لا تتشكّل ذكرياتنا بالقوّة نفسها؛ فبعض التجارب يمكن أن نتذكّرها بشكل جيّد وبعضها بشكل سيّئ، هذا إن استطعنا أن نتذكّرها من الأساس. ففهم العمليّات والأنظمة العصبيّة الحيويّة، التي تساهم باختلافات قوّة ذكرياتنا المماثلة، يشكّل الاهتمامَ الرئيس لبحوث «تحوير الذاكرة». فقد انتعش البحث في «تحوير الذاكرة» (memory modulation) بدايةً باكتشاف أنّ الصدمات الكهربائيّة التي تتعرّض إليها الفئران تضعف لديها الاحتفاظ بردود الأفعال المتعلّمة حديثًا، وهذه الاكتشافات حول هذا النوع من فقدان الذاكرة الرجوعيّ «السابق للإصابة» زوّدتنا بدليل مقنع على أنّ آثار الذكريات الحديثة تُحفظ في حالة ضعيفة وتصير مرسّخة أو موطّدة (consolidated) لاحقًا، ويعتبر تحوير عمليّة توطيد المعلومات سمة شائعة في ذاكرة الحيوانات، كما يوجد عند الرخويّات والأسماك، والطيور، والنحل، وأيضًا في القوارض وأعلى رتب الثديّيات.
أشارت الأدلّة من هذا النوع إلى أنّ ترسيخ الذاكرة يمكن أن يُحسَّن بواسطة أساليب علاجيّة تقوم بتنشيط أداء الدماغ، ويوجد العديد من الأدلة التي تدعم هذه النتيجة؛ فالعديد من الأدوية المحفّزة تقوّي الاحتفاظ بالمعلومات عندما تُعطى بعد التمرين بفترة وجيزة. ومن الضروريّ، في الدراسات المتعلّقة بتحوير الذاكرة، إقصاء آثار الطرق العلاجيّة عن عمليّات الانتباه والتحفيز والحركة، فإعطاء الأدوية بعد التمرين يؤمّن تقنية فعّالة لإبعاد هذه الآثار.
التحوير ذاتيّ النشوء لتوطيد الذاكرة
حساسيّة توطيد الذاكرة للتأثيرات المُحَوِّرة والحادثة بعد عمليّة التعلّم تتيح للعمليّات البيولوجيّة العصبيّة المنشّطة بواسطة الإثارة العاطفيّة أن تتحكّم بقوّة الذاكرة، وتشير العديد من الأدلّة إلى أنّ هرمونات الإجهاد، التي تُطلق من الغدد الكظريّة - مثل هرمون الإبينفرين وهرمون الكورتيكوستيرون (الكورتيزول في البشر)- عند حدوث تجارب مثيرة عاطفيًّا، تلعب دورًا هامًّا في تنظيم الذاكرة وتعديلها.
الإبينفرين: تتسبّب حُقَن هرمون لبّ الكُظْر (الإبينفرين) بعد التمرين في تحسين الذاكرة طويلة الأمد، بالاعتماد على الجرعة والوقت، وذلك لعدّة أنواع مختلفة من المهام التدريبيّة، فالإبينفرين لا يتجاوز بسهولة الحائل الدمويّ الدماغيّ حيث يبدأ بتحوير الذاكرة -على الأقلّ جزئيًّا- عن طريق تفعيل مستقبلات بيتا الأدريناليّة المحيطة المتمركزة في الأعصاب الواردة من العصب المبهم vagus ، والتي تنطلق نحو نَواةُ السَّبيل المُفْرَد Nucleus tractus solitaries أو اختصارًا (NTS) في جذع الدماغ. ترسل الـNTS وصلات نورأدريناليّة إلى مناطق الدماغ المقدَّم بشكل مباشر نحوه، وبشكل غير مباشر عن طريق الموضع الأزرق locus coeruleus.
من الممكن أن يؤثّر الإبينفرين في الذاكرة عن طريق زيادة تحلّل الغليكوجين في الكبد، إذ ينتج عن تعاطي الجلوكوز الخارجيّ بعد التمرين آثار في الذاكرة تعتمد على الجرعة والوقت، وهي مماثلة لتلك الآثار الناتجة عن الإبينفرين، وبإمكان الجلوكوز التأثير في الذاكرة عن طريق تغيير أداء الدماغ مباشرةً، وأيضاً عبر تحفيز الأعصاب الواردة من المبهم.
القشرانيّات السكّريّة [1] (glucocorticoids): كما هو الحال مع الإبينفرين فإنّ تعاطي القشرانيّات السكّريّة بعد التمرين يؤدّي إلى تحسين الذاكرة بشكل يعتمد على الجرعة والوقت. القشرانيّات السكّريّة هي هرمونات أليفةٌ للشحم للغاية، وبالتالي فإنّها تدخل إلى الدماغ بسهولة، وترتبط مباشرةً بمستقبلات القشرانيّات المعدنيّة [2] (mineralocorticoid)ومستقبلات القشرانيّات السكّريّة، ويبدو أنّ آثار القشرانيّات السكّريّة في تنظيم الذاكرة تشمل التنشيط الانتقائيّ لمستقبل القشرانيّات السكريّة منخفض الانجذاب، كما أنّها تعمل بواسطة مستقبلات داخل الخليّة وأخرى داخل النواة، وتستطيع التأثير في عمليّة النسخ الجيني عن طريق الربط المباشر للمُستقبِل ثنائيّ الأجزاء المتجانسة (receptor homodimers) بالحمض النووي DNA. ولكن، يمكن للقشريّات السكّريّة أن تعمل بسرعة أكبر من خلال التفاعل مع مستقبلات غشائيّة و/أو من خلال تنشيط فعاليّة سلسلة من إشارات النورأَبِينِفْرين بواسطة تداخل مع نشاط بروتين الارتباط بالنيوكليوتيد غوانين[3] (بروتين جي، G-protein).
تفاعلات القشريّات السكّريّة الأدريناليّة
تؤثّر الكاتيكولامينات والقشريّات السكّريّة المفرزة من الغدد الكظريّة في عملية تنظيم الذاكرة وتحويرها، فتغيّر القشريّات السكّريّة من حساسية الإبينفرين في توطيد الذاكرة، وبالمقابل، يظهر أنّ التنشيط الأدريناليّ، الذي تسبّبه الإثارة العاطفيّة، شيء ضروريّ لتمكين تحوير توطيد الذاكرة بواسطة القشريّات السكّريّة. عند الفئران المُدرَّبة على مهمّة التعرّف على هدف معيّن، خفّض التعوّد السابق على سياق التمرين من الإثارة العاطفيّة التي يسبّبها التمرين.
الكورتيكوستيرون المُتعاطى فورًا بعد تمرين الفئران المروّضة (وغير المُثارة) لم يحسن الاحتفاظ بالتعرّف على الهدف لمدّة 24 ساعة. على النقيض من ذلك، يحسّن الكورتيكوستيرون من ثبات المعلومات في الفئران التي لم تروّض سابقًا. إضافةً إلى ذلك، فإنّ إعطاء مناهضاتٍ [4] لمستقبلات بيتا الأدريناليّة للفئران غير المروّضة فورًا بعد تمرين التعرّف على الهدف يعرقل تحسين الذاكرة الذي سبّبه الكرتيكوستيرون.
أنظمة معدّلة عصبيّة أخرى: تعدّل الأدوية والهرمونات المؤثّرة في العديد من أنظمة الناقلات والمعدّلات العصبية الأخرى أيضًا من ثبات المعلومات، كما يمكن الحصول على التحوير الشبيه بالذي تسبّبه الأدوية المحفزة - والتي تعمل عن طريق حمض الجاماأمينوبيتريك أو اختصارًا جابا (GABA) وعن طريق الكاتيكولامينات، وذلك بواسطة مناهضات المستقبل الأفيوني وناهضات [5] المستقبل المُسكاريني الكوليني، وأيضًا بواسطة الأدوية والهرمونات المؤثّرة في أنظمة أخرى عديدة. ويبدو أنّ كلًّا من جابا والببتيدات أفيونيّة المفعول يضعف الذاكرة عبر الحدّ من إفراز النورأبينفرين في الدماغ.
وفي المقابل، لا يبدو أنّه يمكن تحقيق الآثار الكولينيّة عن طريق التفعيل الأدرينيّ. بيد أنّ النشاط المُسكاريني الكوليني يعتبر متطلبًا لتحسين الذاكرة عن طريق النورأبينفرين، وبالتالي فإنّه يظهر أنّ تأثيرات التفعيل الكولينيّ على تعديل الذاكرة تشتمل على تأثيرات في اتجاه التفعيل الأدريناليّ.
دور اللوزة في تحوير الذاكرة
تظهر الأدلّة الكثيرة أنّ التحفيز الكهربائيّ للّوزة، بعد التدريب، يمكنه أن يحوّر الذاكرة، هذه الأدلّة تقترح إمكانيّة أن يكون تأثير الأدويّة والهرمونات في الذاكرة من خلال تأثيرات تشمل اللوزة. وهناك العديد من الأدلّة التي تدعم هذه النظريّة، كما أنّ مثل هذا التحوير يشتمل على تحفيز نورأدريناليّ للوزة، وعلى امتدادات عصبيّة تصدر إلى مناطق أخرى من الدماغ.
التأثيرات النورأدرينالينيّة للّوزة القاعديّة الوحشيّة: يتمّ تحوير عمليّة توطيد الذاكرة عن طريق ناهضات ومناهضات نورأدريناليّة تؤثّر في اللوزة في مرحلة ما بعد التدريب.
يشكّل المركب القاعديّ الوحشيّ من اللوزة [6] (basolateral complex of amygdala) والمعروف اختصارًا بـ BLA، المنطقة الأساسيّة لهذه العمليّة، كما لا يبدو أنّ النواة المركزيّة المجاورة تلعب دورًا أساسيًّا في هذه العمليّة، فالإبينفرين يؤثّر في الذاكرة عن طريق التفعيل النورأدريناليّ داخل اللوزة، حيث يؤدّي ضخّ مناهض المستقبلات الأدريناليّة البروبانولول (propranolol)، والذي يحدث داخل اللوزة، إلى منع تحوير عمليّة توطيد الذاكرة، كما أنّ تحوير الذاكرة من قبل الهرمونات والنواقل العصبيّة الأخرى يحدث أيضًا من خلال التفعيل النورأدرينالي لـBLA.
يؤدّي حقن مناهضات مستقبلات حَمْض الغامَّا-أمينُوبوتيريك داخل BLA إلى تحفيز توطيد الذاكرة، أمّا صبّ ناهضات هذا الحمض فيؤدّي إلى إضعاف الذاكرة ، وبشكل مماثل، عندما يتمّ صبّ مناهضات أفيونيّة ذات مفعول بيبتيدي في اللوزة، فإنّ ذلك يقوم بتحفيز الذاكرة، كما تقوم النواهض بإضعافها. ويسبّب حقن مناهضات المستقبلات الأدرينية، من النوع بيتا (β-adrenoceptor)، في اللوزة حجبًا لتلك التأثيرات، كما أنّ النشاطات النورأدريناليّة في BLA ضروريّة لتأثير نواقل عصبيّة أخرى على تحوير الذاكرة، مثل الدوبامين، والعامل المطلق لموجّهة القشرة (corticotropin-releasing factor)، والمركّب الشبيه بالأفيون "الأورفانين FQ/ نوسيسيبتين" (orphanin FQ/nociception).
إنّ الأدلّة الواسعة على أنّ تفعيل المستقبلات الأدريناليّة في اللوزة يحوّر توطيد الذاكرة، تشير إلى أنّ تجارب التعلّم المثيرة للمشاعر يجب أن تحفّز إطلاق النورإبينفرين في اللوزة، وتدعم هذه النظريّةَ نتائجُ التجارب التي استخدمت الديال المكروي في الأحياء (in vivo microdialysis) والاستشراب السائل الرفيع النجاز (HPLC) لقياس مستوى النورإبينفرين في اللوزة. كما أنّ الأدوية والهرمونات التي تحفّز الذاكرة تحفّز بدورها زيادة معدّلات النورإبينفرين في اللوزة بعد التدريب، أمّا الأدوية التي تضعف الذاكرة، فهي تقلل من مستوى النورإبينفرين. علاوة على ذلك، فإنّ تمارين تجنّب التثبيط تؤدّي إلى زيادة كبيرة في إفراز النورإبينفرين الذي يرتبط بشكل كبير بذاكرة الـ24 ساعة.
تأثير القشرانيّات السكريّة على BLA
تحوّر القشرانيّات السكّريّة الذاكرة من خلال التأثيرات في BLA ، فحدوث خلل في نشاط BLA يمنع التأثيرات المحفّزة للذاكرة والناتجة عن حقن القشرانيّات السكّريّة في الجسم بعد التدريب. بالإضافة إلى ذلك، يحفّز حقن القشرانيّات السكّريّة توطيد الذاكرة سواء كان هذا الحقن في كلّ الجسم أو فقط داخل BLA، ومثل هذه التأثيرات تحتاج إلى عمليّة تفعيل نورأدريناليّ في اللوزة.
من الظاهر أنّ تفعيل مستقبلات القشرانيّات السكّريّة في BLA يحوّر عمليّة توطيد الذاكرة عن طريق تحفيز الإرسال التسلسليّ لإشارات النورإبينفرين من خلال التفاعل مع التأثيرات الناتجة عن بروتين جي (G-protein). وكما هو الحال مع الإبينفرين، فإنّ تأثيرات القشرانيّات السكّريّة على توطيد الذاكرة أيضًا تشمل تفعيل مجموعات الخلايا النورأدريناليّة في جذع الدماغ والتي ترتبط بـBLA. إذ يؤدّي حقن ناهض مستقبل القشرانيّات السكّريّة بعد التدريب في نواة السبيل المفرد إلى تحفيز الذاكرة، بينما يؤدّي حقن مناهض مستقبل الأدرينالين بيتا في BLA إلى منع التحفيز.
يلخّص التفاعلات العصبيّة المعدّلة في اللوزة القاعديّة الوحشيّة والتي تشارك في تنظيم توطيد الذاكرة. التأثيرات الكولينيّة في BLA
يؤدّي التنشيط الكولينيّ في BLA أيضًا إلى تحوير توطيد الذاكرة. فحقن ناهضات مستقبل المسكارين الكولينيي (muscarinic cholinergic receptor) ما بعد التدريب يؤدّي إلى تحفيز الذاكرة في أنواع عدّة من التدريب، بينما يؤدّي حقن مناهضات ذلك المستقبل إلى إضعاف الذاكرة، كما أنّ وجود آفات في النواة القاعديّة، والتي تعدّ المصدر الأساس للتعصيب الكوليني لـBLA، يؤدّي إلى إضعاف استعادة التجنب التثبيطيّ، بينما الحقن ما بعد التدربيبيّ للناهض الكولينيّ الأوكسوتريمورين (oxotremorine) أو حقن مثبط الأسيتيل كولينيستراز الفيسوستجمين (acetylcholinesterase inhibitor physostigmine) يخفّف من هذا الإضعاف.
يعدّ التفعيل الكولينيّ في BLA ضروريًّا للسماح للقشرانيّات السكّريّة وكذلك للدوبامين بتعزيز توطيد الذاكرة، وبما أنّ التحوير الكوليني لتوطيد الذاكرة لا يحتاج تفعيل نورأدريناليّ متزامن، فيبدو أنّ هذا التفعيل يحدث نتيجة تفعيل أدريناليّ.
ملاحظات:
[1] القشرانيّات السكّريّة: هي هرمونات تفرزها قشرة الغدّة الكظريّة، مهمّتها تنظيم السكّر في الدم.
[2] القشرانيّات المعدنيّة: هرمونات تفرزها قشرة الغدّة الكظريّة، تؤثر في استقلاب الماء والأملاح.
[3] بروتين جي G-protein (بروتين الارتباط بالنيوكليوتيد غوانين) هو أحد أفراد عائلة من البروتينات تعمل كمفاتيح تبديل جزيئيّة، ولها علاقة بنقل الإشارات من العديد من المنبّهات خارج الخليّة إلى داخلها.
[4] مناهض antagonist، أو الضاد: هو مادة كيميائية ترتبط بمستقبل ما، بدون أن ينتج ذلك أي نشاط، ولكنّها تحجب عمل المادة الطبيعيّة التي كانت لترتبط بهذا المستقبل، فتمنع الأثر الفيزيولوجيّ لهذه المادة.
[5] الناهضة agonist، هي مادة ترتبط بمستقبل ما، فتنتج تفاعلًا فيزيولوجيًا شبيهًا بذلك الذي تنتجه المادة الأصلية.
[6] المركب القاعديّ الوحشيّ من اللوزة (basolateral complex of amygdala) هو جزء من اللوزة، ويشمل القاعدة الوحشيّة، والقاعديّة، والقاعديّة الإضافيّة من اللوزة، وسنشير لها حتى نهاية المقال ب BLA.