' (20) ليخرج بحصيلة أو
هدف أراد الروائي إيصال رسالته من خلالها إلى القارئ عبر الكشف عن كل ما
هو مبهم أو مضمر أو بعيد عن معرفة المتلقي بالحيثيات والتفاصيل. هذه
الرؤية كانت غير محببة في القرن السابع عشر ووجهت بمن يتهم صاحبها/
الروائي بإفساد الأذواق والذوات، فـ'صانع الروايات كشاعر المسرح مُسمِّم
عمومي، لا لأجساد المؤمنين بل لأرواحهم. ومن الواجب أن يعد نفسه مذنباً
بارتكابه عدداً لا يحصى من جرائم القتل الروحية' (21)، هذا ما ورد في
(رسالة عن الهرطقة الخيالية) التي كتبها نيكول في العام 1666 حين كان
يُنظر للمسرح على أنه عامل إفساد للأخلاق. وكونديرا في هذا الرحيل السردي
يُعَد بنظرِ المنظومة الروسية مُسممٌ عمومي، فقد رسمَ ما أرادَ إيصالَه
بفرشاةٍ مزجت الألوانَ وسكبت جذوتَها سرداً صورياً على قماشةِ القصِّ
ليطلع المتلقي الذي بالتأكيد استخدمَ الذاكرةَ في التسجيلِ والمخيلةَ في
التصوير فعرفَ تفاصيلَ لم يكُن قد عرِفَ منها الكثير وتعاملَ مع شخصياتٍ
سُحقت برحى المعاناةِ فهُمِّشت واضطُهِدت، وطُعِنت بخنجرِ تمزيقِ الذات
وقتلِ الحرية قتلاً شنيعاً فتولَّت الروايةُ مُهمّة أن تكون منشوراً
فاضحاً لممارساتٍ سلبية ظلت السلطة الروسية تمارسها على كل الذين يتحركون
في منظومتِها على مدى زمني تعدّى السبعةَ عقود.