الإثنين 23 إبريل 2012 تمتعت سوريا وتركيا، حتى وقت قريب، بعلاقات ممتازة، وقد تعاونتا منذ عام
1998 في عدد من المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، حيث وقعت الدولتان
اتفاقية تجارة حرة في عام 2004 دخلت حيز التنفيذ في عام 2007 ،الأمر الذي
ساعد على الانتعاش الاقتصادي في البلدين، وذلك بجانب إلغاء التأشيرات، وعقد
تدريبات عسكرية مشتركة، وتوقيع اتفاقات للتعاون العسكري التقني لتتطور
العلاقات بين الجانبين إلى درجة غير مسبوقة، حتى مع احتفاظ تركيا بعلاقاتها
الوثيقة مع إسرائيل. والجدير ذكره في هذا الصدد أن العلاقات القوية مع
سوريا كانت جزءا من السياسة التركية التي اتبعها وزير الخارجية أحمد داود
أوغلو، والتي اصطلح على تسميتها بـ"تصفير المشكلات مع دول الجوار"، وهي
الفكرة التي استهدف أساساً بناء روابط سياسية واقتصادية قوية مع الدول
المجاورة لتركيا، بغض النظر عن الطبيعة السلطوية لأنظمتها، وبهدف تعزيز وضع
تركيا الإقليمي.
غير أن الوضع الذي يشهده الشرق الأوسط، والانتفاضات العربية المتعاقبة،
دفعا تركيا إلى إعادة النظر في سياستها الخارجية، وخصوصاً تجاه سوريا.
فبسبب ممارسات النظام السوري بحق معارضيه، قدمت أنقرة الملاذ الآمن للاجئين
السوريين، ولأعضاء المعارضة السورية، لينتهي العمل فعلياً بسياسة "تصفير
المشكلات" مع دمشق بحلول أغسطس (2011)، وذلك مع دعوة رئيس الوزراء التركي،
رجب طيب أردوغان، الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى الاستقالة في نوفمبر من
العام نفسه، بعد يوم من حملة قمع عنيفة شنها النظام ضد المتظاهرين في مدينة
حماة، ولتقرر أنقرة كذلك إغلاق سفارتها في دمشق نهائياً في 22 مارس
(2012).
انعكاسات الأزمة السورية على أمن تركيا: تجدر الإشارة بداية إلى أن مواقف الحكومة التركية الرافضة لممارسات النظام
السوري ودعوتها لمقاطعته لم ترتبط فحسب بحجم المأساة الإنسانية القائمة في
سوريا، ولكنها ارتبطت كذلك بتضرر تركيا من التطورات الجارية في الجوار على
أكثر من صعيد.
فمن ناحية أولى: فقد تسببت المأساة الإنسانية في سوريا
في نزوح الآلاف من اللاجئين على الحدود، حتى أضحت تركيا الآن موطنا لنحو
25000 من السوريين المقيمين في عدة مخيمات أقيمت في ثلاث محافظات. وقد أكد
أردوغان أن بلاده لن تغلق أبوابها للشعب السوري، حتى لو وصل هذا العدد إلى
مائة ألف، منتقداً موقف النظام السوري الذي يطلق النار على الفارين، حتى إن
كانوا من النساء والأطفال، وإن دعت أنقرة في المقابل الأمم المتحدة
والمجتمع الدولي إلى تكثيف جهودهما لمساعدة اللاجئين السوريين الذين كلفوا
خزانة الدولة التركية نحو 150 مليون دولار إلى الآن([1]).
ومن ناحية أخرى: فقد شهدت الأوضاع على الحدود السورية- التركية تصعيداً
مفاجئاً في التاسع من أبريل (2012)، بإطلاق نار من سوريا تجاه مجموعة من
نحو 100 سوري لمنعهم من الدخول إلى تركيا، مما أدى إلى إصابة 4 سوريين
وتركيين اثنين في مخيم لللاجئين مقام في منطقة "كيلتس" الحدودية([2])،
وهو ما أثار حفيظة الجانب التركي، ودفع بأنقرة إلى رفع وتيرة استعداداتها
العسكرية على الحدود، مع إصدار أمر بمنع دخول أي مسلح سوري هارب من الأراضي
السورية إلى داخل تركيا بسلاحه، على أن يؤخذ منه فور دخوله([3]).
ومع المضار التي تعرضت لها تركيا والانتهاكات التي وقعت على الحدود، فقد
أعلن أردوغان أن بلاده قد تطلب من حلف الناتو حماية حدوده مع سوريا، مؤكداً
أن أنقرة قد تطلب تفعيل المادة الخامسة من اتفاقية الحلف التي تنص على أن
أي هجوم على دولة عضو فيه يعد هجوماً على جميع دوله، وذلك مع إصدار
الخارجية التركية بياناً بتوقع تبني مجلس الأمن قرارًا من شأنه اتخاذ
التدابير اللازمة لحماية الشعب السوري، مع عدم إيفاء بشار الأسد
بالالتزامات الواردة في خطة المبعوث الدولي العربي كوفي أنان لوقف إطلاق
النار، وفي ظل استمرار العنف والتصعيد المفاجئ للتوتر على الحدود التركية -
السورية([4]).
ولكن على الجانب الآخر، فإن الحلف الذي فعّل المادة الخامسة، لأول مرة في
تاريخه بعد هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، أعلن عدة مرات أنه لا
يعتزم التدخل في سوريا، وجاءت تأكيدات أمينه العام، أندرس فوج راسموسن، في
غير ذي مرة باستبعاد التدخل العسكري في الحالة السورية لاختلافها عن الحالة
الليبية، ولعدم وجود تفويض واضح من الأمم المتحدة([5])،
وذلك مع المخاوف من أن يؤدي التدخل في سوريا إلى نشوب حرب مباشرة بين
سوريا وإسرائيل، في إطار استهداف نظام الأسد كسب التعاطف الإقليمي في
مواجهته مع الغرب، الأمر الذي يعطيه المبرر للاستمرار في الحكم، رغم
الانتفاضة الشعبية([6]).
وما يزيد من خطورة أي مواجهة محتملة بين سوريا وإسرائيل، على خلفية التدخل
العسكري في الحالة السورية، هو حقيقة أن النظام السوري يمتلك علاقات قوية
بإيران، و"حزب الله"، والمقاومة الفلسطينية، مما يثير المخاوف من نشوب
مواجهة شاملة في الشرق الأوسط من جهة، أو نشوب مواجهات طائفية في سوريا
تمتد بتأثيراتها إلى دول الجوار
من جهة أخرى، خاصة أن
سوريا يوجد بها عرقيات وأقليات دينية مختلفة تسعى كل منها للوصول للسلطة،
وذلك فضلاً عن الصعوبات الحقيقية التي تواجه استصدار قرار أممي من مجلس
الأمن بالتدخل في الحالة السورية بسبب الفيتو المتوقع لكل من روسيا والصين([7]).
في حين يستبعد أن تتخذ أنقرة الإجراءات اللازمة للتدخل في سوريا من تلقاء
نفسها. فقيادة تحرك من جانب واحد، أو القيام بعملية فاشلة هناك سيهدد صورة
رئيس الوزراء التركي أردوغان الذي جعل من بلاده نموذجاً يحتذى للدول
العربية. والأخطر أن التدخل في سوريا قد يؤدي إلى تأجيج المشكلة الكردية
المزمنة التي تعانيها تركيا.
الأبعاد الكردية للسياسة التركية: على الرغم من ترجيح البعض أن التطورات على الحدود التركية- السورية قد
تدفع أنقرة إلى دعم الخيار العسكري بحق نظام الأسد، فإن ثمة مخاوف وحسابات
مصالح تلجم دخول تركيا في صراع مكشوف ومفتوح مع النظام السوري، لعل أولها
وأهمها هو تأثير أي خطوة قد تتخذ في هذا الشأن فى القضية الكردية التي
احتلت الأولوية في أجندات الحكومات التركية المتعاقبة منذ عام 1984 ،
والإعلان عن حزب العمال الكردستاني الذي كثّف هجماته على الأراضي التركية
لأجل الحصول على الحكم الذاتي للأكراد الذين تصل نسبتهم إلى 20% داخل
البلاد، ومع الإشارة إلى أن سوريا لعبت دوراً رئيسياً في تطور الحزب منذ
ذلك الحين وحتى عام 1998، حيث قدمت الدعم لمسلحيه ولقائدهم عبد الله
أوجلان. ولكن منذ اعتقال الأخير في ذلك العام، نجحت تركيا إلى حد كبير في
الحد من خطورة الحزب.
غير أنه مع بداية الأزمة السورية في مارس 2011 ، أضحت تركيا أكثر قلقاً من
أن يقدم نظام الأسد الدعم لمسلحي حزب العمال الكردستاني، باعتبار ذلك
شكلاً من أشكال الانتقام من أنقرة، مع السماح للحزب المسلح بإعادة فتح
قواعد في سوريا، يمكن من خلالها مهاجمة الأراضي التركية. وعموماً، فإن
التزام الأحزاب الكردية بالحياد إزاء التطورات الجارية في سوريا دفع تركيا
إلى الاشتباه في ولائهم للأسد([8]).
وكانت تركيا تعتقد مع بدء الأزمة في سوريا أن سقوط نظام الأسد يمثّل فرصة
لتسوية المشكلة الكردية، وكانت تأمل في الإشراف على المفاوضات بشأن تلك
القضية من خلال استضافة "المجلس الوطني السوري" على أراضيها، وعلى أن يتم
الاعتراف -في مرحلة ما بعد الأسد- بحقوق الأكراد ضمن "وحدة الدولة السورية"
لتلافي انفصالهم ومطالبتهم بالحكم الذاتي، أسوة بأكراد العراق.
بيد أن الاستراتيجية التركية جاءت بنتائج عكسية، فالأسد لم يسقط، وهو يسعى
في المقابل إلى تقديم الدعم لعناصر حزب العمال الكردستاني، في الوقت الذي
لم ينجح فيه "المجلس الوطني السوري" في اجتذاب واستبقاء أعضائه من الأكراد.
كما سحبت الأحزاب الكردية عضويتها من هيئات المعارضة السورية، ثم انضمّ 11
حزباً منها في نهاية المطاف إلى "المجلس الوطني الكردستاني" تحت المظلّة
الكردية العراقية، ولم يبقَ في "المجلس الوطني السوري" سوى بضعة أعضاء من
الأكراد.
وعلى الرغم من أن معظم المطالب الكردية في سوريا كانت تقتصر في السابق على
اللامركزية، فقد ذهبت الهيئة التنفيذية للمجلس الوطني الكردي إلى حدّ
الدعوة إلى الفيدرالية، مطبّقة بذلك الرؤية الكردية العراقية بإقامة منطقة
كردية على سوريا. ومثل هذه النتائج تعود بتأثيرات سلبية على تركيا، تحديداً
بسبب الروابط الثقافية والتاريخية والأيديولوجية التي تجمع بين الأكراد في
سوريا وتركيا والعراق([9]).
ونظراً لتأثير القضية الكردية فى وضع تركيا الإقليمي، فإنها تسعى لمتابعة
التطورات المتعلقة بأوضاع الأقلية الكردية في سوريا، والتحكم بها قدر
الإمكان، وبناء علاقات حسن جوار مع الأكراد هناك، كما هي العلاقات القائمة
مع أكراد العراق. ولكن على الجانب الآخر، يتخوف البعض من أن أي عملية
عسكرية ناجحة في سوريا ضد الأسد قد يكون من شأنها فقط شحذ همته لدعم انفصال
الأكراد عن تركيا، ويمكن لدمشق كذلك أن تجمع معاً المجموعات الكردية من
العراق وسوريا لإحياء العمليات المتعلقة بحرب العصابات في تركيا، وذلك مما
يضيف إلى أسباب تردد تركيا بشأن الاشتراك في حل عسكري للأزمة السورية([10]).
ما هو الخيار المطروح أمام تركيا؟ مع الصعوبات التي تواجه عملياً أي تدخل عسكري لوقف الانتهاكات التي
يرتكبها نظام بشار الأسد بحق الشعب السوري الأعزل، والمشكلات التي تواجهها
تركيا على الحدود، فقد برز خيار يستهدف أساساً حماية المدنيين في سوريا،
وذلك بإنشاء ممرات آمنة على الحدود مع تركيا لنقل المساعدات الإنسانية،
والنظر في فرض حظر للطيران في هذه المنطقة، مما يساعد على تحجيم موجة
اللاجئين على الحدود، على أن يتم وضع تلك الخطة حيز التنفيذ، في حال وصل
أعداد اللاجئين القادمين من سوريا إلى 50 ألف لاجئ([11]).
وخطة تركيا في هذا الشأن تتمثل في خلق منطقة عازلة على الأراضي السورية،
مثل تلك التي تأسست في العراق عام 1991 لحماية المدنيين الأكراد من هجمات
قوات صدام حسين، والنظر كذلك في إمكانية إنشاء ممرات إنسانية محمية، بحسب
وجهة النظر الفرنسية للمساعدة في توصيل الإمدادات إلى سوريا، الأمر الذي إن
كان لا يتطلب موافقة السلطات السورية، فإنه يتطلب الحصول على تفويض دولي.
وعموماً، فإن ما قد يدعم فرض الممرات الآمنة في سوريا أن زعيم "المجلس
الوطني السوري" المعارض، برهان غليون، وإن أعلن من قبل أنه ضد محاولات
التدخل على نمط الناتو في ليبيا، وأنه يجب أن يصنع السوريون ثورتهم
بأنفسهم، فإنه دعا الأمم المتحدة بكل وضوح إلى الإشراف على منطقة حظر جوي
لحماية اللاجئين، ولتوفير مساحة حرة تستطيع المعارضة أن تتحرك فيها، وهكذا
صرح بدعوة "المجتمع الدولي إلى استغلال كل الفرص الممكنة للإشراف على منطقة
آمنة في سوريا، ولإيقاف الأعمال الوحشية التي تُرتكب في المدن السورية".
ومن ثم يمكن القول إن فرض ممر آمن وشريط حدودي على الحدود السورية، كخطوة
خارجية للتعامل مع الأزمة السورية، هو السيناريو الأرجح، وسيتبعه في الغالب
إمكانية تأسيس منطقة لحظر الطيران، وتقديم مساعدات تكنولوجية واستخباراتية
للمعارضة، خصوصاً أن ذلك كان من نتائج المفاوضات التي تمت بين وزيرة
الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، ونظيرها التركي، أحمد داود أوغلو، في
واشنطن في الرابع عشر من فبراير (2012)، حيث تم وضع سيناريوهات عدة للتعامل
مع الأزمة السورية، أول خطوة فيها ستكون على الأغلب إرسال مساعدات إنسانية
إلى سوريا، ثم الانتظار للخطوة الثانية، وهي تأسيس منطقة منزوعة السلاح
وحمايتها عسكرياً[12].
ويشار هنا إلى أن تركيا، العضو في حلف الناتو، كانت قد سمحت بإقامة قاعدة
لـ"الجيش السوري الحر" المكون من المتمردين الذين انشقوا عن الجيش السوري،
وهي قد دعمت مبادرة تمويل عناصر "الجيش السوري الحر" من جانب الدول
الخليجية، لتعطي أنقرة دوراً مركزياً في هذا التمويل، لتركز عناصر الجيش
على الأراضي التركية([13]).
وحسب التقارير الإعلامية، فإن حلف الناتو أقام مرکز قيادة وسيطرة عسكرية
في جنوب ترکيا، وتتولی عناصر کوماندوز بريطانية، وعناصر مخابرات فرنسية
تدريب "الجيش السوري الحر". والهدف من تدريب هؤلاء هو إيجاد تغيير في
معادلة المواجهة بين المعارضة والحكومة السورية([14])،
حتى قال وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، إن تركيا تتحمل كثيراً من
المسئولية عن العنف المتواصل في سوريا بسبب "دعم أنقرة الجوهري" للمعارضين
الذين يحاربون نظام الأسد. وذكر المعلم أن تركيا "تحتضن مسلحين، وتقيم لهم
معسكرات تدريبية، وتسهل اختراقهم للحدود السورية، وتسمح لهم بتهريب السلاح"[15].
وعلى كل الأحوال، وبالرغم من الضبابية التي تحيط بالخيارات المستقبلية
للتعامل مع الأزمة السورية، فإن تركيا ستكون في حاجة إلى دعم شركائها
الغربيين والعرب لتعزيز الأمن على طول حدودها مع سوريا، والتي تبلغ 600
ميل، ولاحتواء النزعة الانفصالية الكردية، ولضمان أن يظل النظام القادم في
سوريا على علاقات حسن الجوار معها، مع استبعاد أن تقود تركيا عملية عسكرية
منفردة في سوريا، سواء كانت تلك العملية لإقامة ممر إنساني، أو منطقة حظر
طيران، أو منطقة عازلة، حيث ستطالب بأن يكون ذلك برعاية دولية، من خلال حلف
الناتو، أو من خلال الأمم المتحدة، وبمشاركة نشطة من جانب الدول العربية.
الإثنين أبريل 30, 2012 11:03 pm من طرف فارس