علي النقاش ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 48 معدل التفوق : 116 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 12/03/2012
| | الثقافة العربية بين الميثودولوجيا والإيديولوجيا | |
د.يوسف سلامة* مما لاشك فيه أن المنهج مجموعة من المفاهيم الذهنية أو سلسلة من القواعد والإجراءات التطبيقية، أو هو نسق حي من كليهما، تتداخل فيه التصورات الذهنية بالقواعد التطبيقية، حيث لا تكون القاعدة إلا الحياة العينية لمجموعة المفاهيم النظرية التي ما هي إلا جملة الأفكار والمصادرات العقلية، التي تطبق ذاتها بأن تخضع موضوعا ما لمقتضيات ذاتيتها التي هي ليست بشيء سوى كلية الفكر التي هي مصدر الكلية والموضوعية والشمولة. وبهذا المعنى يشير المنهج إلى رؤية عقلية معينة إلى العالم الذي يصاغ فيه هذا المنهج، أي أن المنهج لا يوجد خارج التاريخ ولا ينفصل عنه، مادامت لحظة تاريخية معنية هي التي يصاغ المنهج في الأصل من اجل مواجهتها، إما بتعليقها، أو بالكشف عن متناقضاتها، بل مادة يستطيع القبض عليها عن طريق فهمه لها، قبل الشروع في إعادة تشكيلها في خطوة لاحقة، وذلك بالارتقاء بهذه المادة إلى مستوى الأفكار التي يتكون منها منهج بعينه، أي برد الموضوع أو اللحظة التاريخية المعنية إلى سلطان الذات الذي يستمد شرعيته من الفكر ذاته، إذ يفكك موضوعه ثم يعيد صياغته بحيث يتعرف هذا المنهج على ذاته في هذا الموضوع الذي تعد العلاقة بينه وبين موضوعه علاقة اغتراب متبادل، وذلك قبل أن ينجح المنهج في تغيير موضوعه وفقا لمقتضيات المنهج الذي يتم تطبيقه على هذا الموضوع أو ذلك. تلك هي طبيعة المنهج، ولكن ما دلالة إصرار الباحثين على تبني منهج بعينه دون سواه؟ المنهج تكثيف لرؤية الباحث أو المفكر إلى العالم في لحظة تاريخية معينة. والرؤية لا تنفصل عن الرائي، أي أن الرؤية هي جماع حرية الرأي العقلية. فالتفكير يفترض الحرية، والحرية تفترض العقل، إذ من غير الممكن لغير العاقل أن يكون حرا حرية حقيقية، كما أن الحر هو العاقل، لما يمتلكه من قدرة على تبرير اختياراته في مقابل الاختيارات الأخرى التي يستبعدها أو يفندها. على ذلك، فإن تعدد مناهج المفكرين تنحصر كل دلالاته في كون الإنسان حرا، لا أكثر ولا أقل. وهكذا أصبحت الحرية تشير هاهنا إلى مقدرة الذات على استنباط منهج يضمن لها التحرر إزاء العالم، ما دام هذا المنهج يمكن الذات من الارتقاء بموضوعها إلى مستواها، فيقضي بذلك على الاغتراب المتبادل بين الذات وعالمها من ناحية، ومن ناحية أخرى يجعل من الذات معيارا لذاتها بحيث تكون قادرة على الاحتفاظ باستقلالها إزاء عالمها، وعلى الارتقاء بموضوعها إلى مستواها، مما يجعل الذات هي النقطة الارشميدية في هذا العالم، فلا تفقد ذاتها في كثرته، ولا تفقد يقينها بأنها مصدر الحق في هذا العالم، ومن نافلة القول التنبيه إلى أن الحديث لا ينصب هنا على ذات شخصية بسيطة تندمج في ذهنها الحرية بالتعسف، والذاتية بالنسبة، بل إن الحديث ها هنا منصب على الذات التي تستمد ذاتيتها وكليتها، في آن واحد، من جملة التصورات والأفكار المنهجية التي تنأى بالذات عن المعاني الشعبية والدارجة لمفهوم الذاتية. فالذاتية التي نتحدث عنها ها هنا نتاج لعمليات عقلية شديدة التعقيد، تستجيب للمستويات الحضارية والتاريخية التي تعيش الذات في ظلها، وهو ما يجعل أفكارها فعالة وقادرة على إعادة خلق موضوعاتها، إعادة إنتاجها وتركيبها في مستويات جديدة هي المستويات التي تستطيع أن ترتقي بها إليها تصوراتها المنهجية المشار إليها. من ناحية أخرى، فإن هذه الذات المنهجية -إن جاز التعبير- لا تستحدث أفكارها من تلقاء ذاتها في تعسف مصطنع، بل هي تستحدث هذه الأفكار وهي في انسجام تام مع أعمق متطلبات مفهوم الأمة التي ينتسب إليها المفكر في لحظة تاريخية بعينها، وإن لم يكن من شأن ذلك أن يحول بيننا وبين الاعتراف بأن بعض المناهج أو الرؤى المنهجية تتمتع بقدر من خصوبة الرؤية يتيح لها أن تمتد بشرعيتها وصحتها فيما وراء اللحظة التاريخية المعنية التي وجدت من أجل إعادة بنائها أو إعادة تركيبها، بحيث تمضي إلى ما وراء ذاتها، فتصبح متطابقة مع رؤية الذات إلى عالمها عبر ذلك الجهاز التصوري الذي أطلقنا عليه اسم المنهج أو الرؤية المنهجية، فما الحرية إذن إلا قدرة الذات على أن ترتقي بالعالم إلى مستواها أو مستوى رؤيتها، وهو عينه ما يقضي على حالة الاغتراب المتبادل بين الذات والعالم(1). أما الإيديولوجيا، فمن المعروف أنها مصطلح يتركب من الكلمتين اليونانيتين: الأولى ومعناها فكرة الثانية ومعناها العقل أو العلم، فيكون حاصل جمع هاتين الكلمتين هو ما يمكننا تسميته بـ علم الأفكار. والغريب في الأمر أنه سرعان ما انقلب هذا المصطلح من الدلالة على العلم أو على علم مختص بحقل معين إلى كونه مصطلحا غير علمي يرتبط بكل ما هو زائف أو خاطئ أو مضلل أو خالق للوهم والزيف غير المقصود الذي لا مقدرة لنا على قهره أو تخطيه نحو الحقيقة لكونه زيفا لا شعوريا ويصدر عن غير وعي. وعلى أية حال، فقد دل هذا المصطلح منذ نشأته في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر عند واضعه ديتسوت دوتراسي على "العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع للكلمة، أي مجمل واقعها الواعي من حيث صفاتها وقوانينها وعلاقاتها بالعلائم التي تمثلها، لاسيما أصلها"(2). فالمطمح الأساسي لواضعي هذا المصطلح قد استهدف أصلا اكتشاف العلاقات والقوانين التي بموجبها ترتبط الأفكار بالوقائع التي تشير إليها. ولقد بدا أن هذا الأمر يقتضي القيام بنوع من عزل بعض الخصائص التي يفترض أن الأفكار تمتاز بها، وأن هذه الخصائص إذا ما اكتشفت تؤدي إلى الكشف عن الكيفية التي ترتبط بها الأفكار بالوقائع من ناحية، وعن خصوصية الوقائع في مقابل أفكار محددة من ناحية أخرى. غير أن هذا كله سرعان ما أصبح جملة من المطالب المنسية والأهداف غير الجوهرية في ضوء التطور التاريخي للمصطلح في المراحل اللاحقة من تاريخ الفكر الأوروبي. إذ سرعان ما انقلب هذا المصطلح من كونه يدل على العلم ويرتبط به إلى كونه مناقضا للعلم تماما، حتى أنه قد أصبح وثيق الارتباط بـ الزيف والخطأ أو الوعي الزائف أو الوعي غير القادر على تحديد حقيقة علاقته بأفكاره من ناحية، وحقيقة علاقة أفكاره بالعالم الذي يحيا فيه وينتج حياته الفردية والاجتماعية داخله من ناحية أخرى. وقد اقترن بهذا التحول إلى الزيف والخطأ اقتصار مصطلح الإيديولوجيا على الدلالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولذا أصبح من الممكن تعريف الإيديولوجيا بعد كل هذه التحولات بأنها "مجموعة من الأفكار أو المعتقدات أو الآراء المتماسكة إلى حد ما، والتي تعتبرها فئة اجتماعية معينة أو حزب سياسي معين بمثابة ما يقتضيه العقل، مع أن نابضها الفعلي يكمن في حاجة تبرير مشروعات معدة لتلبية غايات منفعية"(3). ومن الواضح أن هذا التعريف يدفع بـ الإيديولوجيا نحو الافتراض بأنها تشكل مجموعة من الأفكار المستقلة والمترابطة فيما بينها وكأنها تكفي ذاتها بذاتها وتفسر ذاتها بذاتها، من غير الحاجة إلى التفكير بطبيعة الارتباطات الممكنة أو المحتملة بين هذه الأفكار، التي تتبناها مجموعة اجتماعية أو حزب سياسي، وبين الوقائع التي قد تضطلع بمهمة تفسير الأفكار في المنظومة الإيديولوجية بالمعنى التقليدي لهذا المصطلح. ولذا فمن الوهم البعيد النظر إلى الإيديولوجيا على أنها فكر نظري "يتنامي بطريقة تجريدية تعتمد على معطياتها الخاصة وحدها، مع أن هذا الفكر في الحقيقة ليس سوى تعبير عن واقع اجتماعي، لاسيما اقتصادي، لا يعيها أصحاب الإيديولوجيا، أو على الاقل لا يدركون أن هذه الواقعات هي التي تقر مضامين أفكارهم"(4). من هنا بالضبط نشأ مفهوم الزيف الذي اقترن بـ الإيديولوجيا وبكل ما هو إيديولوجي، ذلك لأن صاحب الإيديولوجيا يعتقد أن نشاط الوعي يفسر بنفسه، أو أن الأفكار تفسر بذاتها، في حين أن الوعي وما ينتجه من أفكار يفسران بقوة خارجة عن الوعي ومستقلة عنه هي قوة الوقائع الخارجية، وبخاصة قوة الوقائع الاقتصادية التي تنتج بصورة لاشعورية مكان الفرد ومكانته ووعيه داخل الحياة الاجتماعية. وهكذا فإن الإيديولوجيين يقدمون تفسيرا مقلوبا للعالم ينتهي بهم إلى الوعي الزائف عندما يفسرون الوقائع، وجملة النظام الاجتماعي، بالأفكار بدلا من تفسير الأفكار بالنظام الاجتماعي وبالوقائع التي ينطوي عليها ويتكون منها. وبوسعنا العثور على العديد من النصوص في أعمال ماركس وأنجلز تؤكد أن الإيديولوجيا وعي زائف، أو هي على الأقل مرتبطة بهذا النوع من الوعي ارتباطا وثيقا. يقول انجلز: "الإيديولوجيا هي عملية يقوم بها المفكر المزعوم بوعي أكيد، لكن بوعي زائف. فالقوى المحركة التي تدفعه تبقى مجهولة منه، وإلا لما كان ثمة سيرورة ذهنية، فهو يصف مضمونها كما يصف شكل الفكر المحض، سواء فكره الخاص أو فكر سابقيه. إنه يعمل معتمدا على التوثيق الفكري وحده، إذ يتناوله دون أن يمعن فيه النظر ليرى إذا ما كان ينبثق من الفكر، ودون أن يدرسه أكثر على صعيد صيرورة أبعد مستقلة عن الفكر"(5). وهو يقول أيضا: "تعني الإيديولوجيا مجموعة من الأفكار التي تحيا حياة مستقلة متقيدة فقط بقوانينها الخاصة. إن كل شروط الحياة المادية التي يحياها الناس الذين تتابع هذه الصيرورة الإيديولوجية في أذهانهم، يقرر في التحليل الأخير مجرى هذه الصيرورة، فهذه الواقعة تبقى مجهولة منهم كليا، وإلا لكانت كل الإيديولوجيات مازالت من الوجود"(6). وما يستخلص من النصين السابقين هو أن الإيديولوجيا تتوهم المقدرة على تقديم صياغات فكرية مستقلة عن الواقع، في حين أنها خاضعة -دون وعي منها- لسطوة الوقائع، الأمر الذي يحول الإيديولوجيا من وجهة النظر الماركسية إلى بنية فوقية منعكسة عن بنية تحتية لا تفسر إلا بها. وما هذه البنية التحتية إلا الوقائع المستقلة عن الوعي في نشاطها وحركتها، وبخاصة ما تفرضه وقائع الحياة الاقتصادية من تأثيرات في الوعي تجد التعبير الأخير عنها في التناقض القائم بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في هذا المجتمع أو ذاك. ولعل هذا هو بالضبط ما دفع بـ ماركس إلى القول: "لا نستطيع الحكم على عصر من العصور بناء على رأيه بنفسه. وحدها التناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج تؤلف الأسباب الموجبة أي القوى المقررة والحاسمة. ينبغي إذن تمييز هذه التناقضات الواقعية، كما يحللها العلم، عن الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية... باختصار عن الأشكال الإيديولوجية التي يعي الناس بها هذه التنازعات، ويقودنا إلى منتهاها"(7). فتفسير الأفكار لا يكون بالأفكار بل بأسسها المادية، والحكم على العصر لا يكون دقيقا إذا كان منطلقا من تصور العصر لنفسه، إذ لابد من القيام برصد دقيق للقوى المحركة والفاعلة داخل هذا العصر من أجل فهمه ورسم صورة له تتسم بهذا القدر أو ذلك من الدقة. ولهذا كله كانت الإيديولوجيا ثمرة للوعي الزائف أو الوعي الذي تعوزه الدقة نتيجة لمحاولته فهم الذات معتمدا على منتجاته الذاتية، في حين أن تلك المنتجات الفكرية أو الذهنية ينبغي أن تفسر بالقوى التي أنتجتها وبالمصالح التي أملتها على الفرد والجماعة على حد سواء. إذا كان ماركس وإنجلز قد نظرا إلى الأيديولوجيا على أنها لا تنفك عن الوعي الزائف، الذي هو ثمرة لموقف الإنسان الطبقي ومصالحه الطبقية التي لا تفسر دون العودة إلى موقع الفرد في العملية الإنتاجية، فإن لينين قد أعاد الاعتبار لمفهوم الأيديولوجيا عندما نظر إليها على أنها تشكل جزءا من مجموعة نزاعات الصراع الطبقي... وعلى أنها "أسلحة عقيدية تتمتع بها الطبقات الاجتماعية"(8). وهو يقول أيضا في كتابه ما العمل؟: "دون نظرية ثورية لا يمكن قيام حركة ثورية"(9). وهنا يجب الانتباه إلى أن مفهوم النظرية الثورية مرادف لمفهوم الايديولوجيا. فضلا عن أن موقف لينين من الايديولوجيا الذي يعارض الموقف الماركسي المبدئي منها هو ذاته يستند إلى أساس وضعه ماركس نفسه في أطروحته الأخيرة حول فيورباخ بقوله: "لم يفعل الفلاسفة سوى إعطاء تفسيرات مختلفة عن العالم، لكن المطلوب هو تغييره"(10). ولما كان من المتعذر تعيير العالم دون نظرية مرشدة، فقد بدت الإيديولوجيا للينين على أنها سلاح عقائدي يستحيل التقدم بغيره إلى الأمام. وعلى أية حال، فسيظل معيار الصحة أو المطابقة -سواء بالنسبة للينين أو بالنسبة لمعلمي الماركسية الأوائل- هو الموقف الطبقي الذي توجهه الممارسة التاريخية الصحيحة. وفيما يتعلق بالصلة بين الوعي والإيديولوجيا، فإننا نجد أنفسنا أمام ثنائية حادة، يستعصي حلها أو التقريب بين حديها، أعني التقابل بين الوعي أو الأنا أو الذات على المستوى النفسي من جهة، وبين الإيديولوجيا على مستوى البنية الاجتماعية من ناحية أخرى، وذلك لأن منها، فيما يبدو، من يقوم بالوظيفة نفسها، أي أنه يعتبر نفسه منبعا لا مصبا(11). وهذا يعني أن الذات والإيدبولوجيا تعدان نفسيهما نقاط ابتداء يفسر بها ما عداها لا نقاط انتهاء تفسر بما سبقها بشكل أو بآخر. ومن المؤكد أن الفارق كبير بين تصور الذات لموقعها في العالم وبين الموقع الذي تتصور الإيديولوجيا أنها تشغله بالفعل، ونظرا لكون الذات يمكن لها أن تمتلك وعيا تاريخيا ونقديا من شأنه أن يصفي أفكارها ويطهرها مما هو إيديولوجي. غير أن الأيديولوجيا في عين اللحزة التي تدّعي الذات فيها امتلاكها لموقف نقدي فلسفي أو فوق إيديولوجي، فإن الإيديولوجيا تحاول أن توقع الوعي أو الذات في شبكتها عندما تصف هذا الموقف نفسه بأنه ليس إلا موقفا إيديولوجيا بامتياز. وعلى الرغم من أن العلاقة بين الفلسفة والأيدبولوجيا تمثل إشكالا لا يسهل حله، فإن أهم ثغرة تعجز الأيدبولوجيا عن تجنبها إنما تتمثل في "خطر الاكتفاء بقوام فكري تقريري، أي بفلسفة غير متينة كفاية من الناحية العقلانية النقدية. هذه الثغرة المفتوحة دائما تقريبا في جدار الأيديولوجيات والتي يتسرب عبرها إلى داخل البناء العقائدي ضباب الوعي الزائف هي التي أشار إليها ج.مونرو: الأيديولوجيات تخالف الفلسفات، فهي تصاغ انطلاقا من فلسفات أعمق أخضعت للتعديل بهدف تلبية حاجيات لا شعورية، وكُيّفت بصورة اعتبارطية تبعا لمقتضى تقلبات بورصات السياسة اليومية... إن إحدى الصفات الأساسية للأيديولوجيا هي أنها صالحة للاستعمال... فالأيديولوجيات بفضل إنتاجها بالذات، مرشحة منذ ولادتها لتمثل دور اللاقتة التي تغطي البضاعة"(12). وما هذه التغطية ذاتها إلا الوعي الزائف نفسه الذي لا تستطيع الأيديولوجيا الخروج منه أو تخطيه نحو موقف مطابق للحقيقة. وعلى الرغم من كل ما قيل حول الأيديولوجيا، وحول ارتباطها بالوعي الزائف، فإنها لا تكون ممكنة خارج نطاق ارتباطها بالفلسفة أو بمعزل عنها، فالأيديولوجيا الاشتراكية ليست إلا نوعا من التكييف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للفلسفة المادية. ولكنه تكييف يعيد صياغة الأفكار الرئيسة فيها بحيث تصبح معبرة عن مصالح الفئات الاجتماعية أكثر من كونها تستهدف إبراز الحقائق واكتشافها. وبالمثل فإن الأيديولوجيا الليبرالية ما هي إلا نوع من الصياغة الأيديولوجية للفلسفات التي ظهرت ابتداء من القرن السابع عشر، تلك الفلسفات التي أنزلت الإنسان منزلة الصدارة في العالم الحديث ونظرت إليه باعتباره مركز العالم ومصدر السلطة وغاية الوجود. والليبرالية ذاتها من حيث هي إيديولوجيا قد أعادت بناء هذه الفلسفات، أو على الأقل جوانب منها، على نحو سمح باستخدام كثير من مفاهيمها استخداما ايديولوجيا يترجم مصالح بعض الطبقات الاجتماعية، فتحولت هذه العناصر الفلسفية الخالصة إلى أدوات إيديولوجية تنطوي على عناصر الوعي الزائف في صيغة مقابلة ومتممة لصيغة الوعي الزائف في الأيديولوجيا الاشتراكية في صورها المختلفة. وأما ما سننطلق الآن للبرهنة عليه، فهو أن القاعدة التحتية أو السفلية لكل إيديولوجيا إنما هي واحدة من بين إحدى الفلسفات التي نذرت نفسها لاكتشاف الحقيقة في صيغة علمية منظمة، وأن الانتقال بالفلسفة من كونها فلسفة أو علما إلى كونها ايديولوجيا يشير إلى نوع من التزييف للفلسفة ينتهي بظهور الوعي الزائف داخل الأيديولوجيا بغير استثناء. كما أن تطبيق أحد المناهج المستعملة في إحدى الفلسفات خارج أفقه الحضاري الأصلي الذي ظهر فيه وأثبت كفاءته الفلسفية والمنهجية في داخله -كأن يطبق منهج فلسفي مشتق من إحدى الفلسفات الغربية الحديثة على مادة إسلامية- من شأنه أن يهبط بالمنهج الفلسفي المستعمل من كونه منهجا فلسفيا بالمعنى الدقيق للكلمة إلى كونه إيديولوجيا، ذلك لأن المنهج مرتبط بمضمونه وبالأفق الذي ظهر فيه، وبمجرد نقله من أفقه الحضاري الأصلي إلى أفق حضاري آخر، فإن ذلك سيؤدي إلى ظهور الاغتراب بصورة مباشرة بين المنهج والمادة التي يطبق عليها. وبما أن المنهج يتمتع بالأولوية على المادة المدروسة -وهذا ما يفسر وجود المناهج أصلا- فإن المنهج يصبح منطويا على نتائجه سلفا عندما يتم تطبيقه على مادة تنتسب إلى أفق حضاري مختلف عن الأفق الحضاري الأصلي للمنهج المطبق، وبذلك يتحول المنهج إلى ايديولوجيا تنطوي على وعي زائف لا ينتسب إلى المادة المدروسة، بل هو ينتسب إلى الأفق الحضاري الذي صدر عنه المنهج، مما يجعل البحث ينتهي إلى نوع من الزيف المضاعف أو المزدوج: الزيف الأول ناجم عن تحول المنهج إلى ايديولوحيا، والزيف الثاني ناتج عن أننا نطبق نتائج وعي زائف مستمد من خارج الأفق الحضاري للمادة المدروسة، وهذا ما سنحاول الكشف عنه الآن بصورة تفصيلية ومنهجية. الفرض الأساسي الذي نريد الدخول إلى بحثنا من خلال هو ما نذهب إليه من أن الفكرة الحضارية الواحدة لا تقوم عليه إلا حضارة واحدة. وأن هذه الفكرة -مهما بلغت أهميتها في نظرنا- يتعذر مع ذلك، إذا ما سبق أن استندت إليها حضارة ما في قيامها، أن نأمل في إثارة حضارة جديدة منطلقة من هذه الفكرة التي أصبحت نتيجة لذلك تنتسب إلى ماضي روح العالم. ومهما بلغت الجهود التي يمكن أن تبذل في سبيل إحياء هذه الفكرة، فإن إحياءها أمر متعذر إذا ما قصد به استنباط أشكال جديدة للحياة تتجاوز الأشكال التي سبق لها أن أقيمت على هذه الفكرة. وعلى ذلك فليس من شأن الاستمساك بفكرة سبق للإنسانية أن أقامت عليها حضارة ما أن يوفر للأمة التي تحاول الاستمساك بها غير فرصة للبقاء لفترة أطول على قيد الحياة قبل دخولها النهائي في ليل الاضمحلال الطويل، ذلك الليل الروحي الذي تفقد فيه كل الأشياء تمايزاتها الحية. وهذا الوجود الإضافي لا يمكن له أن يتسم إلا بطابع دفاعي يخلو من كل إبداع. ولكنه على كل حال يوفر للأمة المضمحلة ملجأ مؤقتا، غير أنه ملجأ آيل إلى السقوط. وهذا التحليل ينطبق على سائر الأفكار الحضارية الكبرى بما فيها الإسلام ذاته. وأما الفرض الثاني الذي نحاول تأسيس بحثنا عليه في العلاقة ما بين الميثودولوجيا فهو أن المنهج أو علم المناهج بصفة عامة الميثودولوجيا ما هو إلا تعين من تعينات لا متناهية لهذه الفكرة الحضارية أو تلك التي قامت عليها حضارة هذه الأمة أو غيرها. وصحيح أن المنهج مجموعة من المفاهيم الذهنية، أو سلسلة من القواعد والإجراءات التطبيقية، أو هو نسق حي من كليهما تتداخل فيه التصورات الذهنية بالقواعد التطبيقية بحيث لا تكون القاعدة إلا الحياة العينية لمجموع المفاهيم النظرية التي تطبق ذاتها بأن تخضع موضوعا ما لمقتضيات ذاتيتها، وبذلك لا يكون هذا الموضوع إلا الحيز الذي تجد فيه الفكرة الحضارية للأمة مجالا خصبا لتعينها. وعلى ذلك، يمكن النظر إلى المنهج على أنه النشاط الحي للفكرة الحضارية في العالم. والمنهج يمارس فاعليته تلك من خلال رد الكثرة إلى الوحدة، أو عن طريق إخضاع كثرة المراد إلى وحدة الفكرة أو المفهوم، فالحجر يوجد في طبيعته وجودا محايدا بالقياس إلى ذاته أو بالقياس إلى من ليس له اهتمام، غير أن هذا الحجر ذاته يمكن أن يكون تمثالا مصريا أو يونانيا أو رومانيا، بل وربما كان يمكن أن يكون إسلاميا، فذلك متوقف على المنهج الذي يتبعه المثّال في معالجته للحجر، بل من الممكن للحجر ذاته، بحسب منهج ما، أن يكون أداة مقاومة وسلاحا يرفع في وجه الظلم والاحتلال. وهذا يعني أن المنهج هو الذي ينتج الهوية بين الأشياء والعالم بعامة، وبين الذات الحضارية التي ينتسب إليها الفنان أو العالم أو الفيلسوف أو رجل المقاومة. وما إنتاج الهوية هذا إلا شكل من أشكال القضاء على غربة الأشياء عندما يقوم شخص ما بتشكيلها مستعملا فكرة حضارية معينة يكون من شأن إحلالها في الأشياء أو خلعها على الطبيعة وعلى كل ما هو مادي طابعا روحيا يسمح لنا بنسبتها إلى هذه الفكرة الحضارية أو تلك(13). وعلى ذلك يكون المنهج بمثابة النفس الحية للفكرة الحضارية، لأنها به تحقق وبغيابه تذوي وتضمحل. وإذا فمهمة المنهج الارتقاء بالأشياء والمراد -وإن شئت فقل العالم بأسره- إلى مستوى الأفكار التي يتكون منها منهج بعينه، وذلك لا يتحقق إلا برد العالم أو اللحظة التاريخية المعنية إلى سلطان الذات الذي يستمد شرعيته من انتسابه إلى فكرة حضارية بعينها. وهكذا فإن المنهج يوفر للذات الإنسانية الحرية الحقيقية التي هي كذلك لأنها متعينة، وتعينها نابع من ارتباطها بـ الفكرة الحضارية التي يتوسط هذا المنهج بينها وبين العالم الذي تمارس الذات فيه حريتها. وهكذا فإن المنهج يوفر للذات فرصة لأن تكون متحررة إزاء عالمها، مادام هذا المنهج يمكن الذات من الارتقاء بموضوعها إلى مستواها، فيقضي بذلك على الاغتراب البدئي بين الذات وعالمها من ناحية، وهو من ناحية أخرى، يجعل من الذات معيارا لذاتها مادامت لا تسترشد إلا بأعمق المكونات الفكرية الحضارية التي تستند إليها الأمة التي ينتسب إليها الفنان أو العالم أو الفيلسوف. ذالكم هو الاستخدام الصحيح للمنهج، أي عندما يكون المنهج المطبق على مادة ما مستخلصا ومستخرجا من روح الفكرة الحضارية ومطبقا على مواد يضفي عليها هذا المنهج هوية هذه الفكرة الحضارية، ذالكم هو الحال بالنسبة للحضارة الناهضة التي تمتلك السيادة والهيمنة على عالمها. فالمنهج في مثل هذه الحالة يشير إلى أنه القوة التي بمقتضاها يتم الارتقاء بالعالم إلى مستوى الذات أو إلى مستوى الفكرة الحضارية. غير أن الأمر مختلف عن ذلك تماما عندما تكون الحضارة المدروسة حضارة مضمحلة تنتسب إلى ماضي العالم أكثر من انتسابها إلى حاضره. ذلك لأنه لو استمددنا منهجا من الحضارة السائدة أو المهيمنة وطبقناه على هذه الحضارة، فسنكون بإزاء اختيار ايديولوجي أكثر من كوننا بإزاء اختيار منهجي معرفي. ذلك لأن المنهج المستعار من الحضارة القوية والناهضة سيفرض نتائج محددة ومسبقة على المادة التي تنتسب إلى تلك الحضارة المضمحلة، وبذلك يتحول المنهج إلى نوع من الأيديولوجيا التي تعيد تشكيل حضارة بأكملها منطلقة من المقتضيات النفسية والاقتصادية والاجتماعية الغريبة تماما على تلك المادة المدروسة. ولذلك قد يصح القول بأن التناول المنهجي والسليم في حالة كهذه هو ذلك التناول الذي يستخلص فيه الفكر منهجه من صميم المادة المدروسة ذاتها، متجنبا في كل ذلك فرض أي عنصر خارجي بجلبه معه، بصورة مسبقة، من خارج الموضوع المدروس. ولما كانت المادة التي تريد استخدام منهج محدد في دراستها مادة محايدة يمكن لأي منهج أن ينطبق عليها، وذلك لكونها تنتسب إلى حضارة معينة من ناحية، ولكونها، من ناحية أخرى، تنطوي على محدداتها المنهجية الذاتية المستمدة من الحضارة التي تنتسب إليها. كان من الضروري التماس المنهج داخل المادة المدروسة، لأنها ستكون قادرة بالتأكيد على الإفصاح للباحث عن المنهج المطابق لحقيقتها التي هي ليست بشيء سوى روح الحضارة التي تنتسب إليها هذه المادة، فنتجنب بذلك الوقوع بالاغتراب بين المادة والمنهج، ونكون بذلك أقرب إلى الحقيقة لأننا نحاول بذلك أن نكشف عن روح الحضارة التي تنتسب إليها المادة التي تتسم دراستها بمنهج غير مستعار، كما أننا نكشف عن أصالتها وعمقها وغناها الذاتي، في حين أننا لو طبقنا عليها منهجا مستمدا من حضارة أخرى، لبدت هذه المادة مطواعة مرنة وقابلة لأن يتم إلحاقها بروح الفكرة الحضارية التي يستعار منهج ما من المناهج المتعددة التي تنتسب إليها، وبالتالي تتلون المادة نفسها بألوان هذا المنهج أو ذلك الذي قد نقوم بتطبيقه على مادة حضارية مختلفة، وفي هذه الحالة فإن الباحث يلزم نفسه -ولو ضمنا- بضرب من التكرار التاريخي ربما يتمثل في مهام قد أنجزتها. ومن ثم فإن كل ما يدعو إليه وما سمارسه في هذه الحالة لا يزيد عن كونه تكرارا لا غناء فيه مادامت الفكرة الحضارية الواحدة لا تقوم عليها إلا حضارة واحدة. وهذا يعني أن الباحث عندما يستعير منهجا من حضارة أخرى يطبقه على مادة تنتسب إلى حضارة مضمحلة أو فائتة، فإنه في الحقيقة لا يستعير معهما، بل وقبلهما، الفكرة الحضارية أو القاعدة الروحية أو البنية السفلي التي لا يمكن لهذا المنهج ولا لتلك الإيديولوجيا أن يقوما بدونها. ومن البديهي أنه لا نفع يرتجى من استعارة الفكرة أو القاعدة الروحية طالما أنه يتعذر للفكرة الواحدة أن تنشء أكثر من حضارة واحدة. وبما أن الفكرة هنا تكون قيد الاستعارة، فهذا يعني أنها قد قامت بمهمتها في أمة أخرى، ولم تعد قادرة على إنجاز أي شيء نافع للأمة التي تستعيرها. ولو أننا نظرنا في دعوة طه حسين وغيره من المفكرين العرب إلى الليبرالية -التي هي إحدى تعينات الفكرة الحضارية التي نهضت عليها الحضارة الغربية ابتداء من القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا- لوجدنا أن ما ينشده من وراء استعادة الليبرالية في شروط عربية لا يمثل في نهاية المطاف غير دعوة إلى تكرار حقبة منقضية بالنسبة للحضارة الغربية، وإن مثلت الليبرالية في هذه الحالة نقطة ابتداء لا تمثل إبداعا أو إضافة وإنما هي مقدمة قد تفضي بعد مسار طويل إلى نوع من الإضافة والإبداع بتمثل في تجاور الفكرة الحضارة ذاتها التي أقام الغرب عليها حضارته. ومع ذلك فإن مطلب الليبرالية عند طه حسين وغيره لا يخلو من تناقض، أي أن الشروع في تنفيذه قد يؤدي إلى نقيض الليبرالية مباشرة، أعني أنه قد يؤدي إلى الدولة الشمولية، وبعبارة أقل وضوحا إلى الدولة العسكرية، فالمطلب الليبرالي، كما يصوغه طه حسين نفسه، متمثلا في الدولة الليبرالية، هو ذاته قد يتحول إلى مطلب ليبرالي ما دامت الدولة الليبرالية ذاتها لا تستطيع أن تحقق ذاتها إلا إن ألزمت الناس بأن يخضعوا لمنهج واحد في التربية حدد معالمه طه حسين في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر. وقد أثبتت التجربة بأنه من السهل على السلطان أن ينحرف بعد ذلك عن إلزام الناس بأن يكونوا أحرارا إلى إلزامهم بالتنازل عن حرياتهم في الدولة العسكرية بأشكالها المختلفة الدينية والعلمانية. ذلك أن الضباط الأحرار قد استندوا إلى المبدأ نفسه المتمثل في الحق المذكور. وكل ما فعلوه بعد ذلك هو أنهم قد ألزموا الناس بقيم أخرى غير القيم الليبرالية التي دعى إليها طه حسين في الأصل. ورعان ما انتشرت دولة الضباط الأحرار في شتى أقطار الوطن العربي الكبير(14). وبالمثل فإن المنهج المادي التاريخي الذي لجأ إليه الماركسيون العرب في تحليلهم للتراث العربي الإسلامي والثقافة العربية ينتهي إلى نتائج ايديولوجية مستمدة من طبيعة المنهج المادي الذي هو أحد التعبيرات التي أبدعتها الفكرة الحضارية للأمم الغربية. ذلك أن المنهج المادي، كالمنهج الليبرالي، ينطوي على نتائجه مسبقا بصرف النظر عن المادة التي يتم تطبيقه عليها. وهكذا سرعان ما تحولت الميثودولوجيا المادية بين أيدي الماركسيين العرب إلى إيديولوجيا اشتراكية تجد لها تطبيقات لا حصر لها في المادة المنتزعة من الثقافة العربية الإسلامية. وهكذا ينتهي الأمر بنا، بصدد المنهج المادي التاريخي، إلى تحيز منهي خطير، أو إلى اختيار إيديولوجي مفروض على التراث من خارجه وليس نابعا منه عندما نقرر "أن المنهج المادي التاريخي وحده هو القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركته التاريخية واستيعاب قيمته النسبية، وتحديد ما لا يزال يحتفظ منها بضرورة بقائه وحضوره في عصرنا كشاهد على أصالة العلاقة الموضوعية بين العناصر التقدمية الديمقراطية من تراثنا الثقافي وبين العناصر التقدمية والديمقراطية من ثقافتنا القومية في الحضارة"(15). وهكذا فإن هذه الاستعارة الإيديولوجية ولدت تحيزا منهجيا أصبح بمقتضاه المنهج المادي التاريخي هو وحده القادر على دراسة التراث على النحو الذي يريده له حسين مروة أن يكون. ولما كان المنهج المختار يجسد متطلبات إيديولوجية بعينها، لم يكن هذا المنهج سوى ضرب من ضروب التحيز المنهجي الذي يلغي الموضوع المدروس أو يتجاهله على الأقل لكون المنهج في هذه الحالة يؤدي إلى نتائج معروفة مسبقا، أي جملة الأفكار والرؤى التي تنطبق على كل تراث وليس على التراث العربي الإسلامي وحده بمقتضى الإيديولوجية المادية التي طورها ماركس وانجلز. وما يؤكد انتهاء هذا النوع من التحليلات إلى تحيز يقضي على الموضوع المدروس بالزوال والاضمحلال وبسيادة النزعة الصورية يتجلى في التطبيق غير المحدود للمنهج المستعار بوصفه صورة تلتقط من الموضوع المدروس ما يتسق ومنطقها الخاص، بينما نظر إلى ذلك الجانب من الموضوع الذي يتعذر استيعابه في قلب هذه الصورة المنهجية على أنه بقية تافهة وغير جوهرية. ويصر أصحاب هذه الرؤية المنهية والأيديولوجية على أن معرفة التراث لابد لها أن تنطلق من الحاضر في جميع الأحوال، ولذا يقرر حسين مروة بأنه: "على قدر ما يختلف حاضر كل موقع طبقي عن حاضر الموقع الآخر، وعلى قدر ما تختلف علاقة كل منهما بالماضي عن علاقة الآخر به يختلف التراث نفسه كذلك عند كل منهما، وبالصورة نفسها التي يتسم بها حاضر كل موقع طبقي وترتسم بها علاقته بالماضي وبالصورة نفسها يرتسم التراث أيضا في المنظور الإيديولوجي لكل منها. هكذا يتكشف أن هذا التراث ليس واحدا. إن التراث يتعدد لأنه منظور إليه من الحاضر، والحاضر متعدد. ونحن نعني هنا بالطبع المنظور الإيديولوجي الطبقي للتراث رغم أن التراث كواقع تاريخي واحد"(16). ومن ذلك يستبين أننا بإزاء مسعى يستهدف إعادة تشكيل التراث والتاريخ والماضي والحاضر وفق منهية لا تقيم وزنا لحقيقة التراث ولا لطبيعة الحاضر، فهي تتجاهل أن العناصر المذكورة كلها نتاج لفكرة حضارية مختلفة هي الفكرة الحضارية الإسلامية التي يتعين، من أجل القضاء على التحيز المنهجي والإيديولوجي في دراسة مضامينها وتعيناتها التاريخية، العودة إلى هذه المضامين وتلك التعينات من أجل الاهتداء إلى نفس الحياة، أي إلى المنهج الذي ولدت بمقتضاه انطلاقا من الفكرة الحضارية الإسلامية التي لا تزيد هذا المنهج عن كونه وساطة حية وفعالة بين هذه الفكرة ومضامينها المتعينة في العالم التاريخي. ومن ذلك كله يتبين أننا مضطرين للاختيار بين نزعة صورية فارغة تبتلع الموضوع المدروس وتقضي على خصائصه المميزة، بصرف النظر عن المنهج الذي يمكن لنا أن نختار تطبيقه على المادة الإسلامية المدروسة. فسواء كان هذا المنهج منطلقا من رؤية ليبرالية إلى العالم، بكل تنوعاتها ولويناتها التي يمكن أن تعبر عن نفسها من خلال مناهج علمية متعددة، وحتى من خلال رؤية سياسي معينة، أو كان منطلقا من منهج مادي تاريخي هو ذاته قد نشأ في قلب الليبرالية كمتمم لها ومتجاوز لماهيتها، بكل خصائصه ولويناته المتعددة والمتنوعة، أي سواء كان منطلقا من الماركسية كما صاغها ماركس وانجلز ذاتهما، أو من اللينينية أو من الستالينية أو من التروتسكية، فإننا سنكون بإزاء نتيجة واحدة: وهي أن التراث العربي الإسلامي في حقيقته، طبقا لهذا المنهج أو ذاك ليست له ذاتية تخصه أو ماهية تنتسب إليه، لأن هذه الماهية قد أضحت جزءا من المنهج المطبق على المادة الإسلامية حتى أنه لم يعد هناك من مبرر للعودة إلى المادة الإسلامية نظرا لكون المنهج المطبق هو الذي يخلع عليها هويتها وماهيتها المميزة. وبذا نكون بإزاء نزعة صورية مطلقة تنتفي الحاجة معها إلى العودة إلى المادة ذاتها، لأن المنهج المطبق لا يفرض على المادة المدروسة صورته فحسب، وإنما هو يضيف عليها مضمونه أيضا. وهذه النزعة الصورية تنحدر بالنهج المطبق على مادة لا تنتسب إلى الحضارة نفسها التي يتنسب إليها المنهج من كونه منهجا إلى كونه ايديولوجيا، أعني أن منظومة من القيم والأفكار التي تعبر عن المصالح المشتركة لجماعة محددة في حقبة بعينها من حقب التاريخ ولدى أمة معينة من بين الأمم التي تنتج التاريخ مثلما ينتجها. وهذا التحول من المنهجية إلى الإيديولوجية لا يكتفي بتشويه المادة المدروسة أو تجاهلها، وإنما هو أيضا يزيف تاريخ الأمم الأخرى، لأن هذا التاريخ قد أصبح يقرأ من منظور ايديولوجي ينتسب إلى حقبة تاريخية مباينة للحقبة التاريخية التي تم فيها إنتاج هذا التراث من ناحية، وأن هذه الإيديولوجيا الناشئة في الأصل عن أحد المناهج، تنتسب بدورها إلى فكرة حضارية مباينة ومناقضة ومختلفة عن الفكرة الحضارية التي أنتجت المادة المدروسة أو المادة التي يتم تطبيق هذا المنهج عليها، فلا يأتي هذا التطبيق إلا في صورة منهج مطبق سلفا، أي يحتوي على كامل نتائجه قبل تطبيقه، في حين أن المطلوب في الحقيقة تطبيق هذا المنهج أو غيره بقصد استخراج الحقائق الباطنية في هذه المادة أو المقاصد والنوايا المستسرة فيها. وهكذا يكون لا مندوحة للميتودولوجيا من التحول إلى إيديولوجيا عندما يتم الانتقال بها من أفق حضاري راهن إلى أفق حضاري قديم أو عتيق. وبناء على ما تقدم يبدو أن المخرج الوحيد لمشكلة الصورية التي تضعنا أمام مأزق الإيديولوجيا يتمثل في العودة إلى دراية المادة الإسلامية انطلاقا من روحها الخاصة، أعني بالعودة إلى محاولة اكتشاف المفهوم المركزي أو المفهوم - النواة الذي تؤسس عليه هذه المادة والذي يؤسسها في الوقت نفسه. والمقصود بذلك لا مجرد الاكتفاء بوصف حياة هذا المفهوم وتتبع تعيناته المختلفة النقاط المطابقة لاكتماله، أي تجاوزه أو اكتشاف جملة النقاط التي إذا ما بلغناها فإننا نكون قد وصلنا إلى حد لا يمكن وصفه بأنه إسلامي. عندئذ -وعندئذ فقط- يكون المفهوم المؤسس للمادة الإسلامية قد وصل إلى اكتماله أو نهايته أو يكون قد وصل إلى الذرة التي يمكن للأشياء عندها أن توصف بأنها إسلامية، أي نكون قد خرجنا من دائرة هذا المفهوم ودخلنا في دائرة مفهوم آخر هو بطبيعته غير إسلامي. وعندما يتحقق ذلك فإننا نكون قد ولجنا إلى رؤية حضارية جديدة تماما مثلما أن الإسلام قبل خمسة عشر قرنا قد نجح في تدشين رؤية حضارية جديدة مستخدمة بالقياس إلى عصره. تلكم شروح أولية وهوامش مؤقتة تشكل في مجموعها مسعى وتطلعا في اتجاه استحداث الجديد، غير أنها لا تستطيع أن تصف نفسها حتى الآن بأكثر من ذلك. | |
|
الأحد يونيو 03, 2012 11:00 am من طرف eljoker00