فؤاد فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 786 معدل التفوق : 2214 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 17/12/2011
| | النقد البنيوي التكويني وجهود الناقد محمد عزام في التنظير والتطبيق | |
الاتجاه البنيوي التكويني:
تنطلق المناهج الأمبريقية والجدلية من نظرية «فيبر»، وهو عالم اجتماع مشهور، طلب في فلسفته أن يُقرن التحليل بعلميته وعمليته، استناداً إلى النظرية الجدلية التي أطلقها «هيغل»، وطورّها «ماركس» فيما بعد. وسنذكر نموذجاً من ممثلي هذا المنهج، وأقصد تيودور أدورنو ممثلاً للتيار الأمبيريقي، الذي انتقل من الممثلين الألمان مستفيداً من الفلسفة الجدلية، وقد ارتهن شغله بالأمور
1- مجانبة المباشرة الأيديولوجية، وتأخذ مجالات التبشير العقائدي، فالواقعية الاشتراكية تقوم على التبشير العقائدي للماركسية مثالياً [وبعض مكوناتها من نظرية الانعكاس إلى التفاؤلية إلى جماليات خاضعة للتسويق، وهذا الأمر يحولّ النص إلى مادة تسويقية للفكر]. ونشير الآن إلى أمثلة أخرى لهذه المناهج الجدلية في علم اجتماع الأدب التي انطلقت من هيغل:
أ- الكلية والنمطية عند (جورج لوكاتش): إذا أخذنا «الرواية التاريخية» (1926)، وسبقها بقليل كتابه «التاريخ والوعي الطبقي»، وشرح فيه شيئاً من تناوله للرواية التاريخية.
ب- وثمة تنميط للعلاقات الاجتماعية عند لوكاتش، ولكنه يخضع للمواضعات الاجتماعية، وهذه المواضعات رهينة لعمليات إنتاج المجتمع [لكن التنميط يتعارض مع تعالقه على القوانين الطبيعية]. والمرء مسؤول عن عقده بالنسبة لعلم الاجتماع [النقد الاجتماعي لا يخضع لتأويل الكلام].
2- وانتقل النقد الاجتماعي إلى المنهج البنيوي التكويني، الذي أسسه «لوسيان غولدمان»، ولا يقوم على الكلية والنمطية كما عند لوكاتش، وإنما يقوم على الكلية ورؤية العالم، وتستند هذه النظرية إلى:
أ- المذهب الفينومينولوجي (الظاهراتي): بمعنى أن الظواهر الفردية لا يمكن فهمها بشكلٍ ملموس إلا في إطار تجانس كلي، ويستدعي ذلك عمليات ظهور المجموع كله في العناصر الكلية.
ب- الاستناد إلى الأفكار في تكون رؤية العالم، واستند «غولدمان» في كتابه «الإله الخفي» إلى تحولات فكرة الأسطرة، والأسطرة هي استنباط أفكار من تشكلات اجتماعية بدائية أو بدئية، وهذه النظرية هي التي شكلّت نظرية الأساطير والنماذج الأولية عند «نورثروب فراي».
جـ- قابليات تعدد المعاني باستخدام المعادلات المفهومية لمعطيات وعي النص للعالم، لأن العمل الفني أو الأدبي ليس نتاج مؤلف بوصفه فرداً، لكنه يكشف الوعي الجماعي والمصالح والقيم الاجتماعية لجماعة أو طبقة، والأعمال العظيمة وحدها هي التي تعّبر باتساقها عن رؤية للعالم ووعي جماعة أو فئة أو طبقة ما.
د- يغلّب الفهم الأمبريقي الجدل على رؤية العالم، لأنك لا تنظر إلى رؤية العالم على أنها تتبع عالم التجارب اليومية التي تتصف بالسلالم القيمية المتصلة المستقرة إلى حدّ ما، بل إن العمل العظيم هو وحده الذي يحتوي على بنية الوعي الاجتماعي الجماعي التي تظهر رؤية للعالم كلية دالة من القيم والمعايير. إننا بصدد وعي الممكن، لأننا نجده باطناً في العمل حيث يحلله، ويعيد بناءه عالم اجتماع الأدب في مفهوم رؤية العالم(1).
وعضد الاتجاه البنيوي التكويني الأسس الجديدة للنقد الاجتماعي من خلال تثمير عمليات انتماء القارئ الاجتماعية إلى تحديد آفاق القراءة وانفتاحها على فضاءات التأويل، فكل قارئ هو «أنا» يأتي من علاقات القربى ومن العلاقات الرمزية التي تحدده أيضاً، وتفتح لـه فضاءات البحث والتأويل، وتغوص القراءة النقدية الاجتماعية في تاريخيانية اجتماعية محددة، وما تهتم به القراءة النقدية الاجتماعية هو تواصل الأشكال الأدبية مع التاريخ الذي يظهر في تاريخية الخطاب الأدبي واجتماعيته شعرياً وتخييلياً، ويوافق الاتجاه البنيوي التكويني بين عملين متناقضين ظاهرياً، بتثبيت تاريخية النصوص واجتماعيتها لئلا تبخس قيمة هذه التاريخية والاجتماعية، ويفضي ذلك إلى الوعي التاريخي في البنية النصية، ويكشف عن المعنى وما وراءه في هذه البنية. وتكمن خلاصة الاتجاه البنيوي التكويني في إضاءة نظرية العلاقة بين الأدب والمجتمع بتقدير البنية ومحتواها(2).
وأوجز الاتجاه البنيوي التكويني رؤية العالم بوصفها تكويناً معرفياً يتجاوز إبداع الكاتب أو منظوره الخاص إلى رؤى عميقة للواقع والتاريخ داخل البنية، و«هذه البنية، بتعبير آخر، هي رؤية العالم وقد تماثلت في العمل الأدبي، أي تحولت إلى نسق من الرؤى والأفكار المترابطة»(3). وفهم الاتجاه البنيوي التكويني على أنه «جزء من علم اجتماع المعرفة، لأنه يحدد بين الذات والموضوع، وبين الفكر والعالم، وبين الفئات الاجتماعية واندماجها داخل نسق أوسع هو الطبقة الاجتماعية. ويتحدث عن تكوين الفئات وأنواعها وتأثيرها في شعور الفرد واستجابته للشعور العام السائد»(4).
ولا نغفل أن الاتجاه البنيوي التكويني ترسّخ بعد ذلك بجهود لويس التوسير وبيير ماشيري في إضاءة الفكر الأدبي من الأدلجة إلى وعي النص المؤدلج وفق بنيته التكوينية الحاملة للمحتوى الاجتماعي في تراكب الخطاب والتخييل مع المجتمع والتاريخ لدى كشف الدلالات والتشابهات مع البنى الفكرية والاجتماعية لعصره.
وتطور الاتجاه البنيوي التكويني كثيراً حين تعالق مع النقد الثقافي، ليتشكل بموروثه وبمراعاة عناصر التمثيل الثقافي اتجاهاً جديداً نمّاه في الوقت نفسه الاتجاه البنيوي التكويني وبدت ممارسة هذا الاتجاه في كتابات محمد عزام النقدية، على أن الالتزام بهذا الاتجاه قليل الانتشار في النقد الروائي.
2- النقد البنيوي التكويني عند محمد عزام:
تتبدى بعض خصائص هذا المنهج في أعمال محمد عزام «وعي العالم الروائي ـ دراسات في الرواية المغربية» (1990) و«فضاء النص الروائيـ مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان» (1996) و«الفهلوي: بطل العصر في الرواية الحديثة» (1993) و«شعرية الخطاب السردي» (2005).
2-1- وعي العالم الروائي:
يندرج عنوان كتابه الأول في نقد الرواية المغربية «وعي العالم الروائي»(5) في المنهج البنيوي التكويني، بينما وجد عزام أن البحث عن منهج قضية إشكالية إزاء كثرة المناهج، فآثر أن يجمع بين منهجين، هما: المنهج الموضوعي الذي يصنف الرواية إلى رواية تاريخية ووطنية واجتماعية.. الخ، والمنهج الفنّي الذي يصّنف الرواية في رواية تقليدية ورومانسية ورمزية وواقعية.. الخ.
ويلاحظ أن معالجته لأشكال الوعي لا تفترق عن المنهج البنيوي التكويني بأنواعها التي وزع إليها كتابه:
1- الوعي الذاتي: وفيه تتعدد نماذج الوعي في جدلية الذات والواقع الاجتماعي والوطني والحضاري.
2- الوعي المستعاد: وهو وعي ماضوي، يُسترجع تاريخياً، في ظروف الحماية، كنوع من المقاومة، وفي عهد الاستقلال، كنوع من التذكير بالبطولات.
3- الوعي بالواقع: وفيه تتعدد أنماط الوعي، تبعاً لتعدد صور الرواية الاجتماعية. وتتراوح نماذج هذا الوعي بين الوعي الاجتماعي الذي يلتفت إلى بناء الواقع والوعي المنهار الذي يرضخ لهذا الواقع أو يهرب من مواجهته.
4- الوعي الممكن: وهو وعي مستقبلي ينطلق أساساً من الحاضر، ويتجاوزه إلى استشراف عالم مستقبلي أفضل. وكاتب هذا الوعي يمتلك مشروعاً حضارياً بديلاً، ولكنه غير ناجز، لانه لا يريد أن يقع في التبعية التي تقتلعه من جذوره.
وبسّط عزام الاستخدام المنهجي في أنه معني بتبيان نماذج الوعي والاتجاهات الفنية في الرواية المغربية منذ نشأتها وحتى مطلع الثمانينيات في القرن العشرين. وأضاء في مدخل كتابه نشوء الرواية المغربية وتطورها، ولا سيما موقعها من الرواية العربية والعوامل المؤثرة في نشوئها (الأدب المشرقي، الثقافة الغربية، الواقع المغربي)، وأبان أن ظهور النتاج الروائي المغربي تأخر إلى مطلع الخمسينيات، وأول نتاج روائي مغربي هو «في الطفولة» (1947) لعبد المجيد بن جلون، غير أن هناك روايات صادرة قبل ذلك، واتصفت سمات رواية البدايات بتقليدية الشكل والمضمون، ووجد في هذه المرحلة روايات «سبعة أبواب» لعبد الكريم غلاب، و«أمطار الرحمة» لعبد الرحمن المريني، و«بوتقة الحياة» للبكري أحمد السباعي، و«غداً تتبدل الأرض» لفاطمة الراوي (وهذه الروايات صدرت في الستينيات)، وأطلق حكماً يجافي طبيعة النقد البنيوي التكويني، على أن «معظم كتّاب هذه الروايات من البورجوازية، أو من الشرائح الدنيا التي لم تمتلك الوعي النقدي أو الرؤيا الشاملة لحركة التاريخ والمجتمع» (ص11)، ومثل هذا الحكم لا يفترق عن الأدلجة التي تضفى على الرواية.
ونسب عزام رواية مرحلة التأسيس إلى الستينيات، وعلل ذلك بانشغال الأدباء بالكفاح الوطني، وتقديم الأنواع الأدبية الأخرى كالقصة والمقالة والقصيدة على الرواية، لتعبيرها السريع عن المشاعر الآنية، ولاستيعابها الشامل للأحداث المتجددة. في حين تحتاج الرواية إلى وقت طويل للتخمر الفكري والفني. كما أن ندرة المجالات الثقافية التي تشجع الناشئين من الأدباء، وتحتضن أعمالهم، قد أسهمت في اقتصار الأدب على «النخبة» في مجتمع تطغى فيه الأمية، وتنصرف فيه البورجوازية إلى تننمية ثرواتها المادية فحسب.
وعاود إطلاق الأحكام دون التحليل، فعلى الرغم من أن الرواية المغربية الجديدة، برأيه، هي رواية الستينيات والسبعينيات، لكن رواية الستينيات لم تثمر دوماً مردوداً إيجابياً وجديداً، ولم تسهم، كما ينبغي، في خلق الوعي الاجتماعي وتعميقه، لأسباب عديدة، من أهمها أن الرواية نفسها أدب بورجوازي، من تراث الإقطاع الذي كان يمتلك الوقت والفراغ، بينما لا يجد الإنسان المعاصر وقتاً للراحة، فكيف يمكنه أن يتثقف، ويمارس هواياته؟ ومعظم كتّاب الرواية المغربية ينتمون إلى البورجوازية، في شريحتيها: الدنيا والعليا» (ص13)، ويتواتر هذا الرأي مع أطروحات لوكاتش في كتابه «الرواية ملحمة بورجوازية» المطبقة على الرواية الأوروبية، بينما تحتفظ الرواية العربية بخصوصياتها التاريخية والمعرفية.
وزاد عزام من مثل هذه الأحكام المستهجنة آخذاً برأي إدريس الناقوري في كتابه «المصطلح المشترك» (1977) في أن «قصور الرؤية الفنية عند بعض روائيي الستينيات، وعجزهم عن تمثل واستقصاء المعطيات الاجتماعية، لبلورتها فنياً، وصياغتها بشمولية ورجاحة فكر، والضحالة الفكرية التي تسود بعض روايات الستينيات التي تتكئ على التاريخ الوطني لتشوهه، أو تنقله نقلاً (فوتوغرافياً) يبلغ درجة الابتذال والترديد (المخاض، دفنّا الماضي)، أو تفتعل المواقف، وتغتال الفن (بوتقة الحياة، غداً تتبدل الأرض)، أو تعتمد على الذاتية، وتجتر الأحزان الداخلية والآلام الفردية بطريقة رومانسية هشة، وفي أحسن الأحوال مستعارة (الطيبون، المرأة والوردة، الغربة)» (ص14).
وهذه آراء ظالمة بحقّ الروائيين في المغرب، لأنها أسيرة الأدلجة، كما هو واضح، لأن غالبية الروايات المدروسة تندرج في الرواية العربية المتميزة مثل روايات عبد الكريم غلاب ومبارك ربيع ومحمد زفزاف وعبد الله العروي، وقد قلل عزام من قيمتها الفنية الطي | |
|
الخميس مايو 04, 2017 8:56 pm من طرف فؤاد