"لا يمكن لأي شخص الإفلات من تأثير العصر الذي يعيش فيه، ولطالما تؤثر
البيئة بالإنسان، -كما كانت دائماً- وتصبغ أفكاره وأساليبه، إضافة إلى
أفعاله الظاهرة(1)".
هل يعتبر محمد استثناء من هذا؟ بمعنى، هل كان محمد قادراً على الهروب من
تأثير المحددات الثقافية والشروط التاريخية التي صبغت رسالته؟ وبالتالي هل
نحن قادرون على درسه بدون المرور نقدياً على تلك الظروف الموضوعية والشروط
الثقافية قبل قراءته؟ ثم وهل لأي بنية فكرية أن تتمأسس بواسطة إي إنسان
بدون حوامل ثقافية قارّة في وعي الجماعة؟ ومن جهة أخرى، إذا لم يكن ثمة
مكانة ميثية لهذه الأرواح ( التي كانت تشكل جزءاً من بنية وعيهم الثقافي،
وبالتالي أثرت على مخيال محمد)، كيف استطاع عرب محمد، إذن، تصديق قوله
بأنّ أرواحاً تنزل عليه؟
إنّه من المؤسف حقاً أن نتكلّم بهذه البدهيات البدائية، لكن على ما يبدو
أن هذا ما زال بحاجة إلى تأكيد وتأكيد في ثقافتنا العربية؛ حيث ما زالت
معظم القراءات العروبية تصرُّ إلى الآن على إخراج محمد من التاريخ واعتبار
أن الذي أتى به هو ما فوق تاريخي أو تحت تاريخي (أياً يكن). ألسنا بهذا
المنطق نحوّل محمداً إلى "بقرة" مقدّسة، بدل إخضاعه للدرس العلمي والنقد
التاريخي؟ ألسنا بهذا المنطق المعكوس نقوم بقلب صورة محمد التاريخية إلى
عجل ذهبي، ليس المراد منه إلا الدوران حوله وطلب البركات منه واستدعاءه من
قبره اليثربي ليقوم بمقام النائب في حلّ قضايانا المعاصرة؟.
بقدر ما أفرز مقال "وحي محمد: الأساس الميثولوجي"،
وخاصة الجزء الأول، من اعتراضات ونقاشات جدية مهمة في نقد اللامفكر فيه
(وما أعنيه بالضبط نقد ودرس الظاهرة المحمدية في بواكيرها)، بقدر ما طرحت
هذه النقاشات في مجملها عنواناً عريضاً هو "استثنائية وحي محمد". بينما
نجد أنّ هذه الاعتراضات قد امتدت في مقال "هل كان محمد عبقرياً؟"
ليُتّهم الكاتب بأنه يتبع طريقة التنويم المغناطيسي للقارئ لكي يمرر
أفكاره!: "فهذه الاستراتيجية الكتابية "الحمودية" تسير وفق الخطوات
التالية: تحطيم دفاعات القارئ بإغراقه بعدد هائل من الأدلة..وهذا يؤدي إلى
برمجة القارئ على قبول أغلب ما يقوله الكاتب .. وهنا تحدث عملية تشبه
التنويم المغناطيسي التي يمارسها الكاتب على القارئ.. وتتجلى في سرعة
جريان النص الذي يقدمه الكاتب للقارئ بطريقة آلية في ذهن القارئ، بحيث لا
يعود يدقق فيما يقرأ ثم في وسط هذا القبول التنويمي ينجح الكاتب في تمرير
فكرة أو فكرتين ليس عليهما أي دليل". أما ما لذي مرره الكاتب؟ فهناك
فكرتان: "1- إلغاء التمييز بين النبي والكاهن، والإيحاء بأن محمد كاهن
وليس نبي .. 2- وأن الرسول ألف القرآن، ولم ينزل عليه من مصدر علوي"
(انظر: هل كان محمد عبقرياً؟). هذه هي النتيجة التي خلص إليها الأستاذ
الغندور. وقبل مناقشة هذه النتيجة أحب أن أشير إلى نقطتين: الأولى أن هذه
الاعتراضات قامت كما ذكرت على الفكرة الخرافية، أي استثنائية محمد، بحيث
إن محمداً لا يجب درسه كما ندرس أية شخصية أخرى، بل بكونه كاريزما
استثنائية، وما أثبت هذه الاستثنائية هو نجاحه هو ورسالته. ومن جهة أخرى،
إن هذا المنطق هو جزء لا يتجزأ من اللاهوت العربي، كما سنكشف عن ذلك
لاحقاً.
أما النقطة الثانية: فأعتقد أن المشكلة لا تكمن هنا في النقد، بقدر ما تكمن في أزمة الأداة الناقدة، أي:
إنها أزمة العقل اللاهوتي العربي، وما أعنيه بالضبط أزمته في التأرجح بـ
"الرقص على الحبلين": التعلق بأهداب محمد والتراث من جهة، ومحاولة تعلقه
بالواقع المعاصر من جهة أخرى. فهو لا يريد أن يخسر محمداً، لكنه بالمقابل
يريد أن يربح الواقع. لكننا سندرك بأنه جراء أزمة الرقص هذه، فإنه لم يربح
لا محمداً ولا الواقع!. لماذا؟ لأنه ليس خطاباً ينتمي بكليته إلى محمد،
ولا هو خطاب يعانق ما قدمته الحداثة من أفكار تقدمية. إن هذا الخطاب بهذا
المعنى هو خطاب عدمي، يقاوم ضغط الأبواب الموصدة في وجهه. ولندقق مثلاً في
خطاب أمير الغندور. فحينما طُرح درس وحي محمد من وجهة نظر ميثولوجية، قابل
هذا النقد بـ الزعم بأن وحي محمد هو حالة استثنائية، بينما في مقال سعيد
ناشيد: "النار والمعبد"،
عاد ليلتجئ بالمنهج الفينومينولوجي في أنه ليس من المفروض أن نهتم بظواهر
الوحي وأصر على أن نعلقها بين قوسين، الاهتمام لا بدّ أن يولى إلى الواقع
المعاصر: « فالفينومينولوجيا ترفض تضييع الوقت والجهد والفكر في الأسئلة
العبثية والمؤامراتية حول هل الوحي أصلي أم مزيف؟ وهل التراث منحول أم
مأصول؟… فهم يعانون من مشكلة أساسية - ملحدين ومتدينيين - وهي أنهم
مغتربون عن متطلبات واقعهم المعاصر، لدرجة أنهم أصبحوا عاجزين عن فهمه
فتركوه ليدققوا في تفاصيل التاريخ القديم». طبعاً هذا الكلام لن يصمد
كثيراً عنده وسينفي كلامه السابق، فهو نفسه الذي يدعونا إلى الابتعاد عن
الوحي وأسئلة التراث المؤامراتية للانكباب على متطلبات الواقع المعاصر،
سيدعونا في مكان آخر إلى تثوير التراث والإسلام من الداخل، ولكن من وجهة
نظره! يقول: " الاشتغال من داخل التراث الإسلامي لتثويره وإصلاحه وفهمه
أولاً قبل إصلاحه دون تركه فريسة لرجال الدين..
فالإسلام يدعو كل فرد لأن يختطفه ويحتله ويوظفه لأنه قابل للتوظيف
البشري ببساطة ودون وساطة". طبعاً هذا الأمر لم يقف عنده عند هذا الحد، بل
وصل الأمر إلى الاستعلاء بالإسلام أكثر من أي نظام علماني آخر، مع العلم
أنه دائماً كان ينكر تحويل العمانية إلى إيديولوجية دينية! لكن لنلاحظ
(ودائماً الكلام لغندور): " فالإسلام كدين يضمن حريات في العقيدة
والاجتهاد بأكثر مما في أي نظام علماني أو إلحادي على وجه الأرض أو في
السماء"!!
ذلك هو ما نعنيه بأزمة الأداة الناقدة، أي العقل العدمي، في تعلقه بأهداب
محمد من جهة، وبمتطلبات الواقع من جهة أخرى. إنه عقل عدمي يعيش أزمة وجود
في كينونته من الداخل؛ بمعنى إنه بقدر ما هو يستجدي بجينات الذاكرة
التاريخية الإسلامية، يعيش، خاويا، تناقضاتٍ داخل كينونته البنيوية من
جهة، وفي صراعه مع تساؤلات الحاضر التاريخية وتحدّياته من جهة أخرى. خطاب
يعبر عن أزمة كينونة في وجوده، وبالتالي يعبر عن خلل دراماتيكيّ في بنيته
الهشّة، ليس فقط في شكل خطابه، وإنما في أداة هذا الخطاب، أي إنّها أزمة
العقل الدينيّ.
ربما لا نعجب من الأصوات الدينية أن تُقنّع محمداً بأقنعة خرافية لتسد
الطريق بذلك أمام تناوله نقدياً، فالطامة لا تكمن هنا؛ بل إنها في مكان
آخر خارج تلك الدوائر الأرثوذكسية، وعادة ما تحسب نفسها على الخطاب النقدي
والعقلاني في معالجته لقضايا الدين. لكن لا بد أن نعلم أنّ هذا الاعتبار
يبقى على مستوى الخطاب الظاهري فقط، أما في العمق فالبنية الدينية العدمية
هي نفسها. وسأعطي مثالاً على ذلك، الناقد حينما يسمع شيخاً يقول بأن
الدنيا قد خلقت من أجل عيون محمد، وبأن وحيه لم يكن إلا خرقاً للتاريخ،
وبأنه لم يكن إلا شعلة الانتقال من ظلام إلى جاهلية، وبأنه ختم مسيرة
الوحي عنده…الخ، بالرغم من أن الناقد سيعتبر هذه الهرطقات ليست إلا مجرد
هلوسات عصابية دينية غير مسئولة، لأنها في النهاية لا تصدر إلا عن شيخ
بوصفه سادنا من سدنة تأبيد الخرافة (وماذا يُنتظر من سدنة الخرافة
والمقدس!؟)؛ لكن أن يصدر هذا الكلام أو قريباً منه من أصوات مثقفة بلغة
تلبس قشور المفردات الحداثية ومناهجها، ومؤدّى الخطابين في كلتا الحالتين
واحد، فالمصيبة بالتأكيد أكبر وتعبر عن أزمة خطيرة. ولتقريب الصورة أكثر،
دعونا نقرأ مثلاً قراءة سريعة لنمط من هذا الخطاب اللاهوتي المعكوس عند
"علي مبروك" (والذي يشترك مع ما أتينا عليه سابقاً)، وذلك في تحليله
للنتائج التي يريد أن يتوصل إليها في إخراج نبوءة وحي محمد من نسقه
التاريخي، وهذا ما سيؤدي إلى إضفاء طابع الاستثنائية على نسق محمد النبوئي
الميثولوجي. وسندرك أنه لا معنى على الإطلاق من تفريقه غير العقلاني بين
النبوة والنبوءة، في دراسته التي يحاول تغليفها بطابع التحليل والنقد،
وذلك بهدف واحد كما يفهم من تحليلاته الميتافيزيقية: أن يجعل من نبوءة
محمد مفارقة تاريخياً لنبوءات عصره التي ابتدأ عندها التاريخ العربي، لا
بل كما سنرى: لقد اكتملت مسيرة البشرية عند لحظة محمد!
نبوة أم نبوءة؟ كان الأستاذ الأتاسي قد طرح مرة تساؤلاً في تعليق له على إحدى المقالات،
وهو: «كيف أصبح محمد نبياً ومسيلمة متنبئاً؟». بدون الخوض الآن في الكلام
عن الأسباب الموضوعية التي كانت وراء نجاح الأول وفشل الثاني، أود أن أسبق
ذلك التساؤل بآخر: ما لفرق بين نبي ومتنبئ؟. في الواقع إذا دققنا في أصل
الكلمتين لا نجد أي فرق بينهما من حيث الجذر اللغوي حينما ترتدان إليه.
النبأ هو الخبر، وفي هذا المعنى جاء في القرآن: «واتل عليهم نبأ ابْني آدم
بالحق إذ قرَّبا قربانًا» [المائدة: 27]. والذي يحاول استنطاق أخبار
السماء هو متنبئ؛ فالنبي هو الذي يتنبأ بما عند الآلهة: «قال الفرَّاء
النبي هو من أنبأ عن اللّه، فَتُرك همزه» (لسان العرب: مادة نبأ). إذن
النبوة والنبوءة لهما معنى واحد، وكذا نبيء = نبي: " النبوءة: سفارة بين
الله عز وجل وبين ذوي العقول لإزاحة عللها (وتبدل الهمزة واوا وتدغم فيقال
النبوة) والإخبار عن الشيء قبل وقته حزرا وتخمينا… ( النبيء) المخبر عن
الله عز وجل (وتبدل الهمزة ياء وتدغم فيقال النبي)(2)". ولكن لا بد أن
ندرك دائماً أن الاعتبارات الإيديولوجية والسياسية هي أقوى من هذه
البدهيات، لذلك ليس غريباً أن تنحو كلمة متنبئ منحى مغايراً لكلمة نبي:
فمسيلمة سيصبح متنبئ وكذاب، بينما محمد نبي وصادق: «قال سيبويه ليس أَحد
من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي»
(لسان العرب: مادة نبأ).
إذن نحن هنا لسنا أمام اعتبارات علمية لكلمتي نبي ومتنبئ، بل نحن أمام
محمد ومسيلمة، أي أمام الصور التي ألصقت بالاثنين (صناعة مسيلمة بتحويله
إلى كذاب، بينما في صناعة محمد بتحويله إلى صادق!)، وهذا ما سيؤثر على
الدلالات اللغوية والاصطلاحية في استخدام كلمتي نبي ومتنبئ، وهذا مع إدراك
العرب تماماً أن كلا الرجلين –محمد ومسيلمة- قاما بالأصل بالفعل التنبئيّ
نفسه، لكن تبقى كما قلنا الاعتبارات الإيديولوجية والسياسية هي الأقوى.
المشكلة لم تنته هنا عند التراثيين، بل سيكملها حداثيون عرب، ولكن بأساليب
نقدية معاصرة محنطة، ودائماً في سبيل الانتصار لطرف في مقابل الحطّ من
الطرف الآخر، ولو كان ذلك على حساب النقد العلمي كما سنرى الآن.
حينما يتكلم علي مبروك عن "نبوءة" محمد لا يضيف لها همزة، بينما يضيفها
إذا تكلم عن النبوءات الأخرى. وهذا عائد كما يعلن أن النبوءة هي من النبإ،
في حين أن النبوة من النباوة، أي الرفعة، أي رفعة وعلو مكانة نبوة محمد من
جهة، وإلى تمييزه غير النقدي بين نسقين: النسق الميثولوجي والنسق الديني:
«إذا كنا في النسق الميثولوجي بإزاء إنسان خلق الإله على صورته، فإننا في
النسق الديني، بإزاء إله هو الذي خلق الإنسان على صورته(3)». طبعاً إذا
سألنا لماذا هذا التفريق، يجيبنا علي مبروك: «نبوءات عرب ما قبل الإسلام
تنتمي إلى نبوءات (النسق الميثولوجي) الذي تتأسس فيه النبوءة على مبادرة
إنسانية خالصة، يكون الرد الإلهي جواباً مباشراً عليها. ولذا كان ضرورياً
أن تتناقض (نبوة الإسلام) مع نبوءات النسق الميثولوجي. إذ تنتمي نبوة
الإسلام إلى ما أسميناه بنبوات (النسق الديني) الذي تتخذ فيه النبوة
مساراً لحركتها يتجه على عكس النسق الميثولوجي: من الأعلى الله إلى الأسفل
الإنسان(4)».
إنه بالرغم من أنّ البنية الميثولوجية تشكل أساساً صلباً للبنية الدينية،
والاثنتان كما نعلم تنطلقان من بنية عصابية نفسية يعيشها الإنسان، إلا أن
"علي مبروك" بتجاهله لهذا يريد أن يرمي بطرف خفي أنّ النسق الميثولوجي
(نسق النبوءات) ينتمي إلى الخرافة، في حين أنّ النسق الديني (نسق النبوات
/ نبوة محمد) ينتمي إلى العقلانية والرفعة. وفي الواقع لا نعلم كيف يصل
علي مبروك إلى حلّه السحري أن يرمي بنبوءات ما قبل الإسلام إلى النسق
الميثولوجي، بينما نبوءة محمد يضعها في النسق الديني. لماذا؟ يجيب علي
مبروك: لأن نبوءات النسق الميثولوجي تتأسس على مبادرة إنسانية خاصة، في
حين أن نبوة محمد تتأسس على مبادرة إلهية خالصة(5)!. مع هذا الكلام، محمد
ليس له علاقة، فالرب هو الذي بادر من تلقاء نفسه، وأنزل الوحي على محمد!
طبعاً يتجاهل المعلّق الكريم أنه سواء كانت البنية الميثولوجية أو الدينية
استجابة لواقع إنساني مريض، فإنّه يجد في المقدّس ومحاكاته واستنطاقه
وجعله يتكلّم عزاء لطفولته العصابيّة. وبالحرف الواحد يقول: بسبب أن
النبوات تتأسّس على مبادرة إلهية خاصة، فإن الإنسان ليس له دخل، أو على
حدّ تعبيره هو: "دون طلب مباشر من الإنسان" (نفس المصدر). أما إذا سألنا
عن الوحدة في النبوة فيمن تحققت، فيجيبنا بدكتاتورية سلفية: "أما الوحدة
في أرقى صورها فقد تحقّقت فقط (لا حظ كلمة فقط) في نبوّة محمد (صلعم)".
طبعاً هذه الخرافة لم تنته هنا، بل إنه يكملها ويلحقها بخرافة أخرى، وذلك
بتضامنه الأسطوري مع روايات الإسلاميين عن نبوءة محمد المبُشّر بها قبل
خلق البشر حينما كانوا بين الماء والطين: "ولهذا أدرك الحقيقة دون شك من
ذهب إلى نبوّة محمّد بدأت من يوم أن خلق الله الأرض وعرج إلى السماء أو
أنها بدأت بين الماء والطين". ونتيجة لذلك، إذا كانت نبوءة محمد هي الأسمى
من بين كل النبوءات، وقد اكتملت مسيرة وحي الربّ عنده، لا بدّ من إغلاق
هذا الباب أمام البشر. لماذ؟ لأن لحظة وحي محمد تمثل بداية التاريخ وخاصة
أن الوحي قد اكتمل عنده. وفعلاً نجد "علي مبروك" يُقفل باب النبوة كما
أقفله محمد مرة حينما أعلن أنه خاتم الأنبياء، ذلك أن نبوة محمد: "تعد
خاتم النبوات، وأعلى مراتب اكتمال الوحي. ولا يمثل الاكتمال هنا نهاية
للتاريخ، بل لعله يمثل بدايته الحقة. إذ يعني الاكتمال أن الروح البشري قد
حقق بالوحي درجة من الوعي تؤهله لإكمال مسيرة تطوره…. (6)".
لن نستطرد أكثر من ذلك في مثل هذه الخرافات. المزعج أكثر أن "علي مبروك"
قد عنون كتابه بعنوان فرعي: من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ! ولا نعلم
بالضبط إذا كان التاريخ هكذا يُفلسف! فنقطة بداية التاريخ العربي (بل
الروح البشري كله) تبتدئ عند إشراق وحي محمّد حيث اكتملت دورة الوحي عنده
كما رأينا. وعند هذه النقطة نستطيع أن نُفلسف التاريخ!
لا بد أن ندرك أن هذه المحاولات في قراءة محمّد بهذا الشكل الغيبي تهدف
بشكل أو بآخر إلى قلب صورة محمد، بحيث لا يعود يُدرس أفقياً وانطلاقاً من
السياق التاريخي الذي أفرزه، بل رأسياً وانطلاقاً من السماء إلى الأرض.
هذا هو ما يسمى بـ الجدل الهابط، من فوق إلى تحت. وإلاّ ماذا يعني أن نقول
بأنّ وحي محمّد لم يتأثّر بالبيئة الثقافية التي أخرجته للوجود؟ ماذا يعني
أن نقول أن وحي محمّد هو حالة استثنائية كما زعمت بعض أصوات المعترضين؟
هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً، هو أن نغلق أبواب النقد والدرس التاريخي،
لنفتح آذاننا لأفواه خرافات الدينيّين ومنظّمي أمور التقديس والسفسطة
ونقول لهم سمعاً وطاعة: إن وحي محمد هو وحي إلهي سماوي. نزل بشكل فجائي
والتاريخ مغمض عينيه (على حدّ تعبير جعيط). نزل الوحي فجأة ومحمّد لم يكن
مستشرفاً له (البوطي)…الخ.
إننا حينما ندرس وحي محمد ضمن إطار البنية الثقافية التي ينتمي إليها، لا
نقوم بإلغاء المسار الذي اختطه محمد وخاصة في يثرب. إن كل بنية ثقافية قبل
أن تنشأ ومن ثم تسيطر، لا بد أن تستقي من البنى الثقافية والفكرية التي
سبقتها وعاصرتها. نعم إن لمحمّد مساره الخاص (وقد نجح به)، وكذا لمسيلمة
مساره الخاص أيضاً (وقد فشل في تحقيقه)، إلاّ أنّه وبالرغم من ذلك، ليس
بإمكاننا أن ننكر أنّ محمداً ومسيلمة ينتميان إلى ذات المخيال الأسطوري،
ومنه تشكلت محدّداتهما الثقافية وسماتهما الفكريّة. وما حاولته أنا في
مقال "وحي محمد" هو الكشف عن بنية هذا المخيال الذي لا ينتمي إليه محمد
ومسيلمة فقط، بل كل الذي فعّلوا آليات هذا المخيال، وهي الآليات الكهانية
التنبئيّة التي استخدمها الكل بمن فيهم محمّد. وهذا هو السبب لعنونة
المقال بـ "الأساس الميثولوجي" لوحي محمد، بمعنى دراسة البنى الأساسية
الميثية التي تشكل وحي محمّد منها. لذلك، سيغدو من الخطإ الكبير تحويل
النقاش (كما لوحظ) بأنّ ما يبرهن على استثنائية وحي هو نجاحه! طبعاً هذا
مع تجاهل أن نجاح محمّد لم يكن إلا نجاحاً عسكرياً. فمثلاً لم ينجح
المسلمون على مسيلمة ثقافياً أو فكرياً، بل هزموه باليد العسكرية. هل نجح
محمّد على اليهود في يثرب من خلال وحيه؟ إطلاقاً لا. لقد نجح بطردهم حيناً
من مدينتهم (بني النضير وبني قينقاع) وبالذبح حيناً آخر (بني قريظة) وبشنّ
الحرب عليهم (هجومه على حصون خيبر)…الخ. هكذا نجح محمّدا، وهكذا نجحت
رسالته. لكن لندع الآن جانباً معايير محمّد العسكرية هذه في نجاحه، أؤكد
مرة أخرى أنّ البنى الأساسية التي كان يشتغل من خلالها محمد، هي نفسها ذات
البنى التي اشتغل من خلالها حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وعزى سلمة، وشِقّ،
وسَطيح ومسيلمة والعنسي والكاهن "صاف بن صياد" وحتّى الشاعر حسّان بن
ثابت…الخ، وهذا ما حاولت الكشف عليه سابقاً في مناقشة البنى الأسطورية
لوحيهم، بمن فيهم محمد. لذلك سيغدو الحديث عن معيار نجاح محمد في دعوته هي
من قبيل التنكر للأسس الأسطورية التي انطلق منها (انظر وحي محمد: الأساس
الميثولوجي). فتحويل الحديث من قبل الغندور إلى نجاح محمد (مع العلم أنه
يتجاهل المعايير التوتاليتارية العسكرية لهذا النجاح) من أجل إضفاء طابع
الاستثنائية على وحيه، يعني بشكل أو بآخر قلب محمد على رأسه ودراسته من
فوق أي من السماء، بدلاً من الانطلاق نقدياً من السياق التاريخي والثقافي
الذي أفرز محمداً، وهذا يعني إضفاء الطابع الخرافي على وحيه. ومن جهة أخرى
لا يصحّ إطلاقاً أن نبدأ بمقدمة هي ذاتها تحتاج إلى برهان، وذلك حينما
قيل، أنّ وحي محمد هو استثنائي بينما وحي مسيلمة مبتذل، لأن هذا من شأنه
الابتعاد عن الروح الموضوعية بدراسة محمد أو مسيلمة، وبالتالي الفشل في
نقدهما ودرسهما.
بمعنى آخر: الفشل في البحث حينما يعتبر سلفاً وحي محمد استثنائيّا، وكذا
أيضاً الفشل بالبحث حينما يعتبر وحي مسيلمة ابتذاليّا. لذا فالوحي المحمدي
لا يخرج في أسسه التي قام عليها عن ظواهر التكهن (= التنبؤ) إذا كان
متقاطعاً في السمات والوظائف والأبنية الأسطورية…الخ. فليس هناك أي معنى
لاستثناء أي ظاهرة من أجل إعلائها، وكذا أيضاً: ليس هناك ابتذال في سبيل
التسخيف بظواهر أخرى كما يتحفنا الإسلاميون بتسخيفهم لمسيلمة والإعلاء
بالمقابل من "كاريزما" محمّد. يأتي هذا الكلام ما دام الكلّ –محمد ومسيلمة
وغيرهما من كهّان العرب- سيوضع على مشرحة النقد التاريخي. ومن هنا لا بدّ
من أجل قراءة محمّد قراءة موضوعية أن ننظر إليه وفقاً لنافذته التاريخيّة
هو، لا وفقاً لأعيننا وخاصة إذا كانت مؤدلجة بأيديولوجيات بعيدة تماماً عن
زرع محمّد في تربته الأصلية التي انبثقت منها رسالته.