هبة عبد الجوادجاءني قبل ليلة جمعة الرحيل، ومعه ورقة لصق عليها حلوى من الطرفين، قلت
له: “أين كنت طيلة هذا الوقت؟”, فقال: “كنتُ أنا وصديقي نوزّع هذه الورقة
على الناس في الشارع”.
(إنَّ مبارك ونظامه هو الذي قتل الأبرياء وظلم
الناس.. إن كنتم تريدون له أن يرحل، ندعوكم للذهاب إلى ميدان التحرير يوم
الجمعة) الإمضاء: “صاصا وأوزو”
الذي كان يخشى من شراء الحلوى ليلاً يوزّع
منشور مع صديقه في وقتٍ أغلق البالغون فيه منازلهم خوفًا من أعمال البلطجة
والسرقة، وببراءة يوقّعا باسميهما على الأوراق دون أنْ يطفو على سطح
تفكيرهم الهاجس الأمني الذي ترسّخَ في ثقافة الكبار.
لوهلةٍ فرحتُ به وبوعيِه وشجاعتِه..
وتذكَّرتُ مشهد الأطفال في أحداثِ الثّورة وهم يلوِّحون بالأعلام فرحين,
وكأنَّهم يلوّحون بطائراتٍ ورقيّة ملوّنة في يومِ عيد، وهم يلتقطون الصّور
بجوار الدبَّابات وجنود الجيش في حالةٍ تنبّئ عن شعورٍ بانتصار بعد انكسار,
ربما لا يملكون التعبير عنه سوى بما رأيناه من ترديدٍ مستمر لتلك الهتافات
في الشوارع في لعبهم الجماعي مع أقرانهم.
ثم متابعتهم وغيرهم من الناشئة الأفلام
الضاحكة التي تسخر من الرؤساء المخلوعين ورموز الدولة, وهم يشعرون بفخرٍ
داخلي تراه في عيونهم وهم يتجاذبون الحديث مع أصدقائهم حول الأحداث, بعد أن
كان حديثهم الدائم عن شخصيّات كرتونية أو نزهات عائليّة.
انتابني هاجس, ألا يمكن أن نحيط بثقافة
الثورة التي باتت في متناول الأطفال فتوقعنا في فوضى، سرعان ما اختفى هذا
الهاجس مع مشهد آخر أطلق عليه صانعوه موقعة “الكُريك” (رافع السيارة)،
كناية عن موقعة الجمل، مما يُؤكد أنَّ الشعب يستدعي أحداث الثورة في تفاصيل
الحياة في فترة ما بعد التنحي وحتى تحقيق مطالبه المشروعة.
وترجع تفاصيل “موقعة الكُريك”, إلى أنَّ طلبة اعتصموا أمام مدرستهم
للمطالبة باستلام المدرسة بحكم قضائي لم ينفّذ, ويطالبون بتنحي المدير
المعروف عنه فساده الإداري وتبعيته للجهاز الأمني.
تم ضرب الطلبة بـ”الكُريك”!,
فدافعوا عن أنفسهم.. وهنا كانت الإشكالية، تعالت الأصوات حولهم ما بين
مؤيد ومعارض، فالمعارض يعتبرهم تجرؤوا وقناعته: “ليست هذه الطريقة التي
نتحصّل بها على الحقوق”، والطلبة قناعتهم أنه: “لولا وقفتنا ما حصلنا على
حريّة المدرسة ممن اغتصبها بدون حق، وأننا سنحافظ على مدرستنا وسنكون شباب
متحضّر”.
مشاهد ستتكرر كثيرًا الأيام
القادمة تؤكّد أنّه علينا ألا نُعلي من الهاجس الذي ينتابنا خشيَة تحوّل
الحريّة إلى فوضى، فالجيل الحالي سيتعلّم وسَيَعْبُر بنفسهِ إلى برّ
الأمان, بل علينا أنْ نُعلي من قيمة الحريّة والكرامة لديه, وعلى التوازي
نُصادر وندعو إلى تنحِّي تلك الأساليب والمناهج التربويَّة والتعليميَّة
التي تعتمد على القهر الفكري, والحوار الأفقي, والسلطة الأبويَّة، مما
سيؤدّي تراكميًّا إلى تطرف في استرداد الحقوق بشكلٍ فوضوي غير حضاري ولا
عقلاني، تنفجر فيه طاقة التعبير عن الرأي وإطلاق الأحكام بعد أن أثبتت
الثورة أنَّ الصوت العالي والإصرار يحققان المراد.
نعم هو الصوت العالي المستمر فهذا ما
يرونه من وجه الثورة، فهم ربّما لا يحيطون بتفاصيل الأوضاع السياسيّة
والمطالب الشعبية المتعلقة بالدستور والفساد الإداري والسياسي في الدولة..
الثورة كانت أمامهم مشهد مفتوح بصوت يردد “الشعب يريد إسقاط النظام”!
من يضمن الآن ألا يتحول هذا الشعار إلى
دعوات لإسقاط أي نظام أيًّا كان, سواء نظام يتمثل في أبّ متعنّت أو معلّم
قاسي أو أم تستخدم كلمة “لا” أكثر من “نعم”.
لا أؤيد أن نعتبر هذا الهاجس دعوة إلى
الهرولة إلى تنفيذ برامج لتوعية الناشئة والشباب بحدودهم في التعبير عن
الرأي والنقد واحترام الكبير والنضج في إصدار الأحكام واستخدام العقل
وغيرها من البرامج التوعوية التقليدية.
رسم عبر به طفل في الحضانة عن معركة بين البلطجية والمصريين ودفاع الجيش عن المصريين على حد تعبيره
لكن من المهم الحديث عن ترسيخ
ثقافة الحرية والشجاعة المدنية التي لا يمكن أن يتم التدريب عليها من خلال
مناهج مفتعلة أو إرشادات لتجنب الفوضى. وإنما من خلال ممارسة
منهجيات جديدة في التربية في البيت والمدرسة التي ترسخ بشكل تلقائي متراكم
نضج في الشخصية تجعلها تستطيع أن تصدر الأحكام وتفهم الواقع المعاش دون
تفريط أو إفراط، فتتحول هذه الممارسات الصحية إلى جزء من ثقافة يعيشها
المجتمع في حياته اليومية.
كمثال, نجد في مجتمعاتنا العربية المعلم
وولي الأمر يسلك أسلوب التعليم البنكي, والذي يُعرَّف بأنَّه عملية التدريس
التي يُمثل المعلم فيها مصدر المعرفة الوحيد وكأن التلاميذ ليس لديهم أي
معرفة مسبقة!
هذا النمط الأفقي في التعليم يصف تأثيره
(باولو فيري) في كتابه “تربية الحريَّة” بقوله: “يسود في الفصل جو من أوامر
وعلاقات تسلطية أحادية يتحرك من أعلى إلى أدنى ومن ثم يعكس نمط العلاقات
السياسية غير الديمقراطية في المجتمع ويؤدي إلى ترسيخه وإعادة إنتاجه!”.
أيضًا من المشاهد التي ستخلفها الثورة؛ انتصار النّقد في تحقيق التغيير ومواجهة الفساد ودفع المظالم،
هذا يحيلنا إلى أهمية تجديد الفكر التربوي في ممارسة هذا النمط في التفكير
بشكلٍ يُعلي من قيمة الحرية دون أن تتطرف إلى الفوضى، وذلك بتجديد سلوك
المعلم وأولياء الأمور ومن لهم صلة بأي عملية تربوية أو تعليمية بحيث تقوم
على تشجيع المتعلم لفهم واقعه واتخاذ القرار ومهارة طرح الأسئلة الفضولية
مما يضمن أن يكون تفكيره النقدي ناضجًا وليس رد فعل على حالة سلبية عاشها
أو موقف أغضبه.
فتح آفاق تجديدية في الفكر
التربوي في مرحلة ما بعد الثورة ستجعلني كأم لن أخشى على “صاصا وصديقه
أوزو” من ممارسة الحرية وثقافة الثورة، فالأيام كفيلة بالكثير من التغيير
الذي سيطرأ على المجتمع بطبيعة الأصوات الواعية من أمهات وآباء ومنظومة
تعليم نتمنى أن تضع يدها على مكامن القوة ومواطن الضعف التي تحافظ على
مكتسبات الثورة وتضمن روح الإرادة والحرية والشجاعة المدنية.
الأربعاء أبريل 12, 2017 7:18 am من طرف Admin