حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 ندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
إبراهيم خاطر
ثـــــــــــــــائر متردد
ثـــــــــــــــائر متردد
avatar


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 7
معدل التفوق : 21
السٌّمعَة : 20
تاريخ التسجيل : 17/12/2011

ندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات Empty
18122011
مُساهمةندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات

ندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات Aaaaaaademen












عندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات

25-3-2011

د. بتول أحمد جندية / سوريا




ندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات Asr-spacer


قوة الشعوب تنبع من إيمانها ووحدتها وتكتلها،
فقد برهنت الثورات على أن الإيمان والوحدة قادران على التصدي لقوة السلاح
وآلة الفتك بالأجساد العزلاء والصدور العارية وحدها، وأن فيضان الجموع
البشرية المؤمنة قادر على أن يجتاح عروش الظالمين ويجرفها إلى مزبلة
التاريخ في لحظة تاريخية لا تحسب من عمر الزمان، لتسقط بذلك نظرية التكافؤ
العسكري التي تخدع بها الشعوب الضعيفة..







يتتبع العالم بدهشة هذا الانفجار الانشطاري لثورات الشعوب
العربية التي باتت تهدد كل الأنظمة العربية القائمة، وتزرع في أوصالها
الرعب بعد أن كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، ورغم كل
إنسان، غير آبهة بالجياع ولا العاطلين، ومحتقرة أماني شعوبها ومقدساتها.

الحق
أنه يجدر بنا ألا نعجب لحدوث الثورة، بل لتأخر حدوثها ولاطمئنان المطمئنين
والمنتفعين إلى استحالتها!! إن ثورات الشعوب العربية نتيجة حتمية متوقعة
للظروف الموضوعية المشتركة التي تعاني منها أقطار الوطن العربي كلها، فهي
ولادة متأخرة لمخاض عسير طال نصف قرن من الزمان، ولم يتيسر ظهور المولود
إلا لما اكتملت له شروط الولادة السليمة!! وهل للثورات شروط؟!

نعم
للثورة الناجحة المنتجة شروط، ولا يتحقق التغيير الحاسم المكتمل والإصلاح
الحقيقي الشامل إلا بها، ولعل التساؤل الملحّ الذي تفرضه ثورات الشعوب
العربية هو: ما هي شروط الثورات الناجحة؟ وما هي الدروس والعبر الحضارية
التي يمكن لقادة النهضة ورواد الإصلاح والتغيير أن يتعلموها من الثورات
المنجزة؟ وما هي مكتسبات هذه الثورات؟ هذا هو موضوع هذا المقال، إذ لا يمكن
للمرء أن يمر بحادث في مثل ضخامة هذه الثورات مرورًا عابرًا، ولا بد له من
أن يقف أمامها وقفة معتبر ومتدبر.

بشروط الثورة نبدأ..

انطلقت الثورات العربية لما تهيأت لها الظروف المناخية المواتية، وامتلكت شروط النجاح، وإذا حاولنا أن نتقصى هذه الشروط وجدنا:

أولها،
الهدف (طاقة التحريك وقوة التوحيد): شيء ما عظيم استطاع أن يلمّ هذه
الحشود الغفيرة من الناس ويحركها في إرادة واعية لطلب التغيير بأغلى
الأثمان، هذا الشيء هو السر وراء الثورات العظيمة وهو علة نجاحها، إذ إن
أهم شرط في حدوث الثورات هو امتلاكها قوة استقطاب وتعصيب قادرة على تجميع
الناس في كتلة بشرية واحدة، وتحولهم إلى قوة ضرب حاسمة (سلمية أو غير
سلمية) غير قابلة للتردد ولا للانشقاق أو التفتيت. ولكن من أين تكتسب
الثورات هذه القوة؟!

إن أهم مصدر لقوة التجميع
والاستقطاب هو (الإيمان بالهدف ووحدتُه ووضوحُه) إلى درجة تجعله قادرًا على
التصدي للتحديات الرهيبة التي يُتوقع أن تواجهها مثل هذه الثورات التي
تعرض للخطر وجود الإنسان وأمنه ومصالحه.. وبقدر قوة هذه التحديات وخطورتها
يجب أن تكون قوة الهدف الثوري ووضوحه، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نعرّف
الثورة تعريفًا بسيطًا بأنها: تحرك الشعب في كتلة واحدة من أجل تحقيق هدف
يؤمن به.

فإرادة التغيير لا تتأتى إلا من الإيمان
بهدف واضح يصل في النفس درجة اليقين، وقوة التغيير لا تتحصل إلا من جمع
الناس على هذا الهدف وتوحيدهم به، ووحدة الهدف ووضوحه هما اللذان يمنحان
الشعب التماسك والتكتل المطلوبين لتحقيق التغيير الشامل، وتهبانه طاقة
الأمل الخلاقة لمقاومة الضغوط والتحديات الجبارة.

وإذا
أردنا أن نفتش عن مصدر الطاقة المحركة للثورات العربية الحالية وجدنا أن
الناس التمّوا فيها حول هدف واضح جدًا كان في الحالات الثلاث؛ التونسية
والمصرية والليبية: "إسقاط النظام"، أما في الحالة اليمنية فإن الثورة قد
تأخرت في تحقيق إنجازات ملموسة بسبب تعدد الأهداف وتعارضها، فالشباب
الثائرون يطالبون بإسقاط النظام، والمعارضة التقليدية تقبل بالحوار
والإصلاح، وتقلّص من مطالب ثوار الشارع، وتؤثر في تماسك الصف!!

فكلما
استطاعت الثورة أن تجسد مطالبها في هدف واحد كبير متفق عليه وغير محل
خلاف، وتحرّر نفسها من الحزبية والطائفية أمكن لها أن تحقق إنجازات أكبر
وأسرع وأجدى، ولذلك فإن الولاءات الحزبية الضيقة لم تنجح على مدى الخمسين
عامًا الفائتة في تحقيق إنجازات حقيقية وملموسة بسبب من تحيزها الطائفي
والفئوي، وخلقها بؤرة توتر وانشقاق بدلاً من قدرتها على تحريك الشارع
ومسّها همومه وتجسيدها تطلعاته الواضحة.

أما كيف تُصنع أهداف الثورات، وهل هي بالسهولة التي بدت عليها هذه الأيام؟!

لا
تصنع الأهداف الثورية ارتجالاً، ولا يمكن صياغتها اصطناعًا، لأن شروط
بلورتها معقدة وليست باليسر الذي بدت عليه هذه الأيام حتى خال كل فرد أن
بإمكانه صناعة هدف ثوري وتجميع الناس حوله!! الحقيقة أن الأهداف الثورية لا
تملك قوة تجميع وطاقة تحريك ما لم تصل إلى درجة الإيقان التام الذي لا
يتزعزع والإيمان المطلق الذي لا يمكن التشكيك فيه، وإنما تتحول الأفكار إلى
أهداف عامة وتكتسب هذه الطاقة الإيقانية عندما يتوافر لها مجموعة من
العوامل المعقدة، هي:

1- المصلحة (المادية والمعنوية):

لا
يتحرك الناس إلا إذا أوجدت لديهم الدافع الكافي، والدافع فكرة أو مصلحة،
إما عقيدة يؤمن بها الإنسان ويقدسها، أو مصالح ضرورية ضائعة يحرم منها
ويطالِب بها. وقد استطاعت أكثر الأنظمة العربية أن تخلق في شعوبها دوافع
قوية لمعارضتها والثورة عليها، فأكثرها يمارس تهديدًا دائمًا للناس في
عقائدهم، وأمنهم، ورزقهم.. ويتزلف بعضها إلى الغرب تزلفًا مفضوحًا يهدر
كرامة الإنسان العربي ويذله.

أي إنها تخلق عند شعوبها
عداء لها بقدر ما تهدد هذه الشعوب في مصالحها المادية والمعنوية، وتنفجر
قنبلة الثورة عندما تضيق دائرة المصالح إلى أدنى حدّ، وتنعدم فرص الإصلاح،
وتفتقد البدائل، ويغدو معنى الحياة والموت سواء، لأن المصلحة الحقيقية
تنتزع حينئذ بالموت وتكتسب بالتضحية، والأمل يحكم الربط بين طرفي المعادلة؛
الموت والحياة، وتسود المقولة: (اطلب الموت تمنح لك الحياة).

لم
يكن لأحد أن يحرك الشعوب العربية ما لم يحرك فيها دوافع تستجيب لحاجاتها
وقناعاتها، وتجسد آمالها وتطلعاتها. وقد استطاعت الثورات أن تركّز هذه
الحاجات كلها في جملة واحدة هي "الشعب يريد إسقاط النظام"، وتجمع غايات
المواطنين المتفرقة وحاجاتهم المختلفة حولها، فقد برهنت لهم خبرتهم العميقة
وتاريخ المعاناة الطويل أن "النظام" هو المسؤول الحقيقي عن هذه المعاناة
وعن الانتهاكات الصارخة للحقوق والمقدسات، وتهديد الناس في أمنهم وقوت
عيالهم وعقائدهم. ولأجل ذلك كان العمق هو العامل الثاني الجوهري في تشكيل
الهدف الثوري المحرك والمعصِّب:

2- العمق (التواتر الزمني والتراكم الكمي):

الهدف
هو خلاصة انصهار مجموعة معقدة من الأفكار والتجارب والقناعات المترسّخة،
ولكي تنصهر هذه المعطيات لا بد لها من أن تتأصل ويتم تمثلها ومعالجتها
لتحويلها إلى سلوك ومواقف ثابتة لا تهزها العواصف خلال مدى زمني كاف
لاستيعاب التجارب واكتساب العبر.

ليست الثورات
العربية حركة عفوية ارتجالية بنت وقتها كما خيل للبعض أن يصفها، ولا يمكن
أن تصنع بإيعاز خارجي، فلهذه الثورات عمق تاريخي اجتماعي اكتسبته من رحلة
النضال الطويلة والصراع الدموي من أجل البقاء، وتراكم الأفكار التنويرية
وتفاعلها بالخبرات المتتابعة والتجارب المتكررة، ووعي واقعي باحتمالات
النجاح والفشل، واستجابة مثالية في التعامل معها.

إن
شرط العمق يضمن تحول المشاريع الإصلاحية من مشاريع نخبة إلى مشاريع أمة،
وفي الوقت نفسه يؤكد أهمية النشاط الإصلاحي المشتغل على تغيير الأفكار
والمعتقدات وبرهنتها من خلال الواقع لا الاكتفاء بالشعارات التي لا يقدر
الناس على التفاعل معها، أو لا يجدون أنفسهم فيها، ولا يتصورون طريقة
تحققها.

وإن اكتساب الأفكار الإصلاحية عمقها الواقعي
وامتدادها الشعبي يحتاج إلى مدة زمنية يتجدد فيها جيل الأمة، ويتربى خلالها
على هذه الأفكار ويتفاعل معها ويتبناها، ولذلك رأى ابن خلدون أن التاريخ
يتحرك في صورة أجيال تعقبها أجيال، كل جيل يحمل معه أفكاره وخططه وطريقة
تفاعله مع محيطه، ولذلك أيضًا لم يكن عبثًا أن ظل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الدين الجديد في مكة قبل أن يلجأ إلى رفع
السلاح، لقد هيأ القاعدة الشعبية المتبنية للدين الجديد والقادرة على حمل
مسؤولية نشره والدفاع عنه.

وإن من الأمور الجديرة
بالاهتمام أن بعض رجال الإصلاح اليوم تفاجؤوا بانطلاق شرارة الثورة وهم
الذين منحوها وقودها من خلال تراكم أفكارهم الإصلاحية التي كانت تشتغل على
بناء الإنسان وزيادة وعيه بواقعه، وقيمهم التي زرعت في الجيل حس المبادرة
وتحمل المسؤولية لتغيير هذا الواقع، فالأفكار هي التي تصنع الأفعال، وتحدد
خيارات المستقبل.

وكما يؤثر العمق في بلورة الأفكار
الإصلاحية وتأصيلها، يؤثر العمق أيضًا في بلورة الأفكار المناهضة للإصلاح
والمعيقة للثورة، فالأجيال العربية التي عاشت هزائم العرب وخزيهم وتنكيل
الأنظمة وإذلالهم الممنهج لم يكن لديها أمل لا في الإصلاح ولا في التغيير،
وافتقرت إلى تقدير الذات اللازم للاعتقاد بالقدرة على ذلك، فكان لزامًا أن
تمر مشاريع الإصلاح بمرحلة كمون أو سكون إلى أن يظهر جيل جديد مبرّأ من تلك
الأمراض، مقبل على الحياة، معتد بالذات، ومؤمن بإمكان التغيير، ومؤمل
بالمستقبل.

إذًا ليس عبثًا أن ترك الله تعالى قوم موسى
عليه السلام يتيهون في الصحراء أربعين سنة كانت ضرورية لتجديد الجيل وخلق
خلف متطهر من عيوب السلف وأمراضه، وكذلك يتكرر هذا الأمر مع شعب الجزائر،
إذ نلاحظ أن جيل الشباب الجزائري اليوم الذي اكتسب خبرة عميقة مؤلمة
بالنتائج الدموية للأفعال الثورية خلال المدة القريبة السابقة، وقف موقفًا
سلبيًا من الحركة الثورية ولم يستجب لها أو قاطعها لعدم إيمانه بجدواها أو
لرعبه من نتائجها، وهذا ما يحرم الثورة الجزائرية من أساسها الشعبي، وقوتها
المحركة، ويؤدي إلى تأخرها إلى أن يتخلق في وعي جيل الشباب يقين مواز
بجدوى النشاط الثوري (وهذا ممكن بالنظر إلى النجاح الحاسم والمبهر للثورات
المجاورة)، أو إلى أن يظهر جيل يافع لم يعايش المذابح الدموية، ويتطهر من
"عمق" المجازر القديمة المعطلة للطاقات والمكبلة للإرادات والمشوِّهة
للعقول والأفكار، وأحيانًا تكفي دماء طازجة لمحو آثار دماء قديمة حائلة.

يؤدي
العمق الزمني والتراكم الكمي للمشكلات وفشل محاولات الإصلاح وتأكّد هذا
الفشل وتأبّده إلى سقوط المجتمعات تحت ضغط رهيب لا يطاق ولا يحتمل، وينجم
عن هذا الضغط أمران: يأس قاتل يعيق محاولات الإصلاح، ويبدد أحلام التغيير،
أو ثورات ضخمة تحدث تغييرًا جذريًا شاملاً.

ولن يكون
في مقدور الشعوب مقاومة الضغط ما لم تمتلك إيمانًا يقينيًا راسخًا يمنحها
الأمل بالمستقبل والثقة بقدراتها وبإمكان التغيير، فالتحدي الذي تكلم عليه
توينبي شرطًا للوجود الحضاري لا يفعل فعله الخلاق ـ في رأيي ـ ما لم يضمن
وجود معادل مكافئ يمنح الإرادة الإنسانية القدرة على مقاومة التحدي والصمود
أمامه، وهذا المعادل يأتي من مصادر متنوعة أقواها هدف يقيني تؤمن به النفس
وتمنحه كلها، أو صلابة نفسية داخلية تعززها ظروف الضغط نفسها والتحديات
التي تفرضها، أو قدوة صالحة ونموذج إنساني ناجح يمد الإنسان بالأمل في
الإصلاح وقدرته على التغيير، أو بهذه كلها مجتمعة.

واضح
أن الشعوب العربية لديها عمق واحد وخبرات متشابهة أو متقاربة جدًا، وقائمة
القيم التي تتبناها مشتركة أو واحدة، ولذلك كان الحراك الشعبي في واحد من
البلدان العربية يحرّض بواعث الثورة في البلدان الأخرى لأنه يعبر عن تطلعات
شعوبها إلى التغيير، ويدغدغ أحلام الحرية المكبوتة لديها، ويحرك جراحات
كرامتها المهدورة، وإن نجاح ثورة من الثورات يضاف إلى قائمة الخبرات، ويعيد
صياغة العمق الفكري للشعوب العربية الأخرى ببرامج وأدوات يتم استقلابها
وتمثلها من قبل كل بلد بحسب ظروفه الخاصة ومشكلاته المحلية وإعادة إنتاجه
في ثورة ذات نكهة خاصة وملامح مميزة.. وتُشحن طاقة الأمل بمزودات جديدة
تمدّها على طول الطريق.

3- قدوة (نخب قيادية ـ نموذج):

الأهداف
هي في الأصل أفكار ذهنية مجردة تبلغ أقصى ثقلها الواقعي عندما تتجسد في
أشخاص أحياء يعيشونها وينجحون بها، ويتبنون مواقف تبرهن عليها، ويبادرون
إلى التضحية والبذل في سبيلها، ويتحول هؤلاء الأشخاص إلى نخب أو قدوة
تحتذيها الأمة وتتبعها وتسلمها قيادها. إن القوة التأثيرية للقدوة تأتي من
منح الأفكار المجردة قوة الإيقان ومادية الوجود، وتجسيدها في صور واقعية
وفي أشخاص عاديين يعيشون واقع شعوبهم ويعانون معاناتها، وهذا يجعل القيم
سهلة التمثل من قبل العامة، وينقل شرارة العدوى إلى كل قاعد وساكت أو مؤمن
راضخ، فأكثر الناس يتحركون بالتقليد والمحاكاة، وصِدْق الحال يُعدي.

وقد
شاهدنا في الثورات العربية كيف استطاع الشباب أن يقدموا النموذج الجدير
بالاحتذاء إلى شعوبهم وأن يصيروا قدوة للنخب التقليدية التي ظلت زمنًا تقود
مشروع التغيير والإصلاح من دون جدوى، حتى سلمت لهم تلك النخب بالقيادة،
وأعطتهم براءة الاختراع، وهذا تعبير الشيخ الزنداني لثوار اليمن الذين
أحرجوا معارضتها كما يقول الزنداني، وبالفعل فشباب الثورة الذين امتلكوا
زمام المبادرة سُلموا قيادة الثورة، ولم يقف دورهم عند حد الإلهام الروحي
فقط، بل أداروا الثورة بمنطقهم العصري المتقدم، وأدواتهم العلمية الحديثة
التي يحسنون التعامل معها واستغلالها في حربهم العادلة.

ولكن
الثورات لا تنهض على أكتاف ملهميها وقادتها فقط، بل تحتاج إلى قوتها
الحقيقية؛ تكتل الشعوب ومشاركة الأمة، وصحيح أن التغيير يبدأ من القمة
ولكنه لا يتحقق إلا إذا تبنته القاعدة الشعبية العريضة، وانخرطت فيه وشاركت
في تنفيذه.. ولذلك فالشرط التالي للهدف الثوري هو:

4- الإجماع (القاعدة الشعبية):

لا
يمكن أن يتطلع هدف من الأهداف إلى أن يكون مبدأ ثوريًا يحرك الجماهير ما
لم يحظ بإجماع كلي يلتمّ حوله ما يزيد على 70% من الناس كما يقول الكواكبي،
وتكتسب الأهداف إجماعها من عمقها وقدرتها على تمثل المصالح الحيوية للناس،
معنويًا وماديًا، وصحيح أن الأفكار الثورية تبدأ من القمة ولكنها لا تكون
فاعلة في مشروع إصلاحي شامل ما لم تعتنقها القاعدة.

وأحيانًا
تحظى الأهداف الثورية بإجماع ضمني غير معلن وغير مدرك تسهم الخبرات
الطويلة في تكريسه وتعميقه وحشد الناس حوله، ولا يتجسد الإجماع إلا في لحظة
تنفجر فيها إرادة الناس عن وحدة حال غير متوقعة تفاجئ الناس كما تفاجئ
الأنظمة.

لقد منحت الأنظمة العربية شعوبها مادة جديدة
للالتحام والتكتل بعد عهود غلبت فيها رياح التجزئة والطائفية والاقتتال
الحزبي والبيني، فالظلم والذل والفساد معاناة مشتركة تجرعها أغلب الناس في
مختلف المواقع أو لمسوا آثارها المدمرة، على مدى من الزمن ثبت للناس فيه
عدم جدوى محاولات الإصلاح والحوار والتفاهم، أو لانعدام فرص الإصلاح أصلاً،
والضغط يولد الانفجار ويحزم الذرات غير المتناهية ثم يطلقها طاقة لا
تقاوَم، وهذا يعني أن الدول التي تعاني من ضغط أكبر تنفجر قبل غيرها،
وتحاول الأنظمة تنفيس شيء من هذا الضغط وامتصاص كمية من الغضب بمنح وعطايا
ووعود إصلاح متأخرة!!

دائمًا يوجد 25% من الناس
منتفعون ومتورطون مع الأنظمة، وهؤلاء قد يحاربون الثورة ولكنهم لا يؤثرون
في نتائجها لأنهم أولاً قلة، وثانيًا لأن الله ضمن للمخلصين حمايتهم من هذه
الفئة المخادعة الخائنة إذ قال: "وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو
الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم.."، وهم لا يضرون إلا حين
ينتزع الإخلاص من الصدور، وثالثًا لأنهم ليسوا من أصحاب القضايا والمبادئ،
وسرعان ما ينقلبون إلى الكفة الراجحة لاحقين بمصالحهم.

كما
توجد نسبة هائلة من الحياديين أو غير المعنيين بشؤون الحكم والإصلاح، أو
المطحونين بطاحونة الرزق التي لا ترحم، وهؤلاء يحركهم ما يمس وجعهم ويقدر
على أن يتصل ببساطة بمعاناتهم.

ولعل أبلغ لغة خطاب
يفهمونها هي لغة المواقف والتضحيات التي تجسد القيم التي تحملها الثورة في
سلوك لا شعارات، وتغدو الأهداف النبيلة مجسدة في أشخاص يتحولون إلى قدوة
حية تمنح القيم الحياة والوجود الواقعي، وقد تجسدت هذه الحالة في شخصية
البوعزيزي الذي أوقد بنفسه النار مجسدًا باللهب الأسود ألم الشعوب العربية
المكبوت وأطلق بألمه شرارة ثورة تاريخية.

5- تدفق المعلومات ووحدة الحال:

الأفكار
تكتسب قوتها وإيقانها من تشاركها بين الناس وتأييد الآخرين لها وتداولها
فيما بينهم، والأفكار ـ بالخير والشر والسلب والإيجاب ـ تُعدي، كما الأحوال
تُعدي، والفكرة حبيسة الكتب أو حبيسة الجدران لا تحقق تغييرًا بل لا بد
لها من الانتشار والترويج والمشاركة والتفاعل حتى تتحول إلى قوة بشرية
تتبناها وتدافع عنها وتسعى إلى تحقيقها، وحين تروج فكرة في جيل فإنها تمنحه
طابعها وتجنده في خدمتها وتجمعه حولها.

ولأهمية
تداول الفكرة اعتادت الأنظمة القمعية على منع تداول المعلومات وتعقب
المنشورات، بيد أن الانفتاح الإعلامي والإلكتروني والتقني منع الأنظمة من
السيطرة على تداول المعلومات، ويسر الوصول إليها والاطلاع على الحقيقة التي
عمدت الأنظمة إلى تزييفها وإخفائها وانتهجت برنامج غسيل أدمغة منظمًا في
هذا السبيل، كل ذلك أوجد وحدة حال بين شعوب العالم العربي والإسلامي تقوم
على تشارك الحدث في زمن الحدث والمبادرة المباشرة بالفعل المناسب، كما شكل
لحمة افتراضية بين أجيال الشباب، وعمّق فيما بينهم ثقافة مشتركة، ومنظومة
مشتركة للمفاهيم والقيم.

وقد كان لموقع التواصل
الاجتماعي الفيس بوك الثقل الأكبر في التحضير للثورة، ولقناة الجزيرة
الإسهام الأهم في رفد الثورة ودعمها على أرض الميدان.

كل
ذلك يذكرنا بما قيل عن أن صعوبة تدفق المعلومات في الدولة العثمانية
مترامية الأطراف أسهمت في إضعاف الروابط بين أطراف العالم الإسلامي وخففت
من وحدة الحال بين شعوبه، ويستحضر إلى وعينا ما قيل عن أن اختراع المطبعة
كان أحد عوامل نهضة الغرب الحديثة، وكذلك هنا اليوم، أدى تدفق المعلومات
الإلكترونية وسهولة الحصول عليها إلى خلق بيئة علمية ثقافية عالية عوضت
الضعف السائد في أنظمة التعليم العربية وتأخرها عن الركب الحضاري، ففيضان
المكتبات والدورات المجانية في شتى المجالات وفسح النقاش والحوار..

كل
ذلك رفع مستوى الوعي والثقافة في جيل الشباب حتى صار أحدث زمنيًا وأكثر
تقدمًا علميًا من برامج القمع والتضييق والملاحقة التي تستند إليها
الحكومات وقد أدى هذا إلى تفوق الثوار على خطط السلطة ومجيء ردود أفعالها
دائمًا متأخرة وغير مجدية أو مقنعة.

6- الشعار:

تحتاج
الأهداف الثورية لكي تكون محركة إلى اختيار "الشعار" الصحيح لها، وصياغتها
في صيغة واضحة بسيطة سهلة التداول تحمل محتواها الضخم، وتركّز رسالتها
متعددة المستويات، وتجسّد المصالح المجتمعة فيها؛ فالشعار يمنح الأفكار
والأهداف التركيز المطلوب لتوحيد إرادات الأفراد وغاياتهم المشتتة، والشعار
يجسد الإجماع الشعبي ويصوغه في كلمات بسيطة قابلة للتداول قريبة من فهم
البسطاء والعامة.

ولما كانت الثورات العربية بنت
شعبها فقد عبرت عنه بأبسط شعار وأظهره وهذا الشعار قد وجدناه يمتد من
المحيط إلى الخليج ليلخص تاريخًا طويلاً من المعاناة المشتركة، ويعبر عن
يقين واحد هو أن الأنظمة وحدها هي المسؤولة عن مشكلات الأمة كلها، أما
الفقر والبطالة والمحسوبية والأمية والتخلف والذل والهزيمة فكلها أعراض
لداء واحد هو "النظام"، فكان الحل من وجهة نظر هذه الشعوب في الشعار
القائل: "الشعب يريد إسقاط النظام".

إنه يتجه مباشرة
إلى المسبِّب وإلى علة الداء، ولذلك لم يكن يسيرًا قبول الثوار التفاوض ولا
المساومة ولا تمرير وعود الأنظمة بإصلاح إسعافي مهما بدت جديتها كما هو
الحال في اليمن.

وإذا كان شعار إسقاط النظام قد فعل
فعله الثوري في الثورات المنجزة أو التي هي قيد الإنجاز حتى الآن، فقد لا
يكون مجديًا في التحريض على الثورة في الأقطار الأخرى، وهنا تبرز حصافة
الثوار ومدى وعيهم بواقعهم وبالظروف الخاصة لشعوبهم وطبيعة أنظمتهم، ولذلك
لم يكون إسقاط النظام مطلبًا ثوريًا لدى عموم المغاربة، ولم نسمعه في
سورية.

إذًا كان الهدف الثوري بعوامل تخلقه المتنوعة هو أول شروط الثورة، وإن ثاني هذه الشروط هو الطاقة..

- ثانيها: الطاقة (دوافع الثورة):

لكل ثورة مصدر للطاقة يمدها بالدوافع اللازمة للتخلّق والتحرك والصمود، وكلما كان مصدر الطاقة أعمق كانت قوة الدفع أقوى وأشدّ..

ولعل
أهم مزود لطاقة الثورة هو ـ بحسب ما ذكرنا ـ الهدف الثوري الذي يتبلور على
ضوء تحديات ضخمة، في الغالب، وحين يتضخم حجم الآلام والمعاناة وقسوة
التحديات، وترتفع نسبة هذا التضخم عن الحد المعقول تبدأ تبشر بانفجار يمدّ
الثورة بالطاقة اللازمة، والتحديات هي التي تبلور الأهداف الثورية وتمنحها
عمقها، وتمدها بتصور مشرق للمستقبل مسكون بالأمل والتحدي والإمكان بل
بالإيقان. فوعي الألم يحمل على العمل، والتحرّق يسبق دائمًا التحرك كما
يقال.

البذل والتضحية هما البلورة العملية للإيمان،
والعادة أن تتجاذب الإنسان دواعي الواجب والإيمان بالقيم من طرف، وإغراءات
المصالح والمكاسب من طرف آخر، وكلما اتسعت فرص المكاسب ضاقت ميول الفرد إلى
التضحية وتحددت علاقاته بالواجب بقيمة المصالح المرتبطة بها، وحين تتقلص
فرص المصالح، إلى درجة تنغلق فيها أبواب الضروريات وتنقطع علائق الإنسان
بالحياة وتُفسح الساحة أمامه ليصغي إلى نداء الواجب، ويغدو الموت الطيب
السبيل الوحيد إلى الحياة الطيبة. أي إنه كلما ضيقت الأنظمة على شعوبها فرص
الحياة، قادتها مباشرة إلى الموت في سبيل هدم صروح هذه الأنظمة واقتلاع
عروشها واجتثاث أسباب معاناتها.

والثورة تحقق إنجازات
ومكاسب على الطريق تمدها بوقود إيجابي داعم، وتلعب الأنظمة نفسها وقسوتها
في التنكيل بالثوار دورًا رئيسًا في رفد الثورة بالطاقة اللازمة للتماسك
والاستمرار، فكلما سالت دماء أكثر تورطت فئات أكبر في الثورة، وخرجت عن
سلبيتها وسكونها.. وأمام عظمة التضحيات وجلال مواقف الفداء تجد الناس نفسها
مضطرة إلى الانخراط والتفاعل الإيجابي مع الأحداث، وبالتالي تتسع دائرة
الثورة والثوار لتتحول من فئات ثورية إلى شعب ثوري.

لا
تقدر الثورات على تحقيق إنجازات إذا كان قادتها أو أفرادها مترددين في
الاعتقاد بإمكان النصر، ومهما كان ميزان القوى غير متكافئ فإن الإيمان
بالهدف وقوة الأمل والإيقان بحتمية النصر كل ذلك قادر على تعديل ميزان
القوى، وليست العبرة بالسلاح ولكن باليد التي تحمله، وعلى هذا الأساس فإن
من واجب الثوار أن ينقلوا هذا الأمل إلى الآخرين، ويرسخوا لديهم القناعة
اليقينية بالنصر، في أقوالهم وأفعالهم.

ولن تستطيع
الآلام أن تكون قوة إيجابية إذا لم تعادلها قوة اليقين الإيجابية بالنصر
والأمل بالمستقبل والاعتقاد الراسخ بالقدرة على تحقيق الإنجازات. ثم تتكفل
إنجازات الثورة نفسها بمدّ الثورة بالوقود والطاقة لاحقًا، فأكثر الناس
يتبع المنتصر، وعندما تلوح بوادر النصر، تمتد مساحة الثورة، وتجذب إليها
أنصارًا جددًا..

الأخلاق مصنع كامل للدوافع
الإيجابية، وبقدر ما يجسد الثوار في أفعالهم وأقوالهم مواقف أخلاقية بقدر
ما يجتذبون إليهم مؤيدين، ويكسبون إلى طرفهم معارضين حقيقيين ومحتملين أو
يحيدونهم، وبقدر ما يمثلون مصالح فئات متنوعة بقدر ما يضمنون ولاءها
ومشاركتها. لقد استطاع الثوار أن يكسبوا الجيش في صفهم أو يحيدوا قوته
العسكرية بتأكيد سلمية ثورتهم وتثمينهم الدم الوطني، وبمبادرات إسعاف رجال
الشرطة المصابين في الميدان، ومشاركتهم بالزاد والمؤونة.

كما
استطاع الثوار أن يخلقوا وحدة حال بين الفئات المتباينة في المجتمع الواحد
من خلال إبراز الهم المشترك الذي هو مضمون الهدف الثوري نفسه على حساب
التباينات، فاتحد المسلمون والمسيحيون، والمتدينون والعلمانيون، الفقراء
والأغنياء، تحت مظلة إسقاط النظام.

أحيانًا تتقاطع
مصالح الثورة مع مصالح فئات تعادي الثورة في الداخل والخارج فتقدم هذه
الفئات دعمًا للثورة وتكون درعًا حاميًا لرجالها رغمًا عنها حفاظًا على
مصالحها.

ففي مصر حمت النوايا النبيلة وغير النبيلة
الثوار فهلع أمريكة وإسرائيل من تهديد أمن إسرائيل، وخشيتهما من أن يقفز
الإسلاميون إلى السلطة إذا خرجت الثورة عن شرطها السلمي إلى الكفاح المسلح
وحصل انفلات أمني يهدد حدود إسرائيل الجنوبية..

كل
ذلك دفع إسرائيل وأمريكة إلى تأمين الثورة وحمايتها عن طريق الجيش الذي ظل
ممسكًا بزمام التحكم إلى النهاية، بل إن بداية الانشقاق داخل الجيش وإعلان
انضمام بعض عناصره الشابة إلى الثورة عجل بحسم المسألة لصالح الثورة، وأكره
مبارك على التنحي..

ولا يخلو أي نظام من وجود أعداء
له من داخله، وهؤلاء يعلنون عن أنفسهم ويدعمون الثورات في اللحظات الحاسمة
أو في الزمن المناسب، ويشكلون مصدرًا خصبًا يمد الثورة بالطاقة والدعم
لأنهم يفككون النظام من الداخل ويعلنون عن انحلاله الذاتي.

- ثالثها: الوسيلة الذهبية (الوسائل والبدائل والديمومة):

تظل
الأهداف الإصلاحية باحثة عن تحققها الواقعي محاولة اكتشاف طريق هذا التحقق
من خلال تراكم خبرات النجاح والفشل، ومن خلال هذا التراكم يتفتق الوعي
الجمعي عن وسيلة ذهبية تكون حاسمة الفعالية في حل المشكلات الكؤود
المستعصية، وحين ينسد أفق الوسائل الإصلاحية، تتضاعف فرص الثورات.

وقد
اختبرت هذه الأمة الكفاح المسلح والانقلابات العسكرية والانتخابات
السياسية والأحزاب النضالية من دون جدوى، فقدمت لها تونس خبرة أنتجت عفويًا
استجابة ارتجالية لحدث هزّ الضمائر ومسّ جوهر الألم العربي، وقدمت ما
يسميه توينبي بـ"فرصة ذهبية" تجسدت في انتفاضات الشعوب العربية سلميًا، وقد
اختُبرت الوسيلة في مصر وليبيا وأثبتت نجاحها في حين تنتظم الشعوب العربية
الأخرى لاختبارها أو اختبار جدواها في واقعها الخاص، وبين يديها نماذج
ناجحة متنوعة، والنجاح يغري بالمحاكاة.

لقد ظن كثير
من الشباب أن إشعال النار في أنفسهم هو الوسيلة الذهبية لحل مشكلات
مجتمعاتهم العويصة، ولكن الأيام أثبتت أن الشحنة التي فجرها مشهد احتراق
البوعزيزي ما كانت إلا شرارة إطلاق الضغط المختنق تحت قشرة رقيقة هشة، وأن
الانتحار المؤلم بالنار لا يحل مشكلة ولا يمثل وسيلة ذهبية، فقد أشعل كثير
من الشباب أنفسهم في الجزائر ولم يتحرك أحد ولم تحدث ثورة، فتجاوزت الشعوب
هذا التقليد الثوري واقتنعت بعدم جدواه فضلاً عن عدم حلّه شرعًا.

إذا
كان الارتجال هو الذي كشف للأمة عن وسيلتها الذهبية، فإن الزمن ليس كفيلاً
بمنح الأمم أكثر من هذه الفرصة، وعلى الشعوب أن تناضل لاكتشاف وسائلها
الذهبية التي تكون أحيانًا خاصة بكل تجربة ثورية على حدة.

فقد
ابتكرت الثوار وسيلة اللجان الشعبية لصد اعتداء البلطجية على الممتلكات
والأحياء، وحرصوا على التوثيق الإعلامي لإنجازات الثورة، واعتداءات الأنظمة
بأيسر وسيلة يملكها كل فرد هي عدسة الجوالات، ثم وجدنا المصريين يبتكرون
وسائل ذهبية خاصة بواقعهم، تبدأ من حس الفكاهة، وتنتهي بالاعتصامات لحماية
مكتسبات الثورة، ومشاركة الشعب في جمع ملايين الأفكار لتطوير مجتمعهم..
وحين تسلحت كل الثورات بالوسيلة الذهبية (المظاهرات السلمية) تحول الليبيون
إلى الكفاح المسلح لحماية ثورتهم وإنجاحها.

إن
الثورة هي وسيلة واحدة من وسائل الإصلاح، وأداة من أدوات التغيير، وحين
تُسدّ منافذ التغيير السلمية تضطر الشعوب إلى ركوب موجة الثورة العالية
ودفع مستحقاتها المرتفعة، وهي لا تلجأ إلى وعورة طريق الثورة وارتفاع
ضريبتها إلا إذا اضطرت إلى ذلك.

وقد مرّت الدعوة
الإسلامية بمراحل استعانت في أولاها بالدعوة السرية، ثم تحولت إلى الدعوة
العلنية من غير عنف ولا صدام، مع تشريع الهجرة لئلا تفنى العصابة المسلمة،
ثم أذن للمسلمين بالقتال حين أسسوا دولة المدينة، وقد حدد طبيعة الوسيلة
نتائجُها بالنظر إلى معطيات الواقع وشروطه.

ولذلك،
فإن ابتكار الوسيلة الذهبية يحتاج إلى مرونة عالية توازن بين الثوابت
والمتغيرات، والوسائل والأهداف، ووعي بمتطلبات المرحلة، فأحيانًا تتحول
الوسائل إلى معيقة للوصول إلى الأهداف التي وجدت لأجلها ولا بد حينئذ من
تجاوزها، أو ابتكار وسائل أخرى أكثر استجابة لخصوصية التجربة، والأكثر
مرونة هو الذي يكسب الجولة..

أثبتت الشعوب العربية
مرونتها الفائقة في تعلم الدروس واكتناز الخبرات وتجاوبت معها بمرونة
فائقة، فكل ثورة قدمت لنا خبرة جديدة سرعان ما أحسنت الشعوب العربية الأخرى
استقلابها وأعادت إنتاجها بعلامة مسجلة فريدة وببصمة لا تمحى، فالدروس
الحضارية تُتمثل إيجابيًا وبسرعة في حال امتلكت الشعوب أرضية خصبة لتقبلها
وإنباتها.

وقد برهنت الشعوب العربية بذلك على أنها
ليست ساذجة بسيطة كما اعتادت أنظمتها أن تصفها أو تتعامل معها، بل لقد كشفت
لنا الثورات أن الحكام بأنظمتهم البوليسية قد تصلبوا إلى درجة لم تسمح لهم
بسرعة الاستجابة للواقع، وأفقدتهم المرونة في التعامل مع مستجدات الشعوب.

فنراهم
واحدًا بعد آخر يعيدون الكرة ويستخدمون الأساليب العنيفة العقيمة القديمة
نفسها التي أثبتت الثورات فشلها في قمع انتفاضات الشعوب باستخدام القوة
المفرطة، وافتعال فلتان أمني مقصود، والاستعانة بالمرتزقة لقمع الثورة،
والسخاء في شراء الذمم بالوعود والعطايا، وتصريحاتها وتبريراتها الملفقة،
بل على العكس كلما زادت الأنظمة دمويتها عجلت بنهايتها لأن الدم يستدعي
الدم، ويحفز دوافع التضحية والفداء، ولو فكرت الحكومات أن تلجأ إلى المرونة
والوعود الجدية بالإصلاح لجاءت النتائج مخالفة، فقد عجّل النظام الجزائري
إلى إلغاء قانون الطوارئ وسيلة لتفريغ شيء من الضغط الشعبي ومنع سريان
العدوى الثورية.

الثورات قد تمر بكبوات وانتكاسات،
ولكن قدرتها على الصمود والاستمرار تأتي من وعي أهدافها، ووضوح مرجعيتها
الثورية، ومرونتها في الاستجابة للعقبات والمتغيرات وابتكار الوسائل
العملية اللازمة، وطاقة صمودها أمام العقبات والتحديات، وإنما النصر صبر
ساعة.

ففي مصر كاد بعض الثوار يميلون إلى إنهاء
الثورة بعد خطاب مبارك قبل الأخير الذي رفض فيه التنحي، خشيةً منهم أن يراق
مزيد من الدماء، ولكن الموازنة التي فرضت استمرار الثورة، وكانت واضحة
لعموم الثوار أن الدماء التي أريقت فعلاً ستكون بلا معنى إذا توقفت الثورة
ولم تحقق هدفها الثوري المعلن في حده الأدنى؛ إسقاط رأس النظام، وهذا ما لم
يرضوه، فاندفعوا اندفاعة الواثق المستميت، وكان لهم النصر بفضل الله.

تبحث
الثورات دومًا عن ديمومة نتائجها واستمرار مكتسباتها، ويكون لها ذلك بقدر
وضوح مشروعها لما بعد الثورة، وإلا فإن نجاح الثورة سوف يجبّه ما بعدها إذا
انقلبت إلى اقتتال بيني، أو فلتان أمني، أو فراغ سياسي، أو قفز العسكريون
على السلطة..


تحقق هذه المخاطر يرسخ وعيًا مضادًا
للثورة مضمونه أن كل مشروع إصلاحي نذير بفتنة، وأن فعل الثورة ليس حلاً
للمشكلات، وتتسرب العدوى السلبية إلى الشعوب العربية المجاورة. قبل نجاح
ثورة مصر استغل الثوار أوقات الأمن والفراغ في ميدان التحرير لصياغة
مشروعهم لما بعد الثورة.

وبالفعل، بعد نجاح ثورتي
تونس ومصر لم تخل الشوارع من النشاط الشعبي، ولم يستقل أبطال الثورة، بل
أكملوا الدرب لحماية مكتسبات الثورة، واستمروا بالضغط لتقويم مسار الحكومات
المؤقتة، وبقدر عمق الوعي الثوري وترسخ دوافعه في الشعب يمكن ضمان ما بعد
الثورة، وتمكين البدائل التي تفرضها، وحماية مكتسباتها.

-
رابعها: الشرارة: تنطلق الأحداث الكبرى أحيانًا بشرارة صغيرة غير متوقعة،
ليست القوة فيها ولكن فيما قلنا عنه إنه عمق الهدف الثوري وقوة الضغط
المخزون نتيجة التراكم الحاد.. والعادة أن تكون الشرارة مما يمس الوجدان
الإنساني العام، أو الحس الجمعي للأمة، وقد استطاع مشهد اشتعال البوعزيزي
المؤلم أن يمس الوجدان الإنساني، وأن يحرك الحس الجمعي للأمة، ثم أخذت
الأحداث تتعاظم ككرة الثلج المتدحرجة متنقلة من بلد إلى آخر دون أن تعرف
التوقف.

قد تُصنع هذه الشرارة وقد تأتي تقديرًا،
والدماء تؤجج الدماء وتكون خير شرارة لانطلاق الثورات، وبعض الثورات تأتي
نتيجة مواقف مخزية أو مذلة يرتكبها النظام، فقد يصبر الشعب أحيانًا على سجل
المظالم أحيانًا إذا سندته مواقف وطنية مشرفة، ولكنه سرعان ما يُفتحه على
مصراعيه إذا مسّ الشرف الوطني ونكّس النظام رأس شعبه وطعنه في كرامته
وقيمته العليا.

وننتهي بالكلام على مكتسبات الثورة:

ليس
يهمني في هذا العرض أن أبرز المكاسب السياسية للثورات العربية، فهذا ما
تتداوله وسائل الإعلام بإسهاب، ولكن الغرض الكشف عن القوة الحضارية في
الحركة الشعبية، ويمكن أن نستعرض تلك القوة من خلال مجموعة من الفوائد:

يحوز
الطريق من يملك المبادرة، لأول مرة في تاريخ العرب الحديث تملك الشعوب
زمام المبادرة وتفرض إرادتها على حكامها بل على الغرب وتلجئ الطرفين إلى
موقع رد الفعل ومحاولة الاحتواء والتكيف مع أفعال هذه الشعوب.

يصدر
الفعل عن حي لا عن ميت، وقد برهنت الحركات الشعبية وثورات العرب اليوم على
أن الحياة قد دبت من زمن في الشعوب العربية بعد يأس الهزائم ورغم قمع
الأنظمة، وأنها كانت تتحفّز للوثوب إلى أن جاءتها الشرارة المناسبة، فالفعل
هو علامة على وجود الحياة لا موجد لها، ولكن الحياة أخيرًا اتخذت لها
شكلاً ثوريًا اجتماعيًا سياسيًا، وتجسدت في إرادة جماعية متماسكة، وأقوى
الأمم تلك التي تمتلك دوافع لتحريض النزوع الجماعي، وتوحد الأفراد تحت مظلة
مطالب عليا تشكل هوية الأمة ورؤيتها الجامعة.

التغيير
الحقيقي يأتي من الداخل لا من الخارج: اكتشفت الأمة أن التغيير إذا لم
يتحقق بإرادة الشعب ومبادرته فإنه سطحي عقيم ومن غير جدوى، ولا يجر على
الأمة إلا الويلات، وأنها لا تحتاج إلى مساعدة الغرب لتحل مشكلاتها، بل إن
تدخل الغرب يورط الأمة في مشكلات إضافية كما رأينا في احتلال العراق، وإن
تحييد الغرب عن طريق تهديد مصالحه واستغلالها أفضل وسيلة للتعامل معه.

القوة
الأخلاقية للأمة العربية المسلمة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، و"العفو عند
المقدرة"، "رسالة الرحمة".. هي مفردات المنظومة الأخلاقية الراسخة التي
أبرزتها الثورات العربية في صورتها العفوية في تسامح الشعب الثائر وسمو
روحه ورحابة صدره ورحمته، وفي تلاحم أطيافه وفئاته وطبقاته، وحرصه على
حماية ممتلكاته العامة والخاصة، وتقديره قيمة الإنسان، وحذره من إهدار
الدماء..

شاهدنا هذه الصور الأخلاقية الرفيعة في
الثورات كلها التونسية والمصرية والليبية واليمنية.. وهي بهذا تقدم نموذجًا
إنسانيًا جديدًا للثورة يذكرنا بفتح مكة، وفتوحات الحضارة الإسلامية،
وينسينا دموية الثورة الفرنسية، ومذابح الثورة البلشفية..

شعب
ينجز ثورة هو شعب مسؤول يشعر بالانتماء إلى وطنه وقضيته، ولذلك كانت
أدواره في الثورة لا تتوقف عند حد البذل والتضحية والاعتصام، بل شملت مهمات
تنظيم السير، والانخراط في اللجان الشعبية لحماية الممتلكات، وانتفض
الشباب بعد الثورة لتنظيف الشوارع والمشاركة بالأفكار لبناء البلد ودعم
مشاريع تطويره.. لقد قدمت الشعوب العربية بوعيها وإحساسها العالي
بمسؤوليتها للعالم نموذجًا راقيًا للثورة لا يعرف التخريب ولا الانتقام أو
التصفية المنظمة ولا ينتهي إلى فلتان أمني أو اقتتال بيني، لتطعن بهذا في
نزاهة تصنيفها في طبقة "العالم الثالث"، ولتصير هادية الأمم ومعلمة الشعوب
ومدرسة في الحرية والنضال وتقرير المصير تصدّر قيمها إلى العالم من جديد،
"لا تكلمنا على القيم البريطانية، أنا مقتنع بالقيم المصرية"، هذا ما قاله
البريطاني جون ريس مخاطبًا رئيس وزارته.

مبادرة فرد
قد تغير مصير أمة؛ فلا تحقرن نفسك، وراقب أفعالك، واحرص أن تكون مبادرًا،
وعليك البداية وعلى الله التمام، وما النصر إلا من عند الله.

الإصلاح
يبدأ من الآن.. نجاح الثورات العربية لا يعني تحقق مشروع الإصلاح، بل زوال
العائق الرئيس في سبيل الإصلاح فقط، ومشروع الإصلاح يبدأ من الآن.. ولا بد
له من أن يتعرض لعقبات جديدة وتحديات غير متوقعة وعليه تجاوزها وتحديد
خياراته المصيرية تجاهها.

قوة الأمل وشجاعته.. إذا لم
تحقق هذه الثورات شيئًا فيكفي أنها منحت الأمل للشعوب العربية المقموعة،
وأعطتها قوة الجسارة، والإحساس بالمسؤولية تجاه واقعها، وأفرغت قلوبها من
الخوف الزؤام الذي كان يكبلها ويعيقها عن أية مبادرة.

قوة
الشعوب تنبع من إيمانها ووحدتها وتكتلها، فقد برهنت الثورات على أن
الإيمان والوحدة قادران على التصدي لقوة السلاح وآلة الفتك بالأجساد
العزلاء والصدور العارية وحدها، وأن فيضان الجموع البشرية المؤمنة قادر على
أن يجتاح عروش الظالمين ويجرفها إلى مزبلة التاريخ في لحظة تاريخية لا
تحسب من عمر الزمان، لتسقط بذلك نظرية التكافؤ العسكري التي تخدع بها
الشعوب الضعيفة.
وما بين الشروط والمكتسبات أنجزت ثورات، وأخرى ما تزال في طور التشكل..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

ندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات :: تعاليق

هذا هو التحدي الاكبر الخروج من الشروط الثورية اهمها اسقاط النظام الى تحصين مكتسبات مطالبها هنا دور النخب الطليعية الثورية ان وجدت
 

ندما تؤمن الشعوب.. الثورات العربية من الشروط إلى المكتسبات

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الشعوب العربية تخذل الثورة السورية
»  لنصغِ إلى ما تريده الشعوب الفزاعات الورقية للنظم العربية
» لابديل عن الحكومات العلمانية كحل لمشاكل الشعوب العربية الاسلامية .
» سوريا.. آخر محطات الثورات العربية
» الثورات العربية ومشروعية التساؤل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: المكتبة الشاملة-
انتقل الى: