تحولات الفينومينولوجيا المعاصرة:([1])
قراءة في كتاب محمد بن سباع([2])
تهدف هذه القراءة ليس فقط لعرض الأفكار الواردة في الكتاب واختصارها، بل إلى لفت انتباه القارئ الكريم لبعض القضايا التي تعرض لها الكاتب والتي تحتاج في نظرنا لنقاش جاد وهادف، لا من أجل هدم ما تقدم به من أفكار، وإنما بغرض إغناء الأطروحة وجعلها دافعاً للبحث والتنقيب، في تيار فلسفي ظلّ القول فيه محدوداً في الأوساط الفكرية العربية بدعوى صعوبة الخوض فيه. إنها دعوة لاستكشاف فينومينولوجيا مرلوبونتي بشكل خاص والفينومينولوجيا المعاصرة (فينومينولوجيا هوسرل وهيدغر) بشكل عام. لهذا كله فقد حاولنا توخي الحياد والأمانة في التدليل على مضامين الكتاب ومناقشتها.
الكتاب:
يقع الكتاب في حوالي 317 صفحة، مصدّر بفهرس من 4 صفحات، كما أنه يشتمعل على بيبليوغرافيا باللغتين العربية والفرنسية، بالإضافة إلى فهرس عام يضم معظم المفاهيم والأسماء الواردة في الكتاب والصفحات التي وردت فيها، وتجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، مارس 2015، في طبعة أنيقة.
العنوان:
يتكون العنوان من شقين: عنوان رئيس: تحولات الفينومينولوجيا المعاصرة، وعنوان فرعي: ميرلوبونتي في مناظرة هوسرل وهيدغر، وهو ما يدعو إلى الوقوف قليلاً عند العنوان باعتباره بوابة الولوج إلى البحث. فمن خلال القراءة الأولية للعنوان يبدو أنه يروم رصد التحولات التي عرفتها الفينومينولوجيا المعاصرة، والمقصود هنا هو ذلك التحول الذي عرفته الفينومينولوجيا انطلاقاً من مؤسسها إدموند هوسرل وصولاً إلى ميرلوبونتي مروراً بهيدغر. لكن ما يثير حقاً في العنوان هو أنّ الأمر يتعلق بمرلوبونتي كأحد أقطاب الفينومينولوجيا المعاصرة، وبالضبط ذلك التحول في مسار الفينومينولوجيا الذي مثله، لكنّ هذا التحول أو (التجديد) لن يظهر في نظر الكاتب إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يسميه مناظرة بين هوسرل وهايدغر، ومفهوم المناظرة هنا يأخذ معنى مجازياً، فكما نعرف أنّ المناظرة تحتاج أطرافاً متحاورين في الواقع حول قضية أو إشكالية ما، وآلية المناظرة الأولى هي الكلام الذي يروم في الأصل الغلبة، لكنّ السجال هنا على مستوى الأفكار فقط، لذلك لا يمكن الحديث عن مناظرة بمعناها الشائع ليس فقط لعدم توفر الشرط السابق ذكره، وإنما لأنّ مرلوبونتي لاحق زمانياً على كلّ من هوسرل وهيدغر، لذلك فإنّ المقصود بالمناظرة هنا ذلك الاختلاف على مستوى الأفكار. الأمر الذي سيكون في نظر الكاتب تمهيداً لفينومينولوجيا جديدة سيعمل مرلوبونتي على بلورتها مستفيداً في ذلك من هذا الاختلاف.
هذا ما يبرر حضور هوسرل وهيدغر في الحديث عن فينومينولوجيا مرلوبونتي، وكأنّ الكاتب يصادر أهمية الفيلسوفين في تشكيل فكر مرلوبونتي. ولتأكيد هذا التأويل فلنلاحظ العنوان ونقارنه مع المحتوى المعرفي للكتاب، حيث نجد أنّ العنوان يؤكد أنّ فينومينولجيا مرلوبونتي تمثل تحولاً حاسماً وجذرياً في الفكر الفينومينولوجي المعاصر، وقد جاء في بداية العنوان الفرعي، في حين أنه لاحق على مستوى المحتوى، وذلك للتأكيد على فكرة التحول بل التجاوز في فلسفة مرلوبونتي، وهنا يمكن أن نلاحظ فكرة أخرى يتضمنها العنوان، وهي أنه لفهم أفكار فيلسوف ما لا بدّ من العودة إلى المصادر التي استفاد منها، وإلى السياق العام الذي جاء فيه.
محتويات الكتاب:
كلّ بحث جاد وهادف لا بدّ أن ينطلق من إشكال هو بمثابة هاجس ومحفز في الآن نفسه بالنسبة إلى الباحث، والإشكال الذي يؤطر الكتاب الذي بين أيدينا هو التالي: هل تمكن مرلوبونتي من تجاوز الفصل التقليدي الذي أقامته الفينومينولوجيا بين المعرفة والوجود؟ وبعبارة أخرى هل علاقة فينومينولوجيا مرلوبونتي بفينومينولوجيا هوسرل وهيدغر علاقة استئناف أم تجاوز؟
يبدو من خلال الإشكال أنّ الأمر يتعلق بتجاوز فينومينولوجيا مرلوبونتي لفينومينولوجيا كلٍّ من هوسرل وهيدغر، وهو الأمر الذي حاولنا الإشارة إليه في قراءتنا للعنوان، لأنّ التحول يفيد أيضاً التجاوز، لكن اللافت للنظر حقاً هو أنّ الكاتب يقرّ منذ البداية بأنّ هناك نوعاً من التجاوز، لكنه يعيد طرح السؤال بصيغة أخرى، حيث يقحم فكرة الاستئناف، وهذا معناه أنّ فينومينولوجيا مرلوبونتي لا تمثل تجاوزاً بالمعنى الجذري للكلمة، وهو ما يمكن استنتاجه من خلال ملاحظتنا للفهرس، حيث سنجد أنّ الفصل الثاني والثالث مفتتحان بمفهوم التجاوز، في حين أنّ أول عنصر في الفصل الرابع معنون باستئناف القول الفلسفي للحداثة. وهذا التمييز المنهجي فيه قول سنرجئه إلى موضع آخر.
إذن الأمر يتعلق بمحاولة لإظهار أوجه التحول في الفينومينولوجيا المعاصرة من خلال المقارنة بين أهم أقطابها، لذلك فإننا نتساءل بدورنا: هل استطاع فعلاً الكاتب هو الآخر أن يظهر أوجه التحول في فلسفة مرلوبونتي ومبرراته ونقاط قوته؟
لقد بادر المؤلف إلى وضع موجز للكتاب في بدايته، ربما لأنه قد تنبه لضرورة تجاوز كلّ قراءة تجزيئية، وحرصاً منا على ألا نقع في القراءة الاختزالية للكتاب، فإننا سنركز أكثر على الجانب المنهجي في عرض الأفكار، لكننا ومن دون شك سنحاول الوقوف على أهم القضايا التي عالجها الكتاب، متبعين في ذلك التقسيم الذي وضعه صاحب الكتاب نفسه.
في الفصل الأول المعنون بـ"تحولات الفينومينولوجيا المعاصرة من أولوية الوعي إلى مساءلة الكينونة"، ينطلق الكاتب من مقاربة مفهوم الفينومينولوجيا من خلال الرصد الكرونولوجي للمفهوم، الذي ظهر في كتابات كلٍّ من لامبرت، وكانط ثم هيغل، ليؤكد أنّ الفينومينولوجيا، بما هي دراسة للماهيات الخالصة للوعي، لم تتبلور إلا مع هوسرل الذي حاول أن يجعل من الفلسفة علماً صارماً من خلال تقعيده للمنهج الفينومينولوجي، بغرض تجاوز أزمة الفكر الأوروبي. وتنصيصاً على أهمية التحولات التي عرفتها الفينومينولوجيا، فقد خصص الكاتب جزءاً مهماً من هذا الفصل لمفهوم الفينومينولوجيا عند هوسرل، موضحاً أنّ موضوع هذا التوجه الفلسفي هو الماهية التي تقبع خلف الظواهر، والمجال الذي تتجلى فيه الماهيات هو الوعي، لذلك كان اهتمام هوسرل كبيراً بدراسة الوعي الخالص، الذي سيصبح أولوية فينومينولوجية. كما أكد هوسرل على الطابع القصدي للوعي، أي أنّ كل وعي هو وعي بشيء ما، وأنّ الوعي دائماً يحمل الموضوع في ذاته، وبذلك يكون الحدس هو أساس معرفة الظواهر. هذا الوقوف عند فينومينولوجيا هوسرل الغرض منه هو التأكيد على أنّ هذه الأخيرة هي نظرية في المعرفة، وأنّ المشروع الهوسرلي هو مشروع إبستيمولوجي بالأساس، الأمر الذي سيساعد فيما بعد على التمييز بين فينومينولوجيا هوسرل وفينومينولوجيا هيدغر من جهة وفينومينولوجيا مرلوبونتي من جهة ثانية.
ولكي يؤكد على الطابع الإبستيمولوجي لفلسفة هوسرل سيعود الكاتب للأثر الذي تركته الأزمة التي أصابت العلوم وخاصة الرياضيات في القرن التاسع عشر، وهي ما يطلق عليها "أزمة الأسس"، فانطلاقاً من إحساسه بعمق الأزمة عمل هوسرل على نقد الفكر الحداثي بدءاً بديكارت، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المشروعين الديكارتي والهوسرلي متشابهان إلى حد بعيد، فكلاهما انطلق من نقد الموروث، وكلاهما كان له مشروع إبستيمولوجي بديل، لهذا فقد استفاد هوسرل كثيراً من ديكارت، خاصة في تحليلاته للكوجيطو، التي ستغدو الأساس الإبستيمولوجي لنقد المعارف والعلوم "الأوروبية"، وهو الأمر الذي أكد عليه الكاتب، عندما بيّن أنّ نقد الرياضيات وكذلك النزعة السيكولوجية، سيثمر في النهاية تعريفاً جديداً للذات تكون بمقتضاه ذاتاً متعالية تقصد موضوعها وتكون منبع الحقيقة واليقين[3].
لم يكن هذا الوقوف على فينومينولوجيا هوسرل غاية في ذاته، وإنما هو مجرد وسيلة، لإظهار أنّ هذه الفينومينولوجيا الترنسندنتالية هي مشروع إبستيمولوجي محض، ونظرية في المعرفة ترجع كل الخبرات الإنسانية للوعي وللذات التي أصبحت تضفي المعنى على كلّ الموجودات داخل العالم، وهي بذلك تجعل الوعي سابقاً على وجود الظواهر.
هذا التهميش الذي سيطال الوجود هو ما انتبه له هيدغر، الذي سيعطي معنى جديداً للفينومينولوجيا، بما هي مساءلة للكينونة، هذه المساءلة التي ستجعل الفيلسوف يضطلع بمهمتين أولاهما تحليل الدزاين أو الأنطلوجيا الأساسية وثانيتهما تجاوز الميتافزيقا (ص 63)، أي نقد تاريخ ميتافزيقا الموجود من أفلاطون إلى نيتشه. إذن مساءلة الكينونة تستدعي العودة إلى الذات، لكن الذات التي تنطلق من البعد الزماني وليس من الوعي الخالص، وهذه هي نقطة الخلاف بين فينومينولوجيا كلٍّ من هوسرل وهيدغر الذي سيأخذ على عاتقه مهمة مجاوزة الميتافيزيقا، باعتبارها تفكيراً في الكينونة التي تمّ نسيانها لصالح الموجود. هنا لا بدّ أن نلاحظ أنّ الكاتب يقف عند مفهوم التجاوز كمهمة تضطلع بها الفلسفة، وبذلك تكون فينومينولوجيا هيدغر أنطلوجيا من حيث اهتمامها بالكينونة، وهرمينوطيقا من حيث اهتمامها بالدزاين.
هذا الانتقال من المعرفة إلى الوجود هو انتقال من فينومينولوجيا المعنى إلى أنطلوجيا الفهم، انتقال من البحث في المعرفة إلى البحث في الكينونة، وهو بذلك تجاوز للطرح التقليدي لعلاقة الذات بالموضوع من خلال التوجه إلى الأرضية التي تجمع بينهما، ألا وهي الكينونة[4]. إذن هناك تحول في هويّة الفينومينولوجيا ستجسّده فلسفة هيدغر، حيث ستصبح الكينونة بديلاً عن عالم الحياة لدى هوسرل. لكن هل فعلاً استطاع هيدغر إيجاد حلول للمشكلات المعرفية بردّها كلها إلى الكينونة؟
لكي يميز الكاتب أهمّ التحولات التي شهدتها الفينومينولوجيا اختار مجموعة من الثنائيات المتقابلة، في فلسفة كلٍّ من هوسرل وهيدغر، منطلقاً من التمييز بين عالم الحياة لدى هوسرل والكينونة لدى هيدغر، فالأول هو التجربة الأصيلة التي تتأسس عليها المعارف والأحكام كلها، أمّا الكينونة فهي المطلب الرئيس عند هيدغر، فنحن موجودون لكي نبحث عن معناها[5]. ثم التمييز بين ماهيّة اللغة لدى هوسرل التي هي العودة للخبرة الكامنة في الذات وأنطلوجيا اللغة لدى هيدغر باعتبارها عودة للكينونة[6]، ومن خلال هذا كله يخلص الكاتب إلى أنّ فلسفة هوسرل تهتم أكثر بالمعنى لكونها نظرية في المعرفة، أمّا فلسفة هيدغر فهي أنطلوجيا، الغرض منها هو فهم الكينونة من خلال تأويل الدزاين.
في خضم هذا السجال الفكري الحاد، ستشكل فينومينولوجيا مرلوبونتي منعطفاً مهماً في تاريخ الفلسفة المعاصرة حسب الكاتب، إذ أنها ستعمل على تجاوز الطرحين معاً المعرفي والوجودي. فهل فعلاً استطاعت فينومينولوجيا مرلوبونتي تجاوز فينومينولوجيا كلٍّ من هوسرل وهيدغر؟ أم أنّ الأمر يتعلق فقط بتأليف بين إبستيمولوجيا هوسرل وأنطلوجيا هيدغر؟
بعد أن قام الكاتب بإلقاء الضوء على التحولات التي عرفتها الفينومينولوجيا منذ ظهورها كمفهوم مع لامبرت وصولاً إلى هيدغر مروراً بهوسرل، سيعمل في الفصول التالية على إظهار أوجه التحول، أو بعبارة أدق التجاوز في الفينومينولوجا "الجديدة"، بطريقة منهجية يعتمد فيها المقارنة، حيث يخصص كلّ فصل لمفهوم معين وما يرتبط به من مفاهيم أخرى، فيقارن بينها وبين ما ورد في فلسفة كلٍّ من هوسرل وهايدغر من مفاهيم. وهذه المقارنة في نظر الكاتب قادرة على إظهار مكامن التحول في فلسفة مرلوبونتي.
فمثلاً الفصل الثاني خُصّص لمفهوم الوعي المتجسد وما يرتبط به من مفاهيم كالقصدية، الرد الفينومينولوجي، الماهية، الواقع، الإدراك الحسي، الجسد وغيرها. وهنا يظهر ذكاء الكاتب عندما اختار مفهوم الوعي المتجسد لكي يبين أنّ مرلوبونتي استعمل المفهوم كبديل للوعي الترنسندنتالي، وهذه ستكون نقطة الانطلاق في مناقشة المفاهيم الأخرى، وأهمها على الإطلاق مفهوم الجسد، الذي سيكون نقطة تحول حاسمة في فينومينولوجيا مرلوبونتي، وهذا بالتالي تأكيد على تجاوز مرلوبونتي لمقولة الأنا المتعالي لدى هوسرل التي تجعل المعرفة سابقة عن الوجود داخل العالم، وهو في نهاية المطاف انتقال من الوعي الخالص إلى الواقع الفعلي.
سيستفيض الكاتب في إظهار أوجه التجاوز من خلال حديثه عن الإدراك الحسي باعتباره أساس المعرفة، ثم من خلال مفهوم الجسد الفينومينولوجي وأهم وظائفه ألا وهي الرؤية. الجسد الذي ظلّ مهمشاً في جلّ الفلسفات السابقة أصبح يلعب دوراً مزدوجاً في فلسفة ميرلوبونتي، فهو أساس الوجود والمعرفة معاً، وبذلك يكون مفهوم الجسد حلاً معقولاً للخلاف بين فينومينولوجيا هوسرل وفينومينولوجيا هيدغر.
بالطريقة المنهجية نفسها يسترسل الكاتب في الفصل الثالث في إبراز أوجه التجاوز في فينومينولوجيا مرلوبونتي، من خلال مفهوم الوجود في العالم، حيث إنّ العودة إلى العالم باعتباره حدثاً معرفياً ووجودياً في الآن نفسه، تشكل تحولاً كبيراً في مسار الفينومينولوجيا، فالعالم كما يستعمله مرلوبونتي ليس هو مفهوم العالم كما نجده لدى كانط، أي كوجود قبلي، وإنما يستعمله بمعنى الوجود الفعلي الواقعي، الذي يختلف كذلك عن مفهوم العالم لدى هوسرل، باعتباره ظاهرة أو مجموعة من الظواهر يطبق عليها منهج الرد الفينومينولوجي[7]، وبذلك فإنّ هوسرل يرجع العالم إلى خبرة الذات بإرجاعه للوعي، بمعنى أنّ معرفة العالم المعيش تستدعي إرجاعه للوعي. على العكس من ذلك فإنّ عالم مرلوبونتي هو العالم الواقعي حيث توجد الذات إلى جانب الآخرين، والآخر هنا ليس موضوعاً للمعرفة، وإنما باعتباره جسداً ووجوداً فعلياً متحققاً في العالم، كما أنه وجود مع الأشياء التي تحمل خصائص معينة أهمها أنّ لها وجوداً فعلياً، وهو ما يسمح بإقامة علاقة معرفية بين الشيء والجسد الذي يعتبر مصدراً للمعرفة[8].
هذه العناصر وغيرها تظهر البعد الوجودي في فلسفة مرلوبونتي، وهو الأمر الذي سيتضح بشكل جلي من خلال مجموعة من المفاهيم أهمها مفهوم الحرية ومفهوم الزمان، فالإنسان حسب مرلوبونتي ليس حراً بشكل مطلق ولا هو مقيد بصورة مقيدة، وإنما هو حر حرية مشروطة بأوضاع وأحوال الوجود في العالم[9]، وبذلك فهو يختلف بشكل واضح عن سارتر حول مسألة الحرية. أمّا فيما يخص الزمان فإنّ الزمان الحقيقي ليس ذلك الذي يتحدث عنه كانط (شرط قيام المعرفة) ولا هو الزمان الواعي ولا الزمان المتعالي، وإنما هو زمان الوجود في العالم[10].
إذن إعطاء الأولوية للوجود في العالم، العالم الواقعي المتجسد كان له تأثير مهم في فلسفة مرلوبونتي، واكبته تحولات كبيرة على مستوى المفاهيم المؤثثة لهذه الفلسفة، وبما أنّ الوجود داخل العالم هو وجود مع الآخرين، كان لا بدّ من وجود نوع من التواصل يكون بمثابة الأساس الذي تقوم عليه العلاقة مع الآخر، لذلك كان اهتمام مرلوبونتي واضحاً باللغة (الكلام)، التي ليست مجرد ترجمة لفكر داخلي وإنما تكملة لوجوده، وهو ما سيترتب عنه الحديث عن الذات المتكلمة الموجودة في العالم مع ذوات متكلمة أخرى[11]. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ مشكلة اللغة والكلام تعيد طرح مسألة علاقة الذات بالموضوع، وهي من أهم المشكلات التي سعت فينومينولوجيا مرلوبونتي إلى تجاوزها حسب الكاتب.
يبدو من خلال ما سبق أنّ المقارنة بين المفاهيم كانت خطوة منهجية ذكية لإظهار مكامن التجاوز في فينومينولوجيا مرلوبونتي، بل الأهم هو المفاهيم التي تمّ اختيارها للمقارنة بينها، وهي ما يشكل المنطلقات في فلسفة مرلوبونتي، فإذا كان هوسرل قد انطلق من الوعي الخالص وإذا كان هيدغر قد انطلق من الوجود المجرد، فإنّ مرلوبونتي سينطلق من الوجود في العالم. هذا الاختلاف في المنطلقات أكيد أنه سيكون مؤثراً على فكر الكاتب بشكل عام.
في الفصل الرابع والأخير يعيد الكاتب طرح القضايا السالفة الذكر، لكن ليس في أفق إظهار أوجه التحول في الفينومينولوجيا، وإنما في أفق إصلاح العقلانية الغربية بشكل عام، انطلاقاً من ديكارت. حيث سيبين الكاتب الكيفية التي دخلت بها الفينومينولوجيا الجديدة في حوار مع العقلانية الغربية، وكيف أرادت أن تفرض وجودها كآلية للتأويل والتفكيك[12]، ولكن هذا لن يتأتى إلا من خلال إظهار المشكلات التي وقعت فيها الفينومينولوجيا. وبغرض إظهار أنّ مشروع مرلوبونتي كان يروم إصلاح العقلانية الغربية بشكل عام، فقد قام بمقارنته بمعظم فلاسفة الحداثة انطلاقاً من ديكارت وصولاً إلى هوسرل مروراً بكانط وهيغل.
كما أنّ مسألة إصلاح العقلانية الغربية جعلت فينومينولوجيا مرلوبونتي تنخرط في الحوار الدائر حول علوم الإنسان، كما أنها استفادت بشكل كبير من هذه العلوم، خاصة علم النفس وعلم الاجتماع، بالإضافة إلى أنها قد دخلت في حوار مع التصورات الكلاسيكية للتاريخ خاصة الماركسية.
من خلال كلّ ما سبق يمكن القول إنّ قراءة الكاتب لفلسفة مرلوبونتي من خلال ما يسميه مناظرة بين هوسرل وهايدغر كان لها على الأقل هدفان اثنان؛ فقد سعت إلى إظهار أصالتها من جهة، لا باعتبارها نسخاً لفينومينولوجيا هوسرل، وإنما باعتبارها فينومينولوجيا جديدة. ومن جهة ثانية فقد سعى إلى التأكيد على أنّ مرلوبونتي قد اكتشف في فينومينولوجيا هوسرل ما لم يستطع هايدغر اكتشافه[13]، وهو ما سمح له بدراسة موضوعات جديدة لم تدرس لا في فلسفة هوسرل ولا في فلسفة هايدغر. وهو ما يشكل في نظر الكاتب تحولاً مهماً في مسار الفينومينولوجيا المعاصرة.
ملاحظات:
في الأخير لا بدّ من الإقرار بأنّ الكاتب كان موفقاً إلى حد كبير في إظهار أوجه التحول في فلسفة مرلوبونتي، أو كما يسميها الفينومينولوجيا الجديدة، لكنّ هذا لا يمنعنا من طرح بعض القضايا التي نرى أنه لا بدّ من الإشارة إليها، ولو بشكل عابر قصد لفت النظر إليها، وهي كالتالي:
سننطلق من فكرة التجاوز التي يبدو أنها شكلت الهاجس الذي حرك الكاتب على طول مسار الكتاب، وهنا فإننا نتحفظ على المفهوم، لأنّ التجاوز قد يفهم بمعنى القطيعة، وهذا ما لا ينطبق على علاقة فينومينولوجيا مرلوبونتي بفينومينولوجيا كلٍّ من هوسرل وهايدغر، صحيح أنّ هناك اختلافاً في المنطلقات، كما أنّ هناك نقداً صريحاً لفلسفة هوسرل خصوصاً، إلا أنّ مرلوبونتي استفاد كثيراً من أفكار هوسرل وهايدغر، كما استفاد من فلاسفة آخرين (الأمر الذي يقرّ به الكاتب في أحيان كثيرة، فمثلاً في الصفحة 102 الفقرة 2 يؤكد على أنّ فينومينولوجيا مرلوبونتي هي تأليف بين فينومينولوجيا المعرفة وفينومينولوجيا الكينونة)، وهذا هو المسار الطبيعي لكلّ فلسفة جادة، وهنا استحضر استعارة جميلة لنتشه في كتابه الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي حيث يقول عن اليونانيين في علاقتهم بالشعوب الأخرى: "إنهم عرفوا أن يلتقطوا الرمح من حيث تركه شعب آخر، لكي يلقوا به إلى أبعد"[14]، هذا ربما ينطبق على فينومينولوجيا مرلوبونتي، فأستاذ النحث لا يعلم تلاميذه كلّ شيء حول هذا الفن، وإنما فقط المبادئ الأساسية، لكن هذا لا يعني أنّ كل تلامذته سيقفون عند حدود ما قدمه، بل لا بدّ من وجود أفكار مبدعة ومجددة، فهل ما سيقوم به التلميذ هو تجاوز لمعلمه، أم أنه مجرد تطوير وتجديد للفن ذاته؟
إنّ إصرار هوسرل على جعل الفلسفة علماً صارماً[15]، دفعه لابتكار منهج يمكن من خلاله تحصيل معارف دقيقة بالظواهر، وهو المنهج الفينومينولوجي الذي يجعل من الملاحظة والوصف أهم منطلقاته، إذن لا بدّ أن نأخذ بالحسبان أنّ الفينومينولوجيا كما نظر لها هوسرل هي منهج وليست مذهباً[16]، وكما نعلم أنّ لكل علم موضوع يختص به ومنهج يحصّل من خلاله معرفة دقيقة بهذا الموضوع، وهنا نلاحظ أنّ مرلوبونتي قد حافظ على وظيفة الفينومينولوجيا وهي الوصف، كما أنه حافظ على مجموعة من المقولات الأساسية في فينومينولوجيا هوسرل، وأهمها القصدية.
على هذا الأسا