التأويل وهاجس وحدة الحقيقة عند ابن رشد | توفيق رشدي0توفيق رشدي
إذا كانت إشكالية التأويل في علاقتها بإشكالية العقل والنقل في المعرفة الإسلامية، قد برزت عند أهل البيان في شكل ثنائية اللفظ والمعنى، وعند أهل العرفان في شكل ثنائية الظاهر والباطن، فإنها تجسدت عند أهل الفلسفة في شكل نوعية العلاقة الموجودة بين الحكمة والشريعة.
ولما كان ابن رشد أحد الأعلام الذين نبغوا في منظومة المعرفة الإسلامية، جامعا بين الفقه والفلسفة، فإنه كان محتّما عليه في لحظة من اللحظات اتخاذ موقع معين من إشكال العقل والنقل، وليس يتاح له ذلك إلا بتحديد علاقة الحكمة بالشريعة.
فكيف عالج ابن رشد إشكالية علاقة الحكمة بالشريعة، وكيف انبنت على ضوئها رؤيته لإشكالية التأويل؟
I– علاقة الحكمة بالشريعة عند ابن رشد: تآخي العقل والنقل.
“وإذا كانت هذه الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”[1].
إن الحكمة والشريعة عند ابن رشد في وفاق تام، من حيث إنهما ينشدان حقيقة واحدة، وهذه الحقيقة في النهاية ليست شيئا آخر غير “الفضيلة”[2].
1- وحدة الحقيقة و اختلاف طرق الوصول إليها:
إذا كان ابن رشد يعتقد بأن: “الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة”[3]، وأن الحكمة والشريعة “مصطحبتان بالطبع، متحابتان بالجوهر والغريزة”[4]، وأن الحقيقة بين الحكمة والشريعة واحدة، فإن هناك سؤالا قويا يعترض هذا الطريق: لماذا وجدت الشريعة والحكمة معا. ألم يكن في الكفاية وجود إحداهما دون الأخرى؟
لقد وجد ابن رشد المخرج لذلك فقال: “إن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان للأقاويل البرهانية”[5].
إنها طرق ثلاثة لتحصيل الحقيقة، ثلاثة مستويات، فإنه “لما كانت طرق التصديق منها ما هي خاصة بأقل الناس وهي البرهانية، كان الشرع مقصده الأول: العناية بالأكثر من غير إغفال تنبيه الخواص، فكانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر”[6].
ولا عجب، فإن “في تعلم الأقاويل البرهانية من العسر، والحاجة في ذلك إلى طول الزمان، لمن هو أهل لتعلمها. وكأن الشرع إنما هو مقصوده تعليم الجميع”[7].
وتبعا لذلك يصبح لوجود الحكمة معنى: إن الحكمة مطيّة أهل البرهان لفهم أعمق للشريعة.
2- وحدة الحقيقة بالتأويل:
يعتقد ابن رشد بأن الحقيقة بين الحكمة والشريعة واحدة، وإنما تتعدد طرق الوصول إليها، بحيث تصبح الحكمة مخصوصة بأهل البرهان. فكيف تتحصل وحدة الحقيقة بين الحكمة والشريعة عند أهل البرهان؟
يحسم ابن رشد في ذلك موضحا: “فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو عرف به.
فإن كان قد سكت عنه، فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي.
وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هنالك، وإن كان مخالفا طلب هنالك تأويله”[8].
وهكذا يصبح التأويل السبيل الأوحد عند ابن رشد لتحقيق الوفاق الأولي بين الحكمة والشريعة، ووسيلة استمرار وحدة الحقيقة بينهما.
II– قوانين التأويل عند ابن رشد:
بعد هذا التأطير الإشكالي العام لسياق التأويل عند ابن رشد، ننتقل إلى تعرف قوانين التأويل لديه.
1- مفهوم التأويل عند ابن رشد:
يحدد ابن رشد مفهومه للتأويل فيقول: “هو إخراج دلالة للفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز عن تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عدت في تعريف أصناف الكلام المجازي”[9].
ومن خلال هذا التعريف يتضح أن التأويل عند ابن رشد صناعة لغوية بالأساس، لذلك نستطيع أن نقول: إن ابن رشد لم يخرج عن الإطار البياني العربي، بحيث راعى وظيفة اللغة الضبطية التقييدية القياسية،كما راعى فيها المنطق البنائي العربي الذي حكم علاقة اللفظ و المعنى .
2- الظاهر والباطن عند ابن رشد: مجال إعمال التأويل.
اقتنع ابن رشد بأن نصوص الوحي فيها ما هو مقصود بظاهره، وفيها ما هو مبطّن يتطلب إعمال التأويل. وهذا المبدأ وإن أخذت به طوائف عرفانية، فإن ابن رشد اختلف عن هذه الفرق في هذا الاعتبار، وذلك لأنه يرى بأن نصوص الظاهر ملزمة في الفهم الظاهر للجميع، عوام وخواص، بعكس ما يذهب إليه أهل العرفان من التمييز بين ظاهر للعامة، وباطن للخاصة.
لقد أيقن ابن رشد بأهمية الفاعلية التأويلية في المحافظة على وحدة الحقيقة بين الشرع و الفلسفة، وبين أهل الظاهر و أهل الباطن و هذا ما دفعه إلى تحديد قوانين منهجية للتأويل تضمن الدقة في إعماله؟
3- قواعد التأويل عند ابن رشد:
1- مراعاة خصائص الأسلوب العربي في التعبير: لما كان التأويل منصبا في عمله على نصوص، والنصوص لغة في مبناها، فإن خصائص اللغة وسمات الأسلوب العربي في استعمالها لابد أن تكون محل اعتبار في كل نشاط تأويلي. وقد أشار ابن رشد إلى ذلك في تعريفه للتأويل حين قال: “من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز”، واشترط في كل تأويل ألا يخرج عن “قانون التأويل العربي”[10].
2– احترام الوحدة الداخلية للشريعة، والهاجس في ذلك هو التأكد من عدم التناقض في الفهم، ويشترط ابن رشد، تجنبا لذلك، ألا يلجأ إلى تأويل القول الشرعي إلا “إذا اعتبر وتصفحت سائر أجزائه”[11].
كما أنه ينبغي على الراسخين في العلم أن يبرزوا الوحدة الداخلية للخطاب الديني متى برز التعارض بين ظواهر النصوص، وهذا نوع آخر من التأويل والاجتهاد لأن “السبب في ورد ظواهر النصوص متعارضة هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها”[12].
3- مراعاة المستوى المعرفي لمن يوجه إليه التـأويل:
ينطلق ابن رشد من مقاربة ديداكتيكية بيداغوجية تراعي الفوارق الموجودة بين الناس على مستوى إيقاع الفهم ودرجاته. “وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك. ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية”[13].
إن وجود هذه الفوارق هو ما أعطى للتأويل خصوصياته عند ابن رشد، فالجمهور، خطابيون وجدليون، لا تجوز لهم ممارسة التأويل ولا ينبغي أن يصرح بمضمونه لهم. إن التأويل, صناعة ومعرفة إنما هو لأهل البرهان.
4- تحديد ما يؤول وما لا يؤول: حدد ابن رشد ثلاثة أصول لا مجال للتأويل فيها وهي: “الإقرار بالله تعالى، وبالنبوات وبالسعادة الأخروية وبالشقاء الأخروي”[14].
ويأتي استثناء ابن رشد لهذه الأصول وإخراجها من تحت سلطة التأويل انسجاما مع الإطار المنهجي الذي يتحرك داخله، وذلك لأنها أصول مشتركة “تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها”[15]، وهي الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية.
وأما غير هذه الأصول العقدية الثلاثة، فإن قبول التأويل فيها من عدمه مرهون بطريقة التصديق فيها و الاستدلال عليها .
4- غائية التأويل عند ابن رشد:
من خلال ما سبق، نتبين أن ابن رشد لم يستحضر التأويل باعتباره أمرا مطلوبا لذاته، بل باعتباره وسيلة خادمة لجملة غايات أخرى في مشروعه الفكري. ويمكن أن نقدم بعضا منها كما يلي:
1- خلق التوافق والانسجام بين الحكمة والشريعة: جعل ابن رشد التأويل أداة الوصل بين الحكمة والشريعة، محققا بذلك غاية عزيزة عنده وهي إضفاء الشرعية على الفلسفة بعد أن حاول التاريخ وبعض رجاله إعدامها.
2- عندما ميز ابن رشد بين الراسخين في العلم والجمهور، فجعل التأويل لأولئك، وجعل الظاهر لهؤلاء، إنما كان غرضه تحقيق وحدة الأمة، فالظاهر له وجه واحد، والأخذ به لاشك أنه موحّد للفهم لدى جمهور الأمة، ولذلك شدد ابن رشد على ضرورة عدم تبليغ الجمهور بمقررات تأويل العلماء، حتى يبقى الجمهور بعيدا عن كل ما يشوش عليه ويخلق فيه الطائفية والاختلاف.
لقد كانت كل جهود ابن رشد العلمية محاولات لاستنبات حداثة حضارية إسلامية أصيلة تنتصر للعقل على حساب البيان اللغوي والعرفان الإشراقي اللذين استنفذا كل عطاءاتهما في القرون الأولى، وتدافع عن مشروعية الفلسفة باعتبارها خطابا قادرا على الدفع بالحضارة الإسلامية في الاتجاه الكوني.
[1] – أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. تحقيق: محمد عمارة، دار المعارف، مصر- الطبعة الثانية، د. تاريخ.
[2] – نفس المصدر السابق، ص:30.