حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 هل التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية؟

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سالم
ثـــــــــــــــائر منضبط
ثـــــــــــــــائر منضبط
سالم


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 396
معدل التفوق : 1140
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

هل التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية؟ Empty
25122013
مُساهمةهل التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية؟

هل التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية؟ Arton11137-d6acd
على هامش كتابين متمحورين حول الثورة الفرنسية لدانييل مورنيه وروجيه شارتييه بعنوانين متشابهين بل ومتطابقين تقريبا:

الأصول الفكرية للثورة الفرنسية(فيما يخص الأول)

والأصول الثقافية للثورة الفرنسية(فيما يخص الثاني).

Daniel Mornet :Les origines intellectuelles de la Révolution française(1933)

Roger Chartier : Les origines culturelles de la Révolution française(1991)

يهدف هذا البحث الى ايضاح اشكالية واحدة محددة بدقة: نوعية العلاقة التي تربط بين الفكر والثورات، أو بين التغيير الفكري والتغيير السياسي. وبداية أود طرح هذا السؤال:هل فكر التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية،أم أن الثورة الفرنسية هي التي صنعت عصر التنوير بشكل اسقاطي واسترجاعي؟ بمعنى آخر:هل الثورة الفكرية هي التي تصنع الثورة السياسية أم العكس؟ الأطروحة السائدة في كل فرنسا هي أنه لولا التنوير لما كانت الثورة الفرنسية.وقد لخص هذه الأطروحة بشكل رائع المؤرخ دانييل مورنيه في كتابه الشهير الذي أصبح كلاسيكيا الآن: “الأصول الفكرية للثورة الفرنسية”[1]. كان هذا الكتاب قد صدر لأول مرة عام 1933 ، أي قبل ثمانين عاما تقريبا. ثم أعيدت طباعته مرات عديدة كان آخرها عام 2010. وفيه يقول المؤلف بأنه لولا الثورة الفكرية التي أحدثها فلاسفة التنوير في العقول لما كانت الثورة الفرنسية.في الواقع أن هذه الأطروحة تعتبر بمثابة بدهية أو تحصيل حاصل بالنسبة لمثقفي فرنسا. وبالتالي فمجرد طرحي لهذا السؤال في عنوان المقال يعتبر استفزازا ما بعده استفزاز. فالتنوير هو الذي فكك مشروعية الكنيسة الكاثوليكية وكل الأفكار الطائفية المتعصبة التي كانت تبثها في المجتمع. ولولا هذا التفكيك لما استطاعت الثورة الفرنسية أن تطيح بالنظام الملكي الاستبدادي المطلق الذي كان يستمد مشروعيته من هذه الكنيسة بالذات. فهي التي كانت تخلع عليه المشروعية الإلهية وتقنع جماهير الفرنسيين بتقديم الطاعة له والخضوع لمشيئته رغم كلّ تعسفه واستبداده. انظر دور رجال الدين في تخدير عامة الناس وجعلهم يقبلون بالظلم والقهر عن طريق استخدام ترسانة كبيرة من المواعظ الدينية والحيل اللاهوتية. وبالتالي فالتغيير لم ينجح سياسيا الا بعد أن نجح فكريا. وهذا كلام منطقي لا غبار عليه. هل يمكن انجاز ثورات حديثة بعقول قديمة؟ ولكن البرهنة عليه تطلبت من المؤلف القيام بأبحاث ضخمة ومعمقة استغرقت سنوات عديدة. لقد تطلبت منه تأليف كتاب ضخم يتجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير(بالمناسبة لا أعرف لماذا لم يترجم الى العربية حتى الآن؟ هذا وقته!).


ولكن هاهو مؤرخ جديد يظهر في فرنسا لا لكي ينقض أطروحة مورنيه الراسخة، وإنما لكي يجري عليها بعض التعديلات المهمة وبالأخص لكي يسلط على الاشكالية بعض الأضواء الجديدة. وهذه هي ميزة البحث العلمي:انه يتقدم باستمرار الى الأمام ويكتشف أشياء جديدة لم تكن ملحوظة في السابق أو لم تكن مرئية. الأطروحة الكلاسيكية تقول كما ذكرنا بأن فلسفة التنوير ولّدت الثورة الفرنسية كما يولد السبب النتيجة أو الدجاجة البيضة: أي بشكل مباشر وحتمي. يرى هذا الباحث الجديد[2] المتأثر بفكر ميشيل فوكو بأننا وان كنا لا نستطيع انكار العلاقة بين التنوير والثورة الكبرى الا أنه ينبغي تعديل النظرية الكلاسيكية شيئا ما بناء على آخر مكتسبات فلسفة العلوم التاريخية(الابيستمولوجيا التاريخية). وأهم هذه المكتسبات هو أن مشكلة الأصول والسببية لم تعد تطرح بنفس الحدية أو الحتمية التي كانت تطرح بها في القرن التاسع عشر أو حتى في النصف الأول من القرن العشرين. نقصد بذلك أن ارتباط الحدث السياسي(أي الثورة الفرنسية) بالأسباب أو الأصول الفلسفية التنويرية لم يعد مباشرا ولا حتميا ولا خطيا كما كان يتوهم المؤرخون السابقون. لماذا؟ لأن للحدث التدشيني (وبخاصة اذا كان كبيرا وضخما كالثورة الفرنسية) بداهته الأولية أو ابتكاريته الأصلية أو فرادته الذاتية التي لا يشبهها أي شيء سابق أو لاحق. ان الحدث التاريخي الكبير يشبه القطيعة التي تحصل فجأة في مسار التاريخ فتفصل ما كان عما سيكون. الثورة الفرنسية انفجرت كالزلزال أو كالبركان ولا يمكن اختزالها الى أي شيء آخر. لا يمكن اختزالها كليا الى أسباب أو أصول سابقة عليها. يضاف الى ذلك أن الثورة الفرنسية هي التي شكلت عصر التنوير وصاغته بقدر ما شكلها هو وصاغها. هناك علاقة جدلية بين الطرفين لا علاقة أحادية. لقد شكلته بشكل استرجاعي واسقاطي من أجل ايجاد المبرر الثقافي لذاتها. لقد أرادت أن تخلع المشروعية على ذاتها فلم تجد أفضل من التنوير كفلسفة فعالة وقادرة على مواجهة المشروعية الراسخة للكنيسة الكاثوليكية التي كانت تكره الثورة كره النجوس وتحاول اجهاضها بأي شكل. لهذا السبب بالذات فان فلسفة الأنوار شكلت صورة مثالية رائعة عن عصر التنوير وبالأخص عن شخصيات من أمثال فولتير وروسو ومونتسكيو وديدرو والموسوعيين الخ. وراحت تستخدم شهرتهم ومصداقيتهم لمواجهة أعدائها. وهذا شيء طبيعي: فالحرب تكون ايديولوجية أيضا وليس فقط عسكرية أو جسدية. والحرب بين المشروعية المسيحية السابقة والمشروعية الفلسفية اللاحقة كانت ضارية بكل معاني الكلمة. وهكذا استطاعت الثورة الفرنسية أن تجد مفكرين كبارا ذوي وزن، مفكرين قادرين بشهرتهم الضخمة على مواجهة مطران باريس(قرضاوي العرب!) وكل أقطاب المشروعية التقليدية التي ظلت راسخة حتى بعد اندلاع الثورة. كيف لا وهي التي تشكل هوية فرنسا التاريخية على مدار أكثر من خمسة عشر قرنا من الزمن. ففرنسا هي “البنت الكبرى للكنيسة الكاثوليكية” كما يقال عادة. وقد ظل لهذه الكنيسة ذات المشروعية المقدسة والضخمة أنصار كثيرون معادون للثورة ويريدون الاطاحة بها في أقرب فرصة ممكنة. وبالتالي فالمعركة بين الطرفين لم تكن فقط جسدية أوقصة حياة أو موت. وانما كانت أيضا ثقافية رمزية: أي مرجعية ضد مرجعية، مرجعية رجال الدين المسيحي وعلى رأسهم البابا والمطران مقابل مرجعية فولتير أو روسو أو مونتسكيو أو عباقرة التنوير كلهم. نعم لقد كانت معركة المرجعيات: مرجعية قديمة راسخة رسوخ الجبال،ضد مشروعية حديثة صاعدة واعدة ولكنها لما تترسخ بعد. وقد استغرق هذا الصراع قرنا كاملا بعد الثورة قبل أن يخضع الحزب الكاثوليكي للأمر الواقع في نهاية المطاف ويعترف بالنظام الجمهوري الجديد المتولد عن الثورة. وبالتالي فالقصة ليست سهلة على الاطلاق. نستنتج من ذلك أنه اذا كان فلاسفة التنوير هم الذين صنعوا الثورة، فإن الثورة هي التي صنعت أيضا في خط الرجعة فلاسفة التنوير. كيف؟ عن طريق نشر صورهم على أوسع نطاق وبخاصة صور روسو وفولتير، بل ورفع كتاب روسو “العقد الاجتماعي” على رؤوس الأشهاد بصفته انجيلا للثورة. فمنه استمدت روح ذلك الاعلان الشهير لحقوق الانسان والمواطن. وهو الاعلان الذي قدمته الثورة الفرنسية كهدية للعالم أجمع ولا تزال فرنسا تفتخر به حتى الآن. نقول ذلك رغم أنها خانته وانحرفت عنه أكثر من مرة وبخاصة ابان فترة الاستعمار. ولكن هذه قصة أخرى تستحق معالجة مستقلة. واذن فإن الثورة الفرنسية هي التي شكلت أسطورة فلاسفة التنوير وهي التي ثبتت صورتهم بشكل مثالي رائع في الوعي الجماعي الجديد للأجيال القادمة.

هذا هو ملخص أطروحة روجيه شارتييه، وهذه هي الإضافة التي قدمها قياسا الى كتاب مورنيه الذي ظهر قبل ستين سنة من كتابه.والآن ماذا يمكن أن نقول عن أطروحته التي سوف تتضح أبعادها أكثر فأكثر على مدار هذا الحديث؟ على الرغم من جاذبية هذه النظرية الحديثة المعتمدة على علم الابيستمولوجيا التاريخية لميشيل فوكو(أي فلسفة المعرفة التاريخية أو فلسفة علم التاريخ) الا أنها لا تنقض أطروحة مورنيه وإنما تكملها. فعلى الرغم من جانب الصحة الذي تنطوي عليه هذه النظرية الجديدة، إلا أنه لا يمكن انكار الدور الكبير الذي لعبه فلاسفة عصر التنوير في التمهيد للثورة الفرنسية. وهنا يكمن عمل مورنيه الأساسي. فقد كشف بكل جلاء عن عظمة فلاسفة التنوير وأهمية الثورة الفكرية التي أحدثوها في العقول والتي سبقت اندلاع الثورة السياسية. والواقع أن روجيه شارتييه لا ينكر ذلك. بل وهذه هي النتيجة التي توصل اليها في نهاية المطاف بعد لف ودوران طويلين. لكن العلاقة بين الطرفين(أي التنوير والثورة) لم تعد أحادية الجانب كما قلنا. ولم تعد مباشرة جدا أو خطية كما كانت تتوهم النظرية الكلاسيكية لمورنيه وإنما أصبحت علاقة جدلية متبادلة.لقد أصبحت عبارة عن تفاعل جدلي خلاق يحصل داخل نفس الصيرورة الكبرى لحركة التاريخ.ماذا يعني كل ذلك؟ انه يعني أن فلسفة التنوير والثورة الفرنسية كلتيهما مندمجتان داخل نفس الحركة الكبرى للتاريخ: أي حركة العصور الحديثة التي لا تقهر ولا ترد. وقد تنبه الى ذلك الناقد الأدبي الفرنسي هيبوليت تين على الرغم من أنه كان أحد أعداء الثورة الفرنسية. فقد كان محافظا من الناحية السياسية ومدافعا عن النظام الملكي الكاثوليكي القديم. ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون نافذ البصر من الناحية الفكرية وقادرا على رصد حركة التاريخ بشكل موضوعي.وهذا يشبه موقف الروائي العظيم بلزاك الذي كان محافظا على الصعيد الشخصي ومؤيدا للنظام الملكي، ولكنه كان تقدميا على الصعيد الروائي. يقول هذا الناقد الكبير، إحدى مرجعيات طه حسين، في كتابه المعروف “العهد القديم:أصول فرنسا المعاصرة”(1876):

“ينبغي العلم بأن بوالو وديكارت ولوميتر ودو ساسي وكورني وراسين وفليشييه الخ هم أسلاف قادة الثورة الفرنسية من أمثال سان جوست وروبسبيير. واذا كان هؤلاء الأدباء والمفكرون يبدون لنا الآن عقلاء وهادئين وأبعد ما يكونون عن روح الثورة والانقلابات العنيفة،فان هذا مظهر خادع. فالواقع أن الشيء الذي كان يمنعهم من الثورة على الأوضاع القائمة هو أن العقيدة الملكية والدينية المسيحية كانت راسخة في العقول في زمنهم. ولكن ما ان أصبحت هذه العقيدة بالية مستهلكة بسبب أخطائها وتجاوزاتها الفاحشة، وما ان استطاعت الرؤيا العلمية للعالم أن تفككها وتقلبها عن طريق استيراد نيوتن من انكلترا على يد فولتير،حتى آتت الروح الجديدة بالضرورة ثمارها: أي نظرية الانسان الطبيعي المجرد ،والعقد الاجتماعي[3].”.

وإذن فان روح الثورة الفرنسية لا تعود فقط الى الأنوار بالمعنى الحرفي للكلمة(أي القرن الثامن عشر)، وإنما تعود الى زمن أبعد من ذلك بكثير. انها تعود الى لحظة ديكارت بالذات؟ ولكن أليس ديكارت هو مؤسس الأنوار كلها؟ألم يخرجوا جميعا من معطفه؟ نعم ان ديكارت هو أبو الثورة الفرنسية بحسب هذا المنظور تماما مثل فولتير أو روسو، أو قل ان الأسباب البعيدة للثورة الفرنسية تعود الى القرن السابع عشر، والأسباب القريبة المباشرة الى القرن الثامن عشر. فعصر ديكارت لم يكن يسمح بتجاوز حد معين من الشك والتشكيك.كانت العقيدة المسيحية الكاثوليكية تشكل خطا أحمر لا يمكن لأحد أن يقترب منه اللهم الا اذا قرر المجازفة بحياته. وبالتالي فان ما لم يقله ديكارت عن هذه النقطة الحساسة أهم بكثير مما قاله بحسب رأي البعض. فقد كان يتبع مذهب الحيطة والحذر والتقية لحماية نفسه. ولذلك فانه فصل بين دائرتين فيما يخص تطبيق منهجية الشك التي اكتشفها: الأولى هي دائرة “الحقائق الإيمانية التي لا ينبغي للشك المنهجي أن يقترب منها على الاطلاق. فهي فوق النقاش وفوق التساؤل وفوق النقد. وأما ما تبقى من عقائد وأفكار ورثها عن بيئته وطفولته ومدرسته اليسوعية فيمكن للشك المنهجي أن يضعها على محكه ويغربلها غربلة دقيقة ويمحصها بغية فرز الخاطئ عن الصحيح فيها. ولذلك تظاهر بأنه يحترم عقائد بلاده ويطيع عاداتها وتقاليدها.هذا ما أعلنه صراحة لكي”يحلّوا عن ربه“ويتركوه يفكر ويشتغل بسلام.كان يعرف في قرارة نفسه أنه يبلور عقيدة فلسفية رهيبة سوف تطيح بكل ما هو موجود يوما ما. ولكنه ما كان قادرا على التصريح بذلك علنا.ولذلك قال أحدهم عنه:ديكارت كشخص كان حذرا جدا بل وجبانا. ولكن الفلسفة الديكارتية التي بلورها كانت جريئة جدا بل ومتهورة. والواقع أنه حاول بكل الوسائل اظهار نفسه كشخص تقي نقي يحترم الدين بكل عقائده وطقوسه. بل وحلف بأغلظ الايمان بأنه ملتزم كليا بالأرثوذكسية الدينية المسيحية الكاثوليكية.وكل ذلك لكي يحمي نفسه من الاغتيال أولا، ثم لكي يضمن نجاح ثورته العلمية والفكرية ثانيا. فقد كانت أعز عليه من روحه. وهذه سمة كل العظماء في التاريخ. انهم لا يبحثون عن اطالة عمرهم بغية الاستمتاع بالحياة فقط، وإنما بالدرجة الاولى من أجل أن يتاح لهم الوقت الكافي لبلورة نظريتهم وإحداث ضربتهم الفلسفية الكبرى. أما بعد ذلك فليموتوا، لا بأس..كان أكبر شيء يخشاه هو أن يموت قبل أن يتمكن من وضع نظريته. ولكن ديكارت أفصح عن نواياه الحقيقية في رسالة خاصة الى صديقه بورمان حيث يقول ما معناه: لقد كنت مجبرا على التصريح بذلك لأني كنت خائفا أن يقولوا بأني رجل بلا دين ولا ايمان. وأخشى ما أخشاه أن يعتقدوا بأني أريد هدم الدين والإيمان بمنهجيتي هذه..

والواقع أنه في القرن السابع عشر ما كان ممكنا اطلاقا التشكيك بالعقائد الدينية اللهم الا اذا كان الانسان مجنونا تماما. لم تكن الظروف قد نضجت للقيام بهذه العملية الجراحية الشديدة الخطورة. ولكن في القرن الثامن عشر،أي عصر فولتير، فإن ذلك أصبح ممكنا. ومع ذلك فان فولتير نفسه كان- عندما تحمر عليه الأعين- يتظاهر بالإيمان والتقى والورع لكي ينجو بجلده. ولكن وقته مع ذلك كان أفضل من وقت ديكارت حيث تفصل بينهما مسافة مائة سنة على الأقل. وبالتالي فحرية التفكير توسعت أكثر بطبيعة الحال. ولذا فالدائرة الأولى(أي دائرة العقائد الايمانية)أصبحت هي الأخرى أيضا خاضعة للنقد والشك المنهجي. بمعنى آخر فان ما كان مستحيلا التفكير فيه في عصر ديكارت أصبح ممكنا التفكير فيه في عصر فولتير وكانط وديدرو وروسو..فقد تشكل في القرن الثامن عشر”فضاء عام“بحسب تعبير الفيلسوف الألماني المعاصر يورغين هابرماس. وأتاح هذا الفضاء العام للمفكرين أن يتناقشوا فيما بينهم بحرية وأن يعالجوا أهم القضايا وأخطرها بما فيها القضايا التي تخص المسألة الدينية والمشروعية السياسية والمشاكل الطائفية التي تمزق المجتمع والوحدة الوطنية.وهذا الفضاء العام الحر يختلف عن البلاط الملكي ودائرة السلطة العامة من جهة،كما ويختلف عن دائرة الشعب أو”العوام“من جهة أخرى. لماذا؟ لأن الشعب كان أميا في معظمه وبالتالي غير قادر على الارتفاع الى مستوى المناقشة النقدية والعقلانية للأمور. ولهذا السبب دعا هابرماس هذا الفضاء الثقافي الجديد: بالفضاء العام البورجوازي. وذلك لأن أصحابه ما كانوا ينتمون إلى دائرة الطبقة الارستقراطية العليا والبلاط الملكي كما ذكرنا(السلطة وأبناء العائلات الاقطاعية: أعلى السلم الاجتماعي)، ولا الى دائرة الشعب والفلاحين والفقراء وهم أغلبية الشعب آنذاك(أسفل السلم الاجتماعي). وإنما كانوا ينتمون الى دائرة الطبقة الوسطى من سكان المدن: أي البورجوازيين بالمعنى الحرفي للكلمة[4] لا بالمعنى الاصطلاحي والايديولوجي الذي ساد فيما بعد.فكلمة بورجوازي في اللغات الأوروبية متولدة عن بورج: أي مدينة. وسكان المدن هؤلاء كانوا من الطبقة الوسطى كما ذكرنا و يمارسون المهن الحرة أو الليبرالية. وكانوا متعلمين ومثقفين على عكس الشعب.وكانت هذه الدائرة السياسية العامة والبورجوازية متولدة مباشرة عن الدائرة الأدبية بكل صالوناتها ومقاهيها وجرائدها..وكانت هذه الأماكن تضج بالمناقشات والمجادلات الفكرية والأدبية والسياسية وسواها: تماما مثل مقهى الهافانا في دمشق أيام زمان…ويقدم هابرماس تعريفه لهذه الدائرة بقوله:”إن الدائرة العامة البورجوازية يمكن اعتبارها أولا وقبل كل شيء بمثابة دائرة الأشخاص الخصوصيين أي العاديين وغير الرسميين الذين يجتمعون في مكان ما وبشكل علني للتسامر والتحاور فيما بينهم“[5]. وهذه الدائرة العامة السياسية أو البورجوازية يتميز أفرادها بالاستخدام العلني للعقل من أجل مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية ويتخذون عادة مواقف نقدية من السلطة. ولهذا السبب يمكن أن ندعوها بالدائرة العلنية أيضا ولكننا فضلنا استخدام كلمة العامة أو العمومية لأنها مضادة لكلمة الخاصة. ومعلوم أن حياة الانسان مقسومة الى قسمين: الحياة الخاصة أي العائلية الحميمية مع زوجته وأولاده، والحياة العامة مع الناس حيث يخرج الى العمل أو يساهم في نشاطات ومناقشات خارج حدود البيت وتخص الجماعة أو المجتمع. أيا يكن من أمر فإن هذه الدائرة السياسية العامة والعلنية لا السرية أو الشخصية أخذت في التبلور والتشكل في أوروبا بدءا من النصف الثاني للقرن الثامن عشر: أي في عزّ عصر التنوير. وهي التي أدت فيما بعد الى تشكيل الرأي العام كما هو معروف حاليا في المجتمعات الاوروبية المتقدمة والذي يخشاه الحكام أشد الخشية ويحسبون له الحساب على عكس الحكام العرب (ما قبل الربيع العربي على الأقل). وهذه الدائرة العلنية ابان تشكلها لم تكن خاضعة لسلطة الملك،ولم تكن تتقيد بالمراتبيات الهرمية للعهد القديم: أي لم تكن تقيم وزنا لتقسيم المجتمع الى طبقة النبلاء، وطبقة الاكليروس، وطبقة الشعب في أسفل السلم الهرمي. لم تكن تنظر الى المشاركين في النقاش على أساس أن هذا ابن ست وذاك ابن جارية، أو هذا”ابن عائلة“كما يقال عندنا وذاك ابن صعاليك اذا جاز التعبير. لا، أبدا.كان الجميع متساوين لا يفرق بينهم إلا مدى جدارتهم وألمعيتهم وبراعتهم في النقاش ومقدرتهم على استخدام ملكة العقل النقدية. وبالتالي فعامل النبالة أو الارستقراطية الوراثية الذي كان يحكم فرنسا ما قبل الثورة لم يكن يلعب أي دور هنا. لقد تم إلغاؤه قصدا لكي تفضح البورجوازية قيم الطبقة الارستقراطية القائمة على الكسل والوراثة لا على الميزات الشخصية للفرد. ومعلوم أنه كان يكفي في العهد القديم السابق على الثورة الفرنسية أن تكون ابن عائلة لكي تحتل أعلى المراكز في المجتمع حتى ولو كنت تافها بليدا. أما الطبقة البورجوازية فقد أسست قيما جديدة مختلفة كليا.لم يعد رأي المرء مهما لأنه ابن عائلة ارستقراطية كبيرة وإنما لأنه ذكي أو مفكر أو عاقل أو نزيه يكرس جهوده لخدمة المجتمع والارتقاء به. من هنا الطابع الديناميكي والتقدمي الهائل للطبقة البورجوازية في ذلك الوقت والذي أثنى عليه كارل ماركس. بعدئذ سوف تصبح محافظة ولكن ليس الآن. أيا يكن من أمر فإن عصر التنوير والثورة الفرنسية، كليهما، كانا تتويجا لحركة تاريخية واسعة وطويلة الأمد استغرقت عدة قرون. إنها حركة روحية وسياسية واقتصادية واجتماعية تحررية ابتدأ نجمها يبزغ في أوروبا منذ بدايات عصر النهضة. ثم أخذت تمتد وتنتشر وتتفاعل حتى توجت بالثورة الفرنسية عام 1789. ولهذا السبب قال المؤرخ الفرنسي المعاصر ألفونس دوبرون ما يلي:

”ان عالم الأنوار والثورة الفرنسية هما حدثان متمايزان ومترابطان في آن. إنهما عبارة عن تجليين(أو ظاهرتين عرضيتين)عن صيرورة أكثر كلية وشمولية: أقصد الصيرورة التي أدت الى ظهور مجتمع يتمتع أفراده بالاستقلالية الذاتية. ونقصد بها استقلاليتهم عن الأساطير والأديان أو تحرّرهم منها(بالمعنى التقليدي للكلمة).انها الصيرورة التاريخية الكبرى التي أدت الى ظهور مجتمع “حديث”: أي متحرر من الماضي والتراكمات والتقاليد الموروثة.انه مجتمع الحاضر: أي الحاضر المنفتح كليا على المستقبل والذي يدير ظهره للماضي. وبالتالي فالعلاقات الحقيقية بين ظاهرتي التنوير والثورة الفرنسية، أقصد علاقات السبب بالنتيجة، تتلخص في تبعيتهما المشتركة لهذه الصيرورة التاريخية الكبرى التي تحتضنهما معا والتي هي أكثر اتساعا وشمولية منهما كليهما“[6]

ثم يفسر كلامه بشكل أوضح اذ يقول ما معناه: ليست الثورة الفرنسية صورة طبق الأصل عن فلسفة التنوير كما قد نتوهم…الشيء المهم فيما يخص هذه النقطة هو دمج الثورة الفرنسية وفلسفة التنوير، كليهما، داخل مجرى التطور التاريخي الأوروبي الأكثر اتساعا.وهذا المجرى التاريخي أو الحركة التاريخية الصاعدة هي التي تمثل الثورة الحقيقية. ماذا تعني هذه الصيرورة التاريخية العامة؟ إنها تعني أساسا الانتقال من الشبكة الأسطورية التقليدية(أي أسطورية الدين والمقدسات المسيحية والهيبة الدينية والسياسية المرتبطة بهما)، الى شبكة أسطورية جديدة وإيمان مشترك ومنبعث من رقاده: هو ايمان الحداثة العلمانية المتحررة من الكهنوت المسيحي والمستقلة عنه كليا. وأكثر مبادئ هذا الايمان الجديد أو المتجدد صرامة هو عدم رغبته في أن يكون أسطوريا، أو عدم وعيه بأنه يشكل أسطورة جديدة بدوره.

ماذا يعني هذا الكلام العميق؟ باختصار شديد: انه يعني أننا انتقلنا من أسطورة الدين الى أسطورة التنوير، أو من مقدس المسيحية الى مقدس الحداثة والعلمانية.وما بينهما تكمن القطيعة الابيستمولوجية والسياسية الكبرى التي لم تتحقق حتى الآن الا في نطاق الحضارة الاوروبية. التنوير كان يمثل القطيعة الابيستمولوجية أي الفكرية والمعرفية العميقة. والثورة الفرنسية كانت تمثل القطيعة السياسية مع العالم القديم. وكلاهما متولد عن ظاهرة أضخم وأكبر بكثير:هي ظاهرة العصور الحديثة التي ابتدأت منذ عصر النهضة والتي استطاعت القضاء على العصور الوسطى المسيحية أو التحرر من براثنها..واذن فيمكن القول إن الحدث السياسي الأكثر أهمية في العصور الحديثة(أي الثورة الفرنسية) كان نتاج عوامل عديدة مباشرة وغير مباشرة، قريبة وبعيدة. وبالتالي فيمكن ارجاعه الى عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وليس فقط الى عصر ديكارت في السابع عشر..لقد لزم أربعة قرون من الاستيقاظ الفكري والنقد التفكيكي للعقائد اللاهوتية المقدسة لكي تصبح الثورة الفرنسية العلمانية أمرا ممكن الحصول. القصة طويلة…
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

هل التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية؟ :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

هل التنوير هو الذي صنع الثورة الفرنسية؟

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المدونات العامة-
انتقل الى: