من المدهش حقاً أن تتبعَ الطبيعة في
عملها قوانين محددة، ترتكز تلك القوانين على مفاهيم أساسية وتختزل بأحكام
معينة تنظم عملَ العالم كمياً وكيفياً، ما مدى ضرورة القوانين في الكون؟
نتصور
كوناً تنعدم فيه القوانين وتتصرف جسيماته التي يتجاوز عددها 10 أس 80 على
هواها، يقول العلماء إن القوى الموجهة لصيرورة الكون ولدت بعَيد انبثاق
الطاقة والمادة، إن هذه القوى كما نعرفها اليوم هي: القوة النووية الشديدة
والقوة الكهرمغنطيسية والقوة النووية الضعيفة وقوة الجذب الثقالي، إن لكل
من القوة النووية الشديدة والقوة الكهرمغنطيسية قطاعاً من الجسيمات تؤثر
فيه، بينما يطول تأثير القوة النووية الضعيفة وقوة الجذب الثقالي كافة
الجسيمات، كان لكل جسيم قوانين خاصة به تسيّره قبل ظهور القوى المذكورة
على مسرح الوجود، كانت معرفة الكون إذ ذاك بحاجة لدماغ يتجاوز الكون
بكتلته وكان من المستحيل على الكون أن يؤدي الحياة والذكاء إن لم يكن لسبب
فلأن النظام والاستقرار ضروريان لوجود الدماغ.
لو قبلنا بأن أدمغة فائقة وجدت في الكون العشوائي القديم، فإن تلك الأدمغة كانت ولاشك عاجزة عن تحقيق المعرفة.
يضم
الدماغ حوالي 10 أس 11 من العصبونات تتشكل بمجموعها جملة من العناصر
والقواطع تتحكم بالنشاط الكهربائي والكيميائي للدماغ، يمتلك كل عصبون
حوالي ألف وصلة صغيرة تربطه بأقرانه، لو قررنا وجود تقابل بين كل وصلة من
هذه الوصلات وبين وحدة المعلومات الأولية لخلصنا إلى نتيجة مفادها أن
السعة المعرفية العظمى للدماغ لن تتجاوز بأي حال من الأحوال 10 أس 14
معلومة أي ما يعادل واحد بالمئة مما تحويه هباءة صغيرة من ملح الطعم من
الذرات، لو لم تكن القوانين العلمية موجودة لكانت الهباءة المذكورة عصية
على المعرفة ناهيك عن معرفة الكون. تتبع جزيئات ملح الطعام القوانين
العلمية بإحكام إذ إنها تنتظم على نحو "متبادل" ذرة من الكلور وأخرى من
الصوديوم، إن معرفتنا بهذا الترتيب لا تشغل إلا حيزاً بالغ الضآلة من
الدماغ.
لنلاحظ المفارقة الهائلة في عملية المعرفة، لو عدم الكون كل ما
تُمكن معرفته، لما كان فيه مكان لحياة أو ذكاء، إن مثل هذا الكون يناظر في
الأصل الإلغاء.
أما الكون المكتشف كلياً فسرعان ما ينزلق إلى التوقف الكلي ويغدو مملاً وبليداً.
على
الرغم من محدودية القوى في الكون، فإن آثارها التفصيلية تتكشف عن كل ما
يقع خارج نطاق التوقعات. إن السؤال الخاص بالسلوك الممكن لكل جسيم في
الكون هو سؤال احتمالي، يعني ذلك أن الهبوط إلى سويات أعمق في عملية
المعرفة لن يواجه إلا بأنماط مستحدثة عشوائية.
يبدو الأمر بديهياً
تماماً، فكيف يكون الذكاء إذا انتهى إلى قاع صخري، تتناقض المعرفة في
تعريفها الأصلي مع الأحوال المنتهية والمحدودة.
إذا بحثنا عن تعريف
للوجود نكتشف أنه لا يقبل أي تعريف، تبعاً لذلك لابد أن نأخذ بموضوعة
ظاهرة الحياة المنتشرة في الكون حيث يفعل كل نوع من أنواع الحيوات الكونية
أحد تعاريف الموجود.
كيف يتصرف الدماغ أن زاد حجم المعلومات عن
إمكانيات استيعابه، الأمر بسيط: يبدع الدماغ امتدادات خارجية خاصة به يخزن
المعلومات فيها، فهناك الكتب والحواسيب وسواها، ولسهولة التناول، واستحالة
الخروج عن السياق الفيزيائي، يخضع الدماغ هذه الامتدادات لنفس القوانين
العلمية، فهناك الفهرسة والتبويب والبرمجة مما يجعل التعامل مع أي معلومة
عملية مباشرة وسهلة.
نطرح هنا التساؤل التالي: هل يشتق الدماغ طرائق
المعرفة من ذات القوانين العلمية، لن نقفز إلى الإجابة وحسبنا أن نورد بعض
الأمثلة: بدت قوانين ماكسويل في الكهرمغنطيسية عند طرحها لأول مرة مفتقرة
إلى التناظر، كان أن أضاف ماكسويل تياراً أسماه تيار الانزياح، لم تكن هذه
الإضافة مبررة علمياً في حينه وبدت هجينة وغير معقولة، كشفت قوانين
ماكسويل المعدلة بعد فترة النقاب عن وجود المجال الكهرمغنطيسي بكل أشكاله
وقطاعاته، نعلم اليوم أن المدينة المعاصرة تستند إلى معرفة هذا المجال،
تنبّه العلماء إلى مشكلة انقشاع الأوزون عقب دراسة أجواء كوكب الزهرة
المشبعة بحمض كلور الماء وحمض فلور الماء، لم يكن الهدف دراسة هذا
الانقشاع بل أتى التحقق من الانقشاع على هامش سبر أجواء كوكب الزهرة، كذلك
دفعت العواصف المريخية العلماء إلى وضع النماذج الخاصة بالشتاء النووي،
اكتشف العلماء إثر التأكد من ظاهرة انقشاع الأوزون أن الجلد الأسمر والجلد
الأسود أكبر في مقدرته على التلاؤم مع زيادة دفق الأشعة فوق البنفسجية،
نصوغ مما تقدم الاستنتاج التالي: تتحدد طرائق المعرفة وفق ذات القوانين
العلمية التي تشتق بدورها من مبادئ عامة: هناك مبدأ الشمولية الذي ينص على
أن ما ينطبق الآن وهنا يصح هناك في زمن آخر، وهناك مبدأ التحديد، أي عدم
جواز التحرك إلى قوانين جديدة ما لم تستنفد فاعلية القوانين السابقة.
لعل
مبدأ التطور هو من أهم المبادئ العلمية التي تحكم زيادة وتائر الارتقاء
العلمي على كوكب الأرض يحتل مبدأ التطور موقعاً أساسياً في علم الحياة على
الأرض، تتساءل عن مدى انطباق هذا المبدأ على صعيد الحياة في الكون؟ لقد
تبدلت الآراء الخاصة بهذا الموضوع وانعكست في أكثر من مرحلة، في عام 1976
عندما فشلت المركبة الفضائية فايكنغ في اكتشاف حياة على كوكب المريخ، ذهب
بعض العلماء إلى استبعاد وجود حياة خارج الأرض، بعد حوالي عقدين من الزمن
أعلن العلماء عن اكتشاف بقية خلية حية مريخية متحجرة عثروا عليها في نواة
نيزك مريخي تم استخراجه من جليد القطب الجنوبي للأرض كان النيزك قد انفصل
عن المريخ منذ 16 مليون سنة وسقط في القطب الجنوبي للأرض منذ 13000 سنة،
وكان الفلكيون قد اكتشفوا أن الحموض الأمينية الضرورية للحياة تنتشر في
الفضاء الكوني، حدثت بسبب ذلك تحولات كبيرة في آراء العلماء وأخذوا
يتحدثون عن مبدأ حياتي مخفي يعمل في الكون وأن عمل المبدأ يتجسد بتحفيز
بنى حياتية أكثر تعقيداً وفق الظروف الخاصة والوسط المحيط، تحول الجدل بعد
ذلك إلى حصر التشابهات والاختلافات بين الحياة على الأرض وبين أنماط
الحياة الأخرى في الكون.
ما هي أوجه التماثل وأوجه الاختلاف؟ إن كانت
الحموض الأمينية هي الأبجدية المرجعية للحياة في الكون فلاشك أن
البروتينات المركبة منها ستكون متقاربة بدورها، هكذا برزت موضوعة التقارب،
تؤكد الموضوعة أن أصناف الحياة الكونية تسعى إلى التقارب فيما بينها وذلك
بمحاولة تطوير هيكليات حياتية أساسية تحقق وظائف وغايات محددة وإن لم تبلغ
الحياة مرحلة هيكليات حياتية نهائية، سرعان ما نشأت آراء مضادة لموضوعة
التقارب فعلى الأرض نلاحظ تنوعاً حياتياً مذهلاً على الرغم من القاعدة
المشتركة للحموض الأمينية؛ هذا إلى أن بعض أنماط الحياة على الأرض تبدو
مستقلة تمام الاستقلال عن الأنواع الأخرى، أضف إلى ذلك أن الضربات
العشوائية للنيازك والأحجار الكونية قد غيرت مجريات تاريخ الحياة على
الحياة على الأرض في أكثر من مرة، نذكر على سبيل المثال وليس الحصر أن
اصطدام المذنبات بالأرض قد زودها بالماء والمواد العضوية اللازمة لبناء
الحياة، لكل ذلك أعاد العلماء صياغة التساؤل بشكل معدل: عند أي مرحلة من
سلم التطور تفترق أنماط الحياة عن بعضها بالضرورة لأول مرة، هل يعني طرح
مفهوم الضرورة تجاهل العشوائية والمصادفة كمثل الضربات النيزكية، وقد أدت
إحدى الضربات كما هو معلوم إلى انقراض الديناصورات منذ 65 مليون سنة،
يرتبط مبدأ تطور الحياة بكوكب متقلب الظروف.
لقد تسارعت وتائر اكتشاف
كواكب حول نجوم بعيدة عن الشمس، نفترض من حيث المبدأ أن الكوكب هو المأوى
الوحيد الممكن للحياة، قد يفتقر هذا الافتراض إلى الدقة، إن كنا نعدم
تعريفاً حاسماً للحياة فأنى لنا أن ننفي إمكانات حياتية بالقرب من النجوم
بل وعلى أسطح النجوم المتبردة وفي أغفلتها الجوية، وحتى في ظلمة وبرودة
الفضاء الكوني نعلل هذا التصور بحاجة الحياة إلى ثبات نسبي للظروف في مئات
وآلاف الملايين من السنوات، توفر النجوم المتبردة والفضاء الكوني هذا
الثبات للحياة، هل يعني ما تقدم ثباتاً مقابلاً لأشكال الحياة هناك إن
وجدت، واختلافها الجذري بالتالي عن الأنماط الحياتية المتطورة؟، وهل نخلص
إلى استنتاج مفاده: إن الحياة تنطلق في مناحي متوازية مستقلة وينكشف
بالتالي جانب من جوانب الكون لا نهائية العدد لكل نمط حياتي مستقل في ظل
مبدأ كوني عام: يهب الكون الحياة للوعي، بدوره يمنح الوعي القيمة والمعنى
للكون.