كونوا بقراً !
ميشيل أونفراي
لقد تفلسف نيتشه(Nietzsche) بالمطرقة في مستودع الخزف الصيني للفلسفة
الغربية. وبالرغم من مجال الانهيارات، فإنه يوجد دائما متشيعون لتلك
الفلسفة المهيمنة، التي تكون الأولوية فيها للفكرة، التصور، التجريد أكثر
مما تعطى لشبقية العالم. تفكر الفلسفة المؤسساتية العالم أقل من تفكيرها
في أفكار العالم، إن لها ميلا أقل للواقع من الولع بالوثائق التي تسوق
الحديث عنه ؛ وبالتالي فإن عقيدة النص بدون سياق والتي بها ترتبط غالبية
أولئك الذين يتطورون في العالم الفلسفي الصغير.
إننا نعرف الثيمات
النيتشوية: موت الله، العدمية الأوروبية، قلب القيم، العود الأبدي،
الإنسان الأعلى، إلاأنها تكون بالأحرى الفكر الأخير لنيتشه. فقد كان ثمة
وجود لذلك، غيرأن الإحالة على ذلك لم تكن بالشكل المطلوب، لنيتشه الشاب
الذي اقترح نجدة أوروبا المنحطة بواسطة الدراما الموسيقية الفاغنارية ؛
وبالفعل فإن ولادة التراجيديا تشكل سياسة جمالية، إن لم تكن جمالية
سياسية، بهدف جعل الجماهير أرستقراطية من أجل خلق شعب أوروبي عظيم. قام
نيتشه آخر بمواصلة ذات المسعى، المؤلف الفولتيري لـ 'إنساني، مفرط في
إنسانيته'، الذي رسم صورة للـ 'عقل الحر'، صورة متحدرة من أبيقور
(Epicure) ورغبته في غياب الكدر. ترك نيتشه المتوسطي المكان لنيتشه
الجرماني قبل نيتشه حيث سيتحول الوطن إلى كون صحبة الإنسان الأعلى (Le
surhomme) إلى صورة رمزية.
تناقضات ! يقول الساخطون. لكن هل ثمة
تناقض بين ثمرة البلوط وشجرة البلوط التي تصدر عنها؟ فقد دافع غوته
(Goethe)عن نظرية لتطور النباتات التي ترجع جيدا تحولاتها لنفس القوة في
تفرعاتها المختلفة والمتعددة، تتغذى جميعها على ذات النسغ. فإذا كان نيتشه
قد وضع نظرية لديالكتيك شعري أعلن عن تحول الجمل إلى أسد والأسد إلى طفل،
فلكي يشير، إلىأنه في حياة ما، ثمة زمن لحمل أثقال المثال الزهدي (ideal
ascetique)، وآخر لابتكار الذات كحرية و [ زمن ] أخير من أجل براءة
الصيرورة. تطابق تلك المسافة الأوطوبيوغرافية الزمن الفاغنيري، [ تطابق ]
الزمن الأبيقوري والزمن النيتشوي للفيلسوف.
حول علامة الجمل
ولد
نيتشه في 15 أكتوبر 1844 بروكين (Ràcken)، بألمانيا. تموضعت سنواته الأولى
حول علامة لعنة أولى: لعنة الموت. أربع سنوات على ولادته، شاهد أولى
العلامات على التدهور الجسدي والنفسي لوالده، قس لوثري شديد التقدير،
والذي وافته المنية على إثر رخوصة دماغية. تحقق الطفل من تفاصيل تطور
المرض. فيما بعد، أصيب بذات الأعراض التي أصابت والده طيلة حياته:التهاب
العينين، عمى، شقيقة، آلام، غثيان، قيء. ثم حضر احتضار والده الذي وافته
المنية. كان يبلغ من العمر 5 سنوات. في السنة الموالية، رأى نيتشه حلما
تحذيريا: خروج شبح والده من قبره، باحثا عن أخيه الصغير ومختطفا إياه إلى
رمسه. وفي اليوم التالي، مات الطفل... سيمضي نيتشه حياته مع النساء:أمه،
جدته، عمتيه، أخته. كان يعاني، في سنه العاشرة، منأمراض العينين والشقيقة
ـ ولم تكن القضية، آنذاك، قضية [ مرض ] الزهري...
كانت رغبته فيأن يكون
موسيقيا، إلاأنأمه سرعان ما صرفته عن ذلك، فقد كانت تريده قسا مثل والده.
أذعن نيتشه للأمر، غيرأنه ألف منذ سن العاشرة. تخلى عن علم اللاهوت لصالح
فقه اللغة (philologie)، لكنه سوف لن يتلقى أي دروس في الفلسفة... وقد
تحقق ولوجه إلى عالم الأفكار على طريقة صعقة حب: فغداة متم أكتوبر 1865،
قام بشراء [ كتاب ] شوبنهاور 'العالم كإرادة وتمثل'، وقرأه ضمن حالة حماس
منقطع النظير. وقد لعب العمل [ الفكري ] دورا بالغ الأهمية في تطوره: ففيه
قام شوبنهاور (Schopenhauer) بتطوير نظرية للجبرية ( determinisme)
المطلقة. توجد قوة يسميها إرادة ـ الحياة، وفيها [ القوة ] يتم تقديم
خلاصة لكل ما هو موجود. نحن نخضع لهذه القوة التي تمنع المحكم ـ الحر.
يتطابق
تشاؤم الفيلسوف مع ما يسميه بحساسيته الخصوصية (idiosyncrasie)، بعبارة
أخرى بيولوجيته. يعتقد شوبنهاور بأن الحياة تنوس مثل ساعة دقاقة بين الضجر
والمعاناة ويقترح حلا بهدف التخلص من تسلط إرادة ـ الحياة ( vouloir
vivre): إيقاف هذه الحركة. كيف ؟ بواسطة ممارسة أخلاق الرحمة، التأمل
الجمالي أو إنكار إرادة ـ الحياة: كلنا مبحرون على ذات السفينة التي
تقودنا نحو العدم، لنجتهد إذن في ممارسة الرحمة في موضع كل ما هو حي ؛
تأمل إرادة ـ الحياة في الأصداء التي تمنحها الفنون الجميلة بشكل عام،
والموسيقى بشكل خا ص، كذلك إرجاء النوسان ؛ رفض الجنسانية، الإنجاب، تأمين
سلالة تقودأماما إلى النيرفانا (nirvana) التي إليها يسعى الحكيم. إن صورة
الحكيم الذي يمارس هذه الفلسفة سلبت لب نيتشه، الذي لايعتبر أستاذ الفلسفة
قيلسوفا.قام نيتشه بتمجيد الحياة الفلسفية، ضدا على هيغل ومعاصريه الذين
يعيشون من الفلسفة وليس من أجلها. وسيبذل كل ما في وسعه لتشييد كل وجوده
ضمن هذا المعنى.
مثل جمل، يحمل نيتشه شوبنهاور كما يحمل فاغنر (
wagner). فقيه لغة شاب مفتون بالموسيقى، يعشق نيتشه أعمال المؤلف الشهير،
اطلعه على الأمر، علم فاغنر الخبر، تمنى ملاقاته. صعقة حب متبادلة. في
غضون ثلاث سنوات،أنجز نيتشه ثلاثا وعشرين زيارة إلى مقطن المؤلف [
الموسيقي ]. يعتبر نيتشهأن الانتصار في حرب 1870 على أرض المعركة يعادل
خسارتها في مجال الأفكار. تبتكر الغلبة الواجبات ؛ وعليه فإن 'نشأة
التراجيديا'، هو عمل يستدعي فيه فقيه اللغة المآسي الإغريقية كي يجعل من
فاغنر سليلا لصور العظمة الجمالية. ويرى ماركسيو الأمس واليوم في ذلك
الكتاب رد فعل للفيلسوف المناهض للماركسية الذي يؤمن بأطروحات
الأرستوقراطيين المنهزمين ـ ولم يكن جعل الشعب أرستوقراطيا قط في برنامج
النبالة، بيدأنه عند عبورنا... بايرويت ( Bayreuth)، التي ستشكل مكانا
لنهضة، أصبحت ملتقى للبورجوازية، للأرستوقراطية، للملوك، للصيارفة. إن
اليطوبيا ( utopie) الفلسفية للنهضة عبر الدراما الموسيقية ظهرت إلى حيز
الوجود بواسطة حفلة اجتماعية راقصة. فر نيتشه هاربا من المكان، فزلج المرض
(somatise)، يتملكه الغضب، تاركا فاغنر ـ وشوبنهاور في ذات المناسبة... لن
يتوقف الفيلسوف عن انتقاد المثال الزهدي، التشاؤم، ازدراء الحياة، بغض
الرغبات، الشهوات، الغرائز الجنسية، الشهوة، الجسد، مثالات الفيلسوف
والموسيقي. يشير بارسيفال (Parsifal)أن ريشار فاغنر، كونه شوبنهاوريا،
بوذيا جديدا ونباتيا، يعتبر من الآن منتميا إلى أطروحات المسيحية ـ امتلأ
الغرال (Le Graal) واستهلك الخصام. فيما بعد، سيكتب نيتشه 'نيتشه ضد
فاغنر' بهدفأن يقدم لجمهور [ القراء ] تفاصيل عداوته ـ كتاب أقل نيتشوية
بكثير، إذن...
حول علامة الأسد
بناء عليه، فإن لحظة الجمل تشكل لحظة
الجثوأمام الأوثان شوبنهاور وفاغنر. كانت [ اللحظة ] تتموضع حول علامة
لعنة أولى: لعنة موت الوالد والأخ. وستشكل لحظة الأسد لحظة ابتكار القيم،
إلاأنها تنضوي مرة ثانية تحت علامة لعنة:لعنة المرض. وبالتأكيد، فإنه أصيب
مبكرا بمرض الزهري ( syphilis) بماخور موجود بـ[ مدينة ] ليبزيغ (
Leipzig)، على الأرجح إبان المرحلة الطلابية. كما كان له ثمة استعداد
جيني، مع عم أدخل المشفى لمشاكل ذات صلة بالأمراض النفسية. وقد قاده
المشهد المأساوي واحتضار الوالد إلى الابتلاء بذات الأعراض التي أصيب بها
والده مادامأنه كان سليما من الناحية العقلية: وبالفعل، لما غاص في
الجنون، في يناير 1889، فإن آلام الشقيقة، الغثيان، التهاب العينين، القيء
التي [ الآلام ] اكتسحت المراسلات التي اختفت إلى حدود وفاته في غشت 1900
ـ بعبارة أخرى، كان نيتشه يجهل، منذ ما يقرب من عشر سنوات، الأمراض التي
ستنخر [ جسمه ] طوال حياته... قضى نيتشه إذن تلك اللحظة من وجوده في
المعاناة. فبعدأن استقال من منصبه كأستاذ فقه لغة، باشر حياة من التسكع
والتجوال في أوروبا برمتها. وقد بقي اسمه مرتبطا بأمكنة عظيمة وأسطورية:
بورتوفينو ( Portofino)، رابالو ( Rapallo)، سلس ـ ماريا ( sils maria)،
سورينتي(Sorrente)، أيضا فنيزيا ( Venise). جنوا ( G'nes) فمسينا (
Messine). كان يرغب في التبرؤ من ألمانيا، من الضباب الشمالي، من
الميثولوجيا الجرمانية بالإتصال بالشمس، بالنور، بالبحر الأبيض المتوسط ـ
لديونيزوس ( Dionysos). اعترف آنذاك بـ'[ قصيدة ] غزلية بطولية' ( idylle
hero'que) مع أبيقور وأسهب في الخاصية غير معاصرة ( intempestif) للفيلسوف
الإغريقي: يوجد ألف طريقة وطريقة كي يكون المرء أبيقوريا، فكل عصر يسمح
بتغير حول هذه الموضوعة. كان نيتشه، حينئذ، يرغب في [ كتاب ] 'المعرفة
المرحة'، عنوان كتابه الأكثر أصالة.
تتضمن مقدمة هذا العمل فكرة ثورية
تم رفضها على الدوام من قبل الفلسفة المؤسساتية: وبالفعل، فقد كتب نيتشه
بأن كل فلسفة هي اعتراف أوطوبيوغرافي لجسد ما. فقد عمل هذا الإثبات على
تحطيم قرون من الفلسفة المثالية. يعارض المثالي الجسد والروح. فهو يعطي
الأسبقية لتجردية( immaterialite) العقل المزعومة ويحط من قيمة مادية
الجسد ( chair). فالفكرة توجد في ذاتها ضمن رؤيته للأشياء، وهي ليست في
حاجة للواقع كي توجد، إنها تدرك بفضل تلك الآلة التجردية بسبب واشجة
أونطولوجية:وبماأن الروح شأنها في ذلك شأن الفكرة لها نفس التجردية،
فبإمكانهاأن تتعالق معها. ينكر نيتشه ذلك التقليد الذي ساد من أفلاطون إلى
شوبنهاور عبر كانط ( kant) وديكارت ( Descartes) . لذلك، فهو ليس ماديا ثم
إنه يعتبر الذرات مع الانفصال ذاته. فقد أدار الظهر للفكرة والمادة،
للمثالية والمادية: لاوجود، بالنسبة له، إلا لحقيقة مركزية واحدة مع 'هكذا
تكلم زرادشت'. ليست إرادة القوة رغبة في التسلط على الغير، تفسيرا خاطئا
كارثيا، بل هي مبدأ الحي في الحياة، لأن إرادة القوة توجد هناك حيثما توجد
الحياة.
لقد جعل نيتشه من أبيقور في 'المعرفة المرحة' معلما كبيرا
للحكمة الوجودية. فقد كان، مثله، يتفلسف بجسد مريض. إن قراءة رسائل
الفيلسوف الألماني تصعق [ القارئ ] لما تحتويه من الآلام العديدة...
إلاأنه كان يحب مشاهدة المناظر المتوسطية، إعداد أطعمة بسيطة إلى أقصى
درجة، المشي في الريف لساعات طويلة، تأمل، تفكير، قراءة كتب ذات جودة
عالية، أقل، لكن بعمق. يعيش متوحدا، لايتطلع سوى إلى شيء واحد: إعادة بناء
بستان أبيقور الذي سيكون مثل دير للعقول الحرة. قام بزيارةأمكنة تستطيع
استضافة تلك الطائفة من الأصدقاء والتي ستشكل أيضا مدرسة لمربين،مكانا
ستبتكر فيه وتعاش إمكانات جديدة للوجود.
آنذاك أخذ كل من بول ريه (
Paul Ree) ولوسالومي (lou Salome) مكان شوبنهاور وفاغنر في قلب الفيلسوف:
كتب الأول حول المشاعر الأخلاقية، وتعتبر الثانية شابة روسية مثقفة جميلة
عشقها نيتشه إلى درجة الجنون... التمس الفيلسوف من ريهأن يصرح بحبه [
نيتشه ] للو ( Lou) ـ لكن ريه نفسه لم يسلم من الفتنة... مثلما كان يفعل
ذلك بانتظام مع النسوة اللواتي كان يصعقه حبهن، اقترح نيتشه على لو زواجا
تحت التجربة ـ سرعان ما رفضته. وسيفضي ثالوث هذه الصداقة إلى خلاف، ثم إن
بعض رسائل نيتشه ضد لو ما كانت تستحقأن تكتب أبدا.
عرضت تلك القطيعة
التوازن النفسي لنيتشه إلى الخطر. فقد تسببت في حدوث اضطرابات جديدة،
تكرار لأعراض مألوفة: آلام الشقيقة التي ألزمته الفراش لمدة أسبوع، غثيان
لاينتهي، قيء طيلة أيام ثلاثة، أعراض مكتئبة ( depressifs)... تحول ثقافي
جديد. أصبح جسم نيتشه الشديد الحساسية متشنجا بـ[ فعل ] الآلام، المرض،
زهد في المأكل، الحرمان الجنسي. آنذاك، تناول الكثير من الأدوية لتسكين
آلامه: افيون،هيدرات الكلورال... في شهر غشت 1881، ومثل قوس شاماني (
chamanique) متوتر إلى حده الأقصى، ألهم نيتشه بالعود الأبدي ( l eternel
retour) في سيلفا بلانا (silvaplana). بالقرب من بحيرة سلس ـ ماريا، ثم
إلهام الإنسان الأعلى على الطريق المطل على بورطو فينو...
غالبا ما
فهم مفهوم العود الأبدي خطأ إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار ملاحظات،
كتابات نشرت بعد وفاة المؤلف تخلى عنها الفيلسوف، وحتى صفحات كاملة من
'إرادة القوة'، كتاب ليس من تأليف نيتشه لكنه [ كتاب ] مزيف اختلقته أخته
اللاسامية، الإشتراكية ـ القومية، صديقة موسوليني وهتلر. كي تجعل من أخيها
مبشرا بالفاشيات ( fascismes) الأوروبية بشكل عام وبالنازية بشكل خاص، فقد
أعادت كتابة نصوص، حذفت كلمات، وأضافت أخرى، حرفت المراسلات التي أعادت
تقطيعها بعدأن حذفت الفقرات التي كانت ستحول دون الاستعادة التي تعمل
عليها. حوالي عشرين نصا منشورا في هذا [ الكتاب ] المزيف هي، على سبيل
التمثيل، لتولستوي...
قرأ نيتشه كثيرا كي يبذل ما في وسعه لتشييد حدسه
الفلسفي بشكل علمي. بعض ملاحظاته حول القراءة، منها استشهادات، تم نشرها
كما هي في 'إرادة القوة'. فإذا ما تم اعتبار ذلك النثر الكريهأنه من تأليف
نيتشه، فبالإمكانأن نجعل منه مفكرا معاديا للسامية، داعية حرب، قوميا،
عنيفا، ما قبل فاشستيا ! كذلك، فيما يخص قضية العود الأبدي، قد يتم
الاعتقاد خطأ بأنه إعادة للآخر) مثل دولوز( الذي هو، عنذئذ، تكرار لنفس
الشيء. إن فكرةأن ما حدث سابقا في المكان بنفس الصيغ وفي التفاصيل وأن هذا
الحدث سيقع من جديد ضمن نسخة مطابقة للأصل أدت إلى نتائج فلسفية لقدوم
الإنسان الأعلى. لأن هذا الأخير يحدد من يعرف هذه الحقيقة المأساوية من
التكرار إلى مطابقة ما هو موجود، لأن من يريدها يعرفأنه يتوجب ابتغاء
الإرادة التي ترغب فينا وبشكل أفضل، من يحبها يتوصل، بواسطة هذا القبول،
إلى الفرح، إلى الغبطة التي هي نهاية لكل حكمة وجودية حسب زرادشت ـ نيتشه.
تعمل تلك التصورات على تغذية تحول ثالث.
حول علامة الطفل
يحمل
الجمل أوثانا شوبنهاورية وفاغنارية عتيقة، يبدع الأسد قيما جديدة نيو ـ
أبيقورية، سيعرف الطفل صفاء لانظير له: سيلج العالم مع الألق الأونطولوجي
الضروري لتشييد فلسفة جديدة. أعطى نيتشه شكلا وجوديا لحدوسه الفلسفية: موت
الله، العدمية الأوروبية، العود الأبدي، الإنسان الأعلى، قلب القيم (
transvaluation des valeurs) ـ مما يمكن بناء عالم فلسفي انطلاقا منه، كما
يعتقد على الأقل، سيتم وضع حساب أعياد جديد ( comput) يوما ما . مثلماأنه
تم التأريخ لقرون انطلاقا من يسوع المسيح، يعلن [ كتاب ] نيتشه 'هذا هو
الإنسان'أنه في يوم ما سيحدث الشيء نفسه معه: قبل ف. ن.وبعد ف. ن.
لنحدد بدقة الأفكار الأساسية لنيتشه.
موت
الله: لقد مات، يتوجب علينا من الآن فصاعداأن نفكر ونحيا بدونه أو أي إله
شبيه به. عنذئذ نكتفي بالعالم المعلوم ونرفض العوالم الماورائية، فتلك
الأوهام التي بها تغذي اليهودية ـ المسيحية أخلاق كراهية الجسد، الرغبات،
الغرائز الجنسية، الغرائز، الشهوات، الجنسانية (sexualite)، باختصار: [
كراهية ] الحياة. لاوجود لحياة بعد الموت، إذن لاجهنم ولاجنة.
العدمية
الأوروبية: ترافق موت الله بموت المعنى الذي يصدر عنه. يمجد العصر الحالات
الصحية الحرجة، الحقد، الوهن الأنطولوجي، الفضائل التي تحقر. يلتذ [ العصر
] بالتشاؤم، بالنزعة التحطيمية (decadentisme)، يمجد الإنهاك، الإعياء.
المرض، ينتشي، لايرغب في رؤية الحقيقة، يتورط في مغامرات سياسية للموت.
انتصار المتعية ( hedonisme) بفعالية مطلقة، برهان على مرض الحضارة هذا.
بماأن الله قد مات فإن كل شيء متساو، كل شيء مباح، كل شيء ممكن ـ وهو ما
لايعنيأن كل شيء يكون مستحبا.
العود الأبدي: حقيقة أونطولوجية بحسب
نيتشه. لاينبغي قراءة الزمن على طريقة المسيحيين الذين يتصورونه مثل سهم
له ماض، حاضر، ومستقبل وتعذر تكرار الشيء من جديد. تعتبر مقولات الأمس،
اليوم، غدا، [ مقولات ] غير ملائمة من أجل تفكر العالم. ليس الزمن خطيا
إنه دائري. ما يحدث في اللحظة التي نتكلم فيها، تغريد عصفور، نباح كلب،
العنكبوت التي تنسج بيتها، كل هذا سيتكرر في التفاصيل. سوف لن يوجد عصفور
يغرد من جديد، لكن هذا العصفور الذي يغرد قد غرد في السابق وسيغرد
باستمرار ذات التغريد. بالنسبة لنيتشه، لن نفلت من هذا التكرار الأبدي منذ
ذلك الوقت، فقد أخطأ دولوز ( Deuleuze) الاعتقاد بأنه كان يكفيناأن نريد
من أجلأن نصطفي الإرادة وعبرها ما سيتم تكراره. تقترح تلك النزعة
النيتشوية ـ اليسارية في وقتها ابتكار درجات تحمل الحياة ذات قابلية
لتغيير مجرى الزمن. قراءة يهودية ـ مسيحية تعيد حقن المحكم ـ الحر في
أونطولوجيا حتمية تماما...
الإنسان الأعلى: لايمكن إخضاعه إطلاقا
لقراءة سوسيولوجية أو سياسية، تفسير في غاية الخطإ... إنه يتعلق بتصور
أونطولوجي: تعرف إرادة القوة، الرغبة فيها، محبتها والتمتع بذلك الحب الذي
يسميه نيتشه ( l amor fati)، محبة قدره ـ هذا هو ما يقدم تعريفا للإنسان
الأعلى، الذي يمكنأن يكون، بطبيعة الحال، امرأة عليا ( surfemme)... يقول
الإنسان الأعلى نعم كبيرة للوجود، لكل الحياة، بماأنه لايوجد اختيار
آخر.لايقول نعم للخير ولا للشر، نعم للابتهاج ولا للمعاناة، لأنه لايمتلك
إمكانية ألا يرغب في الذي يحدث. يتوجب عنذئذ قول نعم للحياة والموت. يعلن
الإنسان الأعلى انتماءه للقيم الديونيزية: الحياة، الحب، الجنسانية،
الفرح، الضحك، الرقص، الابتهاج، الغناء، الخمر، فضلا عن ذلك، الشراسة،
الفظاظة، التوحش الملازم للحياة. إنه لمن الغباء قول لا للذي يفتقد علىأن
يكون. يصنع القدرالقانون، يرغب الإنسان الأعلى في هذا القانون ويحبه.
قلب
القيم: يستدعي موت الله والعدمية الأوروبية التفكير والحياة في العالم
بدون إله ـ بدون آلهة. تمجد القيم اليهودية ـ المسيحية الموت: المثال
الزهدي، عفة، طهر، اعتدال. تستدعي المسيحية الاقتداء بملك بدون أعضاء
تناسلية، يسوع Jesus) (، جثة معذبة، المسيح ( Christ) و [ الاقتداء ]
بالنسبة للنساء، بعذراء تلد، مريم. لن يكون بمقدور تلك التعليماتأن تنتج
سوى الحرمان وكبح الشهوات. تعتبر أخلاق العبيد الجاحدين للحياة ـ الذين
تمكنوا بواسطة اتحادهم من هزيمة الأسياد العشاق للحياة ـ أخلاق انتقام ضد
العافية، إيثيقا ( ethique) الحقد ضد كل من يريد الحياة. يفترض قلب القيم
الرغبة في الحياة التي ترغب فينا. تقود إرادة الإرادة في المنفذ
الأونطولوجي للفرح، للغبطة.
بدقتها وتعقيدها، استوجبت فلسفة الكارثة
الحاسمة قارئا قويا ذا بصيرة وفكر متوقد. فليس صدفةأن يضع نيتشه عنوانا
فرعيا لكتابه 'هكذا تكلم زرادشت' 'كتاب للجميع ولغير أحد'... 'للجميع'
لأنه وجهه إلى كل واحد، علىأن 'لغير أحد' لأنه كان يعلم ويتصور ـوبعد مرور
قرن ـأنه لن يفهم إلا بعد رحيله. وهاهو القرن قد مر، فأصبح هذا الكتاب
الموجه للجميع كتابا موجها لقلة قليلة.
وهاهي السنوات المئة تبرز إلى
أي مدىأن السجل النيتشوي الشعري. الحكمي ( aphoristique)، الشذري،
الغنائي، لايسهل المهمة: ينبغي التوفر على عين فنان من أجل قراءة فكر هذا
الفيلسوف ـ الفنان ؛ والحالأن أخته كانت الأسوأعماء . إن إرادة القوة التي
سهرت على صناعتها كي تقدم نيتشه ما قبل فاشستيا وما قبل نازيا قد أساءت
كثيرا: فقدأنتجت تلك النسخة النازية منافسين لدى النازيين، مثل ألفرد
روزينبرغ ( Alfrd Rosenberg)، الماركسيين مثل لوكاش ( Lukacs) ومعاصريه،
المناصرين لـ'الفردانية الديموقراطية' مثل آلان رونو ( Alain Renaut)، لوك
فريه ( Luc Ferry)،أندريه كونت ( Andre Compte) ـ سبونفيل ( Sponville)
وقلة أخرى قاموا بنشر [ كتاب ] 'لماذا نحن لسنا نيتشويين' في سنة 1991.
إن
محترفي الفلسفة الذين لايزالون يستشهدون بـ'إرادة القوة' بهدف جلب التأييد
لأطروحاتهم اللانتشوية لايغتفر لهم قراءة ' إرادة القوة [ وهو عمل ] غير
موجود' [ كتاب ]) لمعان ( لمازيمو مونتيناري( Massimo Montinari). يمنع
هذا الكتاب المتفوق منعا كلياأن يتم ربط اسم نيتشه مرة أخرى بفاشيات القرن
العشرين. بالتأكيد، بإمكاننا ألا نحب نيتشه، لكن من دون الإلحاح على
الأوطروحات النازية لإليزابيث فورستر ـ نيتشه( Elisabeth Forster
Nietzsche) ! إن نيتشه أهل لذلك، فهو يستوجب صبرا طويلا ـ شجاعة قديمة.
كان يصبو إلى قارئ ذي موهبة وحيدة: موهبة البقر الذي يجتر. فلكي تفهموا
نيتشه، كونوا بقرا...
ترجمة: الحسن علاج
الإثنين أغسطس 10, 2015 7:35 pm من طرف هرمنا