لا يخفي الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر ميوله الدينية الواضحة، فهو
مسيحي ملتزم كان يمارس الوعظ أثناء وجوده في الرئاسة في كنيسة قريبة من
البيت الأبيض، ورغم تكريسه نشاطه لحقوق الإنسان والديمقراطية في الوقت
الراهن، فإنه لم ينقطع عن متابعة دروسه الكنسية. ورغم ذلك يؤكد كارتر في
كتابه الجديد Our endangered values, America's Moral Crisis " قيمنا التي
في خطر، الأزمة الأخلاقية لأمريكا"، أنه ينتمي إلى جيل من السياسيين الذين
كان من بين اهتماماتهم الأخلاقية فصل الدين عن الدولة تماما. وكارتر هو
الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة(1977-1981)، وهو الرئيس
الديمقراطي الذي اعتمد كثيرا على الجمهوريين في بعض توجهاته التي اعتبرها
الديمقراطيون وقتها محافظة. لكنه يفتح النار في هذ الكتاب على التوجهات
اليمينية التي باتت تسيطر على السياسة الأمريكية مستخدمة شعارات دينية
تارة ويمينية تارة لترويج مصالح سياسية، ويرى أنها غريبة على الأخلاق
الأمريكية ولا تخدم المصالح الوطنية للولايات المتحدة. يقع الكتاب في في
مئتين واثنتي عشرة صفحة من القطع المتوسط ويضم سبعة عشر فصلا تتعرض
للمسائل الخلافية التي باتت تهيمن على الساحة السياسية الأمريكية، ويعدد
كارتر في مقدمة الكتاب القضايا الخلافية التي باتت تسيطر على الولايات
المتحدة مثل الإجهاض والدين والدولة والانتشار النووي وعقوبة الاعدام
والمثلية الجنسية والحرب على الإرهاب.
صعود الأصولية ويرى
كارتر أن أحد الأسباب التي ساهمت في هذا التراجع الواسع عن القيم الأساسية
للمجتمع الأمريكي، يتمثل في هجمات الحادي عشر من سبتمبر؟ لكنه يؤرخ لصعود
الأصولية الدينية بما حدث في أعقاب الثورة الإيرانية، ويشير إلى أن مفهوم
الأصولية لدى قادة الكنيسة المعمدانية التي ينتمي إليها كان يعني
"الالتزام بالمبادئ الأصلية للعقيدة وعدم تغييرها تحت ضغوط العالم
الحديث". لكن ما حدث أن الوقت الراهن أفرز صيغا أكثر تشددا من الأصولية
تتقاسم فيما بينها ثلاث سمات هي : إقصاء الآخر، والسيطرة والتصلب. ويحذر
كارتر من أن "الأصوليين" في الولايات المتحدة بات لهم نفوذ متزايد في
الدين والحكومة وأن الجماعات الدينية والسياسية المحافظة لم تأل جهدا
لتجاوز الهوة التي كانت تفصل بين الدين والدولة ، خاصة المحافظين الجدد
الذين"لا يتوقفون عن تطبيق سياستهم الفاشلة محليا ودوليا". ويرى كارتر أن
هذا التوجه بات يهدد الفصل بين السلطات الثلاث في الولايات المتحدة:
السياسية والتشريعية والقضائية كما يهدد صورة الولايات المتحدة خارجيا،
بسبب ما يتبناه المتشددون من طروحات لا تعبأ بالقانون الدولي وتفضل
المصالح "الاستعمارية" على المصالح "الوطنية". المحافظون الجدد والمسيحية
المتطرفةويخصص كارتر الفصل العاشر في كتابه تحت عنوان "الأصولية في
الحكومة" الأمريكية مشيرا إلى أن القيادات الجمهورية في الكونجرس والإدارة
التي يسيطر على المراكز الرئيسية فيها "المحافظون الجدد" ويضرب مثالا على
ذلك جون بولتون السفير الذي أرسله الرئيس الأمريكي مندوبا للولايات
المتحدة في الأمم المتحدة رغم مواقفه الساخرة من القانون الدولي ورغم
معارضة الكونجرس. يقول كارتر إن مصطلح "المحافظون الجدد" أو "النيو
كوزيرفاتيف" بات يشير إلى الطبقة السياسية التي شكلت فلسفة الحكومة
الأمريكية الحالية. ويعني المصطلح حسب المعني القاموسي الحديث نسبيا "
الأشخاص الليبراليون (سابقا) الذين اعتنقوا صيغة محافظة متواضعة، أو
المحدثين في التيار المحافظ" . هذه الطبقة لا تحمل أي ولاء لليبرالية أو
المحافظين في نظره، ففي عهد الرئيس رونالد ريجان كانت تعارض الترويج
للديمقراطية وحقوق الإنسان في أمريكا اللايتينية أو الشرق الأوسط أو غيرها
مفضلة طمأنة الأنظمة الديكتاتورية لضمان تحالفها، بينما باتوا يروجون لنشر
الديمقراطية والتدخل السياسي في الوقت الراهن. أما المسيحيون المتطرفون في
رأي كارتر فقد أصبح لهم تأثير كبير على السياسة الامريكية في الشرق
الأوسط، هؤلاء الذين يعتمدون آيات مختارة من الكتاب المقدس وبالتحديد من
سفر الرؤية تصف كيف ستكون نهاية العالم بعودة المسيح وصعود المؤمنين إلى
النعيم ليشاهدوا من هناك عذاب غير المؤمنين. ويقول الكاتب إن هناك ملايين
يؤمنون بهذه الرؤية لكن المزعج هو حقن هذه الرؤية في السياسات الأمريكية ،
حيث يعتقد المتشدددون المسيحيون أن من مصلحتهم تهيئة الوضع لعودة المنقذ
من خلال حرب في الشرق الأوسط يحصل فيها اليهود على كامل الأراضي المقدسة
ويطردون فيها كل غير اليهود بما فيهم المسيحيون ، بعدها يغزو الكفار تلك
الأرض مرة أخرى قبل أن يحدث نصر أخير للمسيح وأتباعه وفي هذه المرة سيواجه
كل اليهود خيار التنصر أو الحرق.هذه النبوءات كانت سببا ليكون بعض أبرز
القادة المسيحيين في أمريكا في مقدمة المؤيدين للحرب على العراق وقيامهم
بزيارات منتظمة إلى إسرائيل يقدمون خلالها التبرعات ويحشدون لها التأييد
في الداخل الأمريكي لصالح الاستيطان الأمر الذي جعل الإدارة تتخلى عن موقف
أمريكا التقليلدي المعارض للاستيطان في الأراضي الفلسطينية على مدى العقود
الأربعة الماضية، والدافع وراء هؤلاء المتشددين هو فقط تحقيق النبوءة التي
تنطوي في نهايتها على كارثة للفلسطينيين والإسرائيليين.
مهاجمة الإرهاب أم حقوق الإنسان؟ هذا
هو عنوان الفصل الحادي عشر في الكتاب حيث يشير الرئيس الأمريكي الأسبق إلى
التغيرات التي طرأت على مفاهيم الحريات المدنية وحقوق الإنسان في الولايات
المتحدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتبمبر. "في أعقاب الهجمات سارعت
الأجهزة الأمريكية إلى اعتقال 1200 شخصا بريئا في الأراضي الأمريكية
معظمهم من العرب والمسلمين دون توجيه اتهامات لهم ودون أن يكون لهم أي
علاقة بأنشطة إجرامية أو إرهابية .. لقد حرمتهم من الحصول على النصيحة
القانونية، وأجبرت بعضهم على مغادرة أمريكية. ولكي تبرر هذه الإجراءات
سارعت الإدارة إلى فرض قانون الحماية الوطنية الذي يعتبره كثيرون انتقاصا
للحريات المدنية". ويندد كارتر بشدة بالانتهاكات التي شهدتها المعتقلات
الأمريكية في جوانتانامو وأبو غريب ويرى في الفصل الأخير أن الولايات
المتحدة قد أصبحت القوة الأعظم عالميا دون منازع في الوقت الراهن ورغم ذلك
فإنها تواصل زيادة نفقاتها العسكرية التي تتجاوز حاليا 400 مليار دولار في
العام. لكن ما يتعين على أمريكا فعله حسبما يقول كارتر هو اتخاذ مواقف
مناهضة للحروب ومؤيدة لحل النزاعات بالطرق السلمية وأن تكون في مقدمة من
يمد يد العون للمحتاجين، أما الأمريكيين فعليهم النضال من أجل الحفاظ على
القيم الدينية والأخلاقية التي ناضلوا من أجلها على مدى 230 عاما.