الريان ثـــــــــــــــائر
الجنس : عدد المساهمات : 70 معدل التفوق : 158 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 26/01/2012
| | تنافر الخيانة والتخوين | |
يحتل التخوين حيزا واسعا في الكلام السياسي العربي، لا يقتصر هذا الطغيان للتخوين على تيار بعينه كما يسعى البعض للايحاء، بحيث يكون التخوين سمة بنيوية في الخطاب "الممانع" او "النضالي" الخ، انما حضور التخوين يتجلى كثيفا لدى الآخرين من "المعتدلين" ايضا، كما يظهر في البلاغة السياسية لتيار 14 آذار والخطاب "السني" العربي والذي يحول الشيعة الى خونة ايرانيين مطعون في انتمائهم وأهدافهم، وينتهي الحال بأن يصبح التشيع نفسه خيانة كما فعلت فتح التي شيعت حماس كمقدمة لتخوينها واخراجها من الانتماء الفلسطيني. لا يمكن لنا اغفال الوظيفة المعيارية للخيانة، فهي عبر تمثيلها للسلوك السيء تقوم بتحديد الهوية الاساسية لنا والسلوك المفترض ان يعبرعنها. الخيانة هي جريمة ضد هويتنا وانتماءنا، وهي بهذا الحال تقوم بتعريف هويتنا، فالسلوك العربي القومي الصحيح يمكن تحديده من خلال تحديد الخيانة. الا ان هذا الحضور الطاغي للتخوين في البلاغة السياسية العربية لا يعني سوى غياب الخيانة على المستوى الوظيفي لها، فالخيانة لم تعد لتثير احدا كجريمة، ولم تعد تؤخذ بجدية. التسييس المفرط للخيانة واستخدامها المفرط بكثرته في الصراعات السياسية حولها من مستواها المعياري الى اداة للصراع السياسي المثقل بالفساد وانعدام المصداقية اساسا. كثرة الخونة تجعل من الخيانة موضوعا غير ذي معنى، وهنا يبدو حضور الخيانة|التخوين بمثابة تناقض، ففي الوقت الذي يكثر فيه التخوين، لا يعود للخيانة وجود، محولا اياها لوجهة نظر او رأيا من بين الاراء. هذه الحال ليست نتيجة لنمط واحد من الممارسة السياسية، بل يمكننا القول ان هناك طريقان يؤديان الى هذه النتيجة. الطريق الاول، والذي يمكن اعتبار سوريا نموذجا عنه، يقوم على استغراق معنى الوطن في معنى النظام ذاته، بحيث تصبح المصلحة الوطنية هي مصلحة النظام ذاتها. هنا يكون كل معارض مشروع خائن، ويكون التخوين (وما يستتبعه من صلات اجنبية والاشتراك في المؤامرة وبذر التفرقة في الامة ...الخ) هو الشكل الوحيد للتعاطي السياسي مع الآخرين. ان يكون الجميع خونة يعني فيما يعنيه ان الخيانة لا تعود شذوذا أو جريمة انما امرا اعتياديا، ينطبق على الجميع، وما يحددها (الخيانة) هي المسافة التي تفصلهم عن النظام، وبالتالي الطريقة التي يسميهم بها الخطاب السياسي للنظام نفسه. في الحالة السورية ينعدم معنى الخيانة كنتيجة لانحلال الوطن بالنظام، وتحول الجميع الى خونة بالفعل، بالمقابل فإن الحالة اللبنانية تبدو مغايرة في دربها وان تشابهت بالنتيجة. الخيانة هنا تنعدم لتعدد الاوطان نفسها، فكل جماعة لبنانية تحيل الى وطن متخيل، وعندها تتماهى المصلحة الوطنية لهذا الوطن المتخيل مع مصلحة الجماعة ذاتها. هناك لبنان كما تتخيله الطائفية السياسية المسيحية ولبنان العربي كما تتخيله الطائفية السياسية السنية او لبنان المقاوم عند حزب الله، كل لبنان منها يخص مجموعة بعينها، ويرسم سلوكا مغايرا لما هو خيانة. يتجلى التخوين لبنانيا بشكل كثيف في الكلام السياسي الا ان الخيانة تبقى عديمة المعنى، فأن يُخون المستقبل من حزب الله او العكس لا يعني شيئا للآخرين، فالخائن لا يخون لبنانـ"ـه" انما لبنانـ "ـهم". لا يمكن للخيانة ان تكون فعالة إن لم تكن خيانة لما نحن طرفا فيه، كانتماء او كعقد، وهنا يبقى كل لبنان من هذه اللبنانات بمثابة موضوع خارجي للآخرين، لبنان غريب او ربما هو الخيانة ذاتها. رغم التباين بين الطريقين السوري و اللبناني الا ان المآل واحد لكليهما، بالمقابل تبدو اسرائيل "مفارقة" لدى مقارنتها بهما. اول ما يلفت الانتباه هو ندرة حضور التخوين من البلاغة السياسية الاسرائيلية، فخلال حرب لبنان الاخيرة وعندما خرج متظاهرون اسرائيليون معارضون للحرب تكفلت الدولة الاسرائيلية نفسها بحمايتهم. ندرة هذا الحضور لا يعني غياب الخيانة، انما اهميتها ولهذا لا تحضر الخيانة هنا بشكل مبتذل وعامي. لكن وجه المفارقة تجاه الدول العربية هو الطبيعة الكيانية (المصطنعة ) لاسرائيل، فعلى الضد من الدول الاخرى لا تبدو اسرائيل الا كيانا غريبا وشاذا في المنطقة مما يستدعي - للوهلة الاولى- حضور طاغيا للتخوين على اعتبار انها (اي اسرائيل) محاطة بالاعداء من ناحية، ومن ناحية اخرى انها في طور تأسيس وحفاظ على هوية وطنية لافرادها اللذين لا يجدون اصلا ما يجمع بينهم فعليا، على العكس من الاخرين، وهم الابناء الاصليون للمنطقة ولتراثها ولا يحتاج حضورهم فيها او اندراجهم في تقاليدها وتراثها الوطني لبرهان او لعملية تدعيم مستمرة. المفارقة هنا ربما تكون ايضا وسيلة لفهم تناقض الحال هذا بين السوريين واللبنانيين من جهة والاسرائيليين من جهة اخرى. في الحالة الاسرائيلية بدا حضور الدولة اساسيا منذ البداية، وقد قام حضورها على غياب انتماءات وهويات المجتمع المدني. فالدولة الاسرائيلية قامت على اقتلاعين اساسين، الاول هو اقتلاع السكان الاصليين من اراضيهم وتهجيرهم، والاقتلاع الثاني هو اقتلاع اليهود انفسهم من مجتمعاتهم التي كان يقطنون فيها. هذان الاقتلاعان امنا قدرة التدخل الكبيرة للدولة وتشكيل هؤلاء الافراد اللذين كانوا عزلا امامها، وتعريفهم بالهوية القومية للدولة الاسرائيلية، حيث تكفلت الدولة بانشاء وتثبيت الهوية الوطنية، محولة مواطنيها الى أمة. ان نجاح الهيمنة (اي الهوية القومية المتخيلة) لحد بعيد هو الذي يفسر ندرة التخوين، ويفسح مجالا اوسع للتعبير، فالدولة في النهاية تتحكم بشكل فعال في صياغة السلوك المنتظر من مواطنيها. على العكس تبدو الحالتان السورية واللبنانية بمثابة حالات مضادة، الدولة هنا لم تقم على اقتلاع واسع بل على العكس امتازت كل من الدولتين السورية واللبنانية بندرة حضورهما المباشر والفعال فيما عدا الحضور القعمي. الهويات التي يتم التعبير السياسي من خلالها تبدو هويات اجتماعية، وليست الهوية التي يفترض بالدولة انشائها ورعايتها. في حالات معينة تبدو الدولة نفسها وكأنها مكمن السلطة والقوة لاحدى هذه الهويات الاجتماعية، اي تحكمها العصبية، وتنتهي ممارسة السلطة الى استخدام هذه العصبية كسياسة بحيث تقوم بتنشيط هذه العصبيات الاجتماعية وتزويدها بالوعي الذاتي. ان صح هذا لا يكون التخوين المفرط نتاج لايديولوجيات قومية ساعية لبناء الدولة، انما لفشل الهيمنة وانحلال الايديولوجيات القومية وسيطرة عصبيات اجتماعية على الدولة، بحيث تحاول كل من هذه العصبيات ان تماهي نفسها بالمصلحة الوطنية، ولكن تبقى هذه المماهة ممتنعة لطبيعة العصبية اولا، ولعدم قدرتها على التحول الى هوية مغرية للاخرين للاندراج فيها. فشل الدولة في بلورة هوية وطنية جامعة لا يبدو بسبب من عنفها المفرط انما من عدم قدرتها على تحطيم الهويات التي يفرزها المجتمع، الهويات الطائفية او الجهوية او حتى الطبقية، الهوية الممكنة من خلال التجربة الحياتية المباشرة التي يؤمنها المجتمع، على العكس تمتاز الهوية التي تتكفلها الدولة بكونها هوية غير مباشرة، هوية تقوم على تسييس المشترك الثقافي (كما يقول عزمي بشارة) المتجاوز للخبرة المباشرة للحياة اليومية، هوية لا يمكن بنائها وتأمين استمرارها الا عبر رعاية مستمرة لها، وايضا عبر تدمير منهجي للهويات الاخرى المضادة التي تحتل مجال الخبرة اليومية. هذا التدمير لا يحتاج دوما الى عنف، كالتدميرالاسرائيلي، بل ايضا يمكن انجازه عبر قوة الاقتصاد، وقد قامت الراسمالية عموما بتدمير انماط الحياة التقليدية للبشر ورميهم في اطار السوق والدولة القومية, حيث ترافق القسر لكثيرين منهم مع القدرة على اغرائهم بالاندراج في هذه الهوية وامتلاكهم لمكتسباتها. كثرة التخوين هنا لا تبدو الا تدليلا على غياب الخيانة، وهذه على انحلال دور الدولة وقدرتها على انجاز هوية قومية متخيلة لافرادها في مواجهة هوياتهم الاجتماعية.
| |
|