في
مقالتك عن العولمة، والتي ألقيتها محاضرة في قسم الفلسفة في أواخر
التسعينات و توسّعت فيها لاحقاً في كتاب "ما العولمة" الذي صدر بالاشتراك
مع المفكر المصري حسن حنفي، كنتَ ترى أن العولمة ستقوم بتوحيد الهويّات
وستقضي على الاختلافات والفوارق. ولكن ألا ترى معي أن العولمة تعملُ بدلاً
من ذلك على تجذير الهويات القومية والدينية والطائفية إلخ؟ ألم تؤدي
سيرورة العولمة المتسارعة في البلدان العربية مثلاً الى التشبث بالتقاليد
الخاصة والارتداد إلى الهويات الأضيق فالأضيق نتيجة ما أسماه
هابرماس"الخوف من اقتلاع الجذور"؟عندما كان هابرماس يتحدث عن اقتلاع الجذور، كان يتكلم عن ذلك في إطار
الحداثة أو الربط بين العولمة والحداثة. إن الرأسمالية هي، في الواقع، من
يقتلع الجذور وهي التي تلغي طبقات اجتماعية، وتخلق طبقات جديدة وتعيد
التوزيع السكاني وتغير في بنية المجتمعات وتوازنات المدينة والريف،
الصناعة والزراعة، وهذا بسبب صيرورة الرأسمالية التاريخية. لقد قدّمتُ
العولمة بوصفها طوراً من أطوار حِراك الرأسمالية التاريخية بحيث لم يبقَ
على سطح الكرة الأرضية إلا بعض الجيوب هنا وهناك لم تتأثر بعد في العمق
بصيرورة الرأسمالية. أنظرُ شخصياً إلى الحداثة، كتوصيفٍ عام، على أنها
البنية الفوقية المتطوِّرة للرأسمالية التاريخية، لكن من يقتلع الجذور هو
في الحقيقة التطوّر الرأسمالي الذي ينتج ردود فعل تتمثّل في التشبُّث
بالجذور. ولكن بأي شيءٍ يتم التشبُّث حقاً؟ يتم التشبُّث بالعوامل
الفوقيّة مثل القيم والعادات والتقاليد، أي الفولكلور. أرى أنه عندما يكثر
الحديث عن القيم والتقاليد، ويتعالى التغني بها، فهذا مؤشر على أنها في
طريقها إلى الزوال، إذ عندما نحياها حقاً لا داعي للتشبُّث بها والدفاع
عنها أو الإفراط في التغني بها. التشبُّث هنا يعني أن الرأسمالية تهددها و
تجرفها بطريقها. أنا لم أقل أن العولمة ستوحّد الهويات بأي معنى بالمطلق.
كانت نظرتي تاريخية إلى هذه المسائل. فأنا اعتقد أن الهويات تتشكّل
تاريخياً وتنحلّ تاريخياً أيضاً ولا أعتقد بوجود هويات ثابتة كلياً
كالماهيّات أو الجواهر الثابتة أبداً. لا بد أن تؤثر العولمة بوصفها طوراً
جديداً من أطوار الرأسمالية التاريخية على الهويات، وأعتقد أنها ستقوّي
جوانب منها وتجرف جوانب أخرى وتصنع هويات جديدة معولمة أو ذات طابع عولمي
– أممي – كوسموبوليتي. على سبيل المثال سينشأ أدب عولمي وفن عولمي يسد
الحاجات الثقافية والروحية للنخب الجديدة هذه صاحبة الهوية العولمية
الجديدة أيضاً. كانت النقطة الأخرى التي ركّزتُ عليها تتمثل في معالجة
الرأي القائل بأن العولمة ستُضعف أو تزيل الدولة، وقد أخذتُ موقفاً نقدياً
من هذا الرأي وقتها وما زلت. لقد كانت وجهة نظري تؤكد واقعة وجود دول
قويّة تقف وراء العولمة وتدفع بها وتوسِّعها ولها مصالح فيها، ومن يصطدم
بهذه الدول يتعلّم أنها لم تَضعُف. ونحن نرى الآن مع الأزمة المالية
والاقتصادية الراهنة كيف تتدخل الدول بقوة و حزم من أجل تجاوز الأزمة
وإنقاذ النظام المالي العالمي القائم. الأزمة المالية الحالية هي أزمة في
داخل العولمة الرأسمالية (أي واحدة من أزماتها المتعددة والكثيرة) وليست
أزمة العولمة الرأسمالية ككل وبحدّ ذاتها كنظام سائد اليوم في كل مكان
تقريباً. لهذا السبب تمكّنت الدول، وبخاصة العظمى منها، من التدخل بنجاح
إعداداً لتجاوزها بعد الحد من تفاقمها.
ولكن أليس من الصحيح
كذلك أن ترافق العولمة مع ثورة الاتصالات والمعلومات قد حوّل العالم إلى
قرية صغيرة مما أدى إلى اقتحام للأنا وللهويات التي لم تتعرف على صيرورة
الحداثة، فشعرتْ مع تسارع وتيرة وإيقاع التغير أنها ستُجرف بعيداً في
التيار لو قُطعت جذورها مما دفعها للتشبُّث بهوياتها بشكل أكبر. وفقاً
لهذا التصور يمكن لنا أن نفسّر الأصولية بوصفها رد فعل على العولمة.عندما كانت الحرب الباردة مستعرة و مسيطرة، كانت كل مشاكل العالم
الهامة خاضعة للمنطق الاستراتيجي المتعالي لتلك الحرب. أي أن جميع
الصراعات الأدنى، من قومية إلى إثنية إلى قَبَلية إلى عشائرية الى إقليمية
تحررية… الخ، كانت مضبوطة ضمن المنطق الأكبر المتعالي للحرب الباردة بحيث
كان الطرفان الكبيران يتدخلان في ضبط أية مشكلة عملية كان يمكن أن تُهدّد
التوازن الدولي وبحيث لا تؤثر على منطق التوازن ذاك. مع انتهاء الحرب
الباردة شعرت العناصر الصغيرة بأن لديها هامش أكبر لتلعب وتتحرك وتؤكد
نفسها. وأنا أعتبر أن العولمة فلتت من عقالها مع سقوط الاتحاد السوفييتي
رغم أنها كانت موجودة قبل هذا السقوط. أنت تعلم أن الظاهرة عندما تبدأ قد
لا نلحظ وجودها، ولكننا ننتبه لها عندما تختمر وتنضج وتتطور، حينها نبدأ
البحث عن بداياتها الأولى. اندفعت العولمة بكل قواها وأصبحت ظاهرة لا يخطئ
ملاحظتها أحد بعد تلاشي ذلك المنطق الاستراتيجي الذي حكم الحرب الباردة
فسمح للقوى الموجودة على هامشه التصرف بحرية أكبر.
بهذا المعنى العام جداً يمكن أن نرى في الأصوليات الدينية الراهنة رد
فعل على العولمة بعد انتهاء الحرب الباردة لصالح الغرب. بعد ذلك أخذت
العولمة الرأسمالية تقفز من مكان إلى آخر على سطح الكرة الأرضية وبسرعة
هائلة دون الاهتمام كثيراً بالثقافة المحلية، أو بالخصائص القومية
الموضعية أو بالطبائع الإثنية المختلفة إلى أخره، إلا بما يخدم مصالحها
وأغراضها ولا يصطدم بمطالبها الحيوية أو يضربها. هذا أعطى القوى المحلية و
الإقليمية حرية أوسع في التصرف الثقافي والديني والاجتماعي والحربي، بما
في ذلك التشبث والاقتتال الأهلي أحياناً مع التحديث والتطوير والإصلاح في
أحيانٍ أخرى. لكن هذا بحد ذاته لا يفسر الكثير عن الحركات الأصولية وعن
نشأتها وتفاقمها بسبب عموميته المفرطة ولا بد من أخذ الشروط المحلية
والمجتمعية لكل حركة أصولية ناشطة اليوم. لا شك أن الأصولية الإسلامية هي
رد فعل كما تؤكد، لكنها رد فعل، في نظري، على أزمة العالم الإسلامي في
تفاعله الفاشل حتى الآن مع الحداثة الرأسمالية وفقاً للتعريف الذي قدمته
لك للحداثة قبل قليل. الاستثناء الوحيد هو تركيا التي أصبحت نموذجاً
ناجحاً نسبياً على ما يبدو يتطلّع إليه القسم الأكبر من الإسلاميين
الوسطيين حالياً بدلاً من إيران، وبالتأكيد بدلاً من الأصولية الجهادية
التكفيرية. لا أرى نجاحاً آخر حقاً غير تركيا علماً أن تركيا لم تكتفي
بالتشبُّث وردود الفعل فقط.
هل تعتقد أن الولايات
المتحدة الاميركية، وبعد سقوط منافسها الاتحاد السوفييتي، قد قامت بخلق
عدوّ جديد لها هو الإسلام؟ هل حلَّ ما أدعوهُ" سباق التدين" في مرحلة ما
بعد الحرب الباردة مكان سباق التسلح الذي كان سائداً في مرحلة الحرب
الباردة بحيث يواجَهُ الديني بالديني؟أولاً، أجد فكرة اختراع العدو فكرة تبسيطية وحتى ساذجة. فماذا يعني
أنهم اخترعوا عدوّاً؟ هناك عالم إسلامي كبير وله مصالح مُتضاربة مع أميركا
وقد هاجمها البعض باسمه وباسم الإسلام في عقر دارها في 11سبتمبر٢٠٠١،
والإسلاميون اعتبروا ذلك معركة شبيهة بغزوات بدر وأُحُد وغيرها وأعلنوا
فكرة الجهاد العالمي فردّ عليهم الأميركيون والغرب بنفس الطريقة وذات
اللهجة. وعلى أيّ حال لا يمكن الركون إلى الخطابات المُستخدمة من قِبَل
هذا الطرف أو ذاك. لا يخدعني منظر مواجهة الديني بالديني كما تقترح. وراء
المواجهة إرادات قوة ومصالح حيوية وهذا هو الأهم.
كيف ينظر العظم إلى
مستقبل الفلسفة النقدية العقلانية في العالم العربي الذي أخذ يكفهر بحجب
السلفية وينزلق إلى ليل الأديان؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل في عصر
الإرهاب؟ ثم هل تستطيع الفلسفة أن تنشأ في بلادٍ مضطربة في حالة حربٍ
دائمة؟ ألم تزدهر الفلسفة في أثينا المستقرة ولم تعرف لها طريقاً في
إسبارطة المُقاتلة؟لا أرى هناك رابطاً دائماً بين ازدهار الفلسفة وبين فترات الاستقرار أو
الاضطراب. فكثيراً ما ازدهرت الفلسفة في فترات مضطربة وقلقة أو أحياناً
كانت تخبو وتنام في مراحل ازدهار اجتماعي وحضاري. في مراجعة سريعة لتاريخ
الفلسفة لا أجد أمثلة على مثل تلك العلاقة التي تفترضُها ولا يوجد تلازم
مُنتظم بين صعود وانحدار الفلسفة أو هدوء واضطراب عصرها.
لا شك أن هناك فترات
استقرار لم تُنتج فيها فلسفات، ولكن استقرار المجتمع، برأيي، شرط أساسي
لازدهارها. هناك رأي مهم لنيتشه في هذا الصدد. ففي كتابه الفلسفة في العصر
المأساوي الإغريقي، يشير إلى أن الرومان قد عاشوا عصرهم الذهبي بدون
فلسفة، ولكنه يؤكّد من جهة أخرى أن الفلسفة لا يمكن أن تزدهر إلا عند
الشعوب المُعافاة.ابن رشد مثلاً عاش في مرحلة مضطربة جداً، ولكنه أنتج فلسفة.
سؤال أخير اذا سمحت: لم يترك لنا صقر أبو فخر بعد حواره البلا ضفاف مع
العظم شيئاً كثيراً لنسأله، ولكن بعد هذه الرحلة الأوديسيّة التي حارب
فيها عوليس/ العظم الوحوش الخرافية وغضب الآلهة وتنقل فيها عبر كل بحار
العالم وعرف في رحلته نساء كاليبسو، هل عرف هذا البحّار أخيراً الطريق إلى
أحضان بينلوب وإلى دروب إيثاكا؟ وما أقصده هنا هل لا زال الحب عندكَ هو
تقاطع خطوط الحياة المتوازية ومفارقة الاشتداد والامتداد؟ وماذا عن الوطن؟
هل يقيم العظم في حقيبة سفره؟ ألا تتفق معي أن إيثاكا لم تكن وطن عوليس
بقدر ما كان الرحيل الدائم بحثاً عن الوطن؟ذكّرتني بقصيدة خليل حاوي"البحّار والدرويش". كان خليل حاوي أحد
أساتذتي في الجامعة الأميركية في بيروت. في قصيدته تلك يظل الدرويش قابعاً
في مكانه ويلتقي على بابه الله والدهر السحيق فيما البحّار هو فاوست العصر
الحديث وربما كل العصور. أنت تعرف أني مقيم في الوطن (دمشق و بيروت).
أسافر وأبحر كثيراً ولكنني أعود. لذلك ليس لدي إيثاكا تنتظرني، وإذا
استخدمتُ تعبير فرويد أقول أيضاً لا أريد بالتأكيد العودة إلى الرحم الأول
حيث السكينة والسلام. ليس هذا هدفي أو ما أطمح إليه أو أريده. لذا لا
"أحنّ إلى خبز أمي" لأنني قطعت حبل السرة منذ زمن طويل كما قتلت آباء
السماء والأرض جميعاً في داخلي لحظة الرشد والنضج والرجولة والاستقلال. ما
يهمني هو الإسهام في الثقافة المعاصرة وبخاصة الثقافة العربية التي أريد
لها أن تكون ثقافة حية، ثقافة تجدّد نفسها وتعيد قراءة ماضيها وتستشرف
المستقبل وتحمل العلم الحديث والفكر الفلسفي الذي نجم عنه على محمل الجدّ
وتقيم وزناً للعقل النقدي والبحثي وللتقدم أيضاً. هذه هي إيثاكا بالنسبة
لي. إذا لم تحصل في العالم العربي محاولة قوية وسريعة وجادة لإنتاج معرفة
علمية في العلوم الأساسية وتفرعاتها، فسيكون من الصعب على الثقافة العربية
في القرن الواحد والعشرين أن تكون فاعلة حقاً أو مؤثّرة ومُشعّة إلى خارج
محيطها الضيق وأن تكون مُحترمة من الثقافات الأخرى التي تجد مركز قوتها في
إنتاج المعرفة العلمية. إن ما أقصده هنا هي العلوم الأساسية والعلوم
الدقيقة وليس فقط العلوم الاجتماعية والإنسانية كعلم الاجتماع والأدب. ولا
بد أنك تلاحظ أن هذا الرأي مرتبط ببعض الأطروحات التي كنتُ قد قدمتها في
كتابي "دفاعاً عن المادية والتاريخ"، أي مركزية الثورة العلمية في القرن
السابع عشر وما نتج عنها من إعادة الفلسفة ترتيب نفسها وقراءة نفسها على
ضوء النتائج التي جاءت بها تلك الثورة. وبما أن العالم الإسلامي ومعه
العالم العربي لم ينتجا أية معرفة علمية تذكر منذ قرون فإن احتمالات تجاوز
الظلامية أو فتح مستقبل مقبول لثقافة نقدية أو عقلانية عربية مُشعّة تصبح
أضعف بكثير مما نعتقد. واضح من أسئلتك الفاحصة أنك أنت أيضاً تقوم بإعادة
قراءة تجربتك الماضية نقدياً وبتصفية حساباتك مع وعيك السابق ومع قسم
الفلسفة في جامعة دمشق ومع أساتذتك هناك بما فيهم صادق العظم، وهذا شيء
جميل ومتقدم ودليل نضج وأنا أقدره كثيراً وأدعو إلى المزيد منه، لأنه بلا
عمليات المراجعة هذه لا يوجد تقدم فكري أو تراكم معرفي أو ثراء ثقافي، بل
مجرد إعادة و تكرار واجترار.
أما بالنسبة إلى الجانب الآخر من سؤالك أعتقد أنك تدرك تماماً أن حياة
البعد الواحد ليست لي أو للبحّار، وبلا نساء كاليبسو تشحب الأبعاد الأخرى
كلها وتضمر، كما أن التعامل مع مفارقة الاشتداد و الامتداد هو بمعنى ما
تجربة العمر على هذا المستوى بحلوها ومرِّها بوهجها وخيباتها بعد تقاطع
خطوط الحياة المتوازية وقبلها —إنها الحياة.
هل تريد أن تقول كلمة أخيرة عن الحُب؟ هل لديك شيء تضيفه لما قلته في السابق عن هذا الموضوع؟ما زلتُ أتمتع به رغم تقدّمي في السن. من يعرف الحب لا يحتاج أن يقرأ
عنه مع أن القراءة ستزيده ثراء وعمقاً، أما من لا يعرفه فلن تساعده قراءات
الدنيا كلها.