”ذاكرة الأحداث“ (أو ذاكرة الأحداث الشخصية) Episodic memory هو الاسم الذي يطلق على قدرتنا على تذكر الأحداث والوقائع التي نختبرها بشكلٍ شخصيّ، وتعتبر واحدةٌ من أهم القدرات العقلية (المعرفية) المتاحة في أدمغتنا.
مثال
في النشاط العقلي الذي نستخدم فيه قدرات ذاكرة الأحداث، يمكن لأحدنا أن يتذكر رحلةً حديثةً لباريس، مخرجاً الأحداث التي حدثت معه هناك بشكلٍ عقلي، مشاهداً بذلك الأماكن التي زارها، والمشاهد التي رآها، والأصوات التي سمعها، والروائح التي اشتمّها، والأشخاص الذين قابلهم، كخيالٍ في عقله.
نظرة عامة
"الذاكرة" هو مصطلحٌ واسعٌ يظلل ضروباً مختلفةً من أشكال الاكتساب والاحتفاظ والاستخدام للعادات والمهارات والمعرفة والتجارب. وجد أولئك الذين يدرسون الذاكرة أنه من المفيد أن نفترض أن الأشكال المختلفة من التعلم والذاكرة، تقوم بها أنظمة ذاكرةٍ مختلفة.
وأنظمة الذاكرة هي تَجُمُّعاتٌ منظمةٌ من المكونات العصبية المعرفية، التي تعمل معاً لإنجاز وظائف لا تستطيع التجمعات الأخرى من المكونات أن تنجزها، أو أنها لا تستطيع أن تنجزها بنفس الكفاءة. أحد الأهداف المهمة للبحوث يتعلق بالتعرف على أنظمة الذاكرة هذه، وتفصيل خصائصها، وتحديد طبيعة العلاقات فيما بينها.
تاريخياً، كان التمييز الأساسي بين أنظمة الذاكرة قائماً ما بين "الذاكرة الإجرائية" procedural memory (وهي نظامٌ للأفعال يُعَبَّر عنه عن طريق السلوكيات، كركوب الدراجة مثلاً)، وبين "الذاكرة التقريرية" declarative memory (وهي نظامٌ معرفيٌّ يُعَبَّر عنه من خلال المعرفة الخاصة بالقضايا المنطقية، مثلما يحدث عند تقديم اختبارٍ صفي).
يرى الباحثون أن كلاً من الذاكرة الإجرائية والتقريرية تتكونان من عددٍ من الأقسام الفرعية. تصف هذه المقالة نظرية ذاكرة الأحداث، والتي هي واحدةٌ من قسمين مفترَضين للذاكرة التقريرية. ولكن، وبسبب أن نظرية ذاكرة الأحداث يمكن أن تكون غير مفهومةٍ بشكلٍ كاملٍ عند عرضها بشكلٍ منعزلٍ عن القسم الفرعي الآخر للذاكرة التقريرية (أي الذاكرة الدلالية semantic memory)، وهي نظامٌ يتيح لنا أن نكتسب ونحتفظ بالمعرفة المتعلقة بالحقائق عن العالم (كمعرفتنا أن باريس هي مدينة تَحْسُن زيارتها في وقت الربيع)، وهي أيضاً النظام الذي نظن أن ذاكرة الأحداث قد تطورت منه، من أجل ذلك، فإن جزءاً جيداً من نقاشنا سيركز على ذاكرة الأحداث في علاقتها مع الذاكرة الدلالية.
المصطلحات
في هذه المقالة، يشير المصطلح "ذاكرة الأحداث إلى نظام ذاكرة (أو قدرة) مميز في الدماغ. ولكن، ليس هذا هو المعنى الوحيد لذاكرة الأحداث الذي سيجده الشخص في مصادر العلم. على سبيل المثال، يُستخدم هذا المصطلح كثيراً لوصف تجربةٍ محددةٍ (محتوى) تتبادر إلى الذهن عند اختبار قدرة ذاكرة الأحداث، وكذلك الشعور المرافق لذلك (الظواهر) والذي يشعر فيه المرء بأنه يعايش تلك التجربة السابقة مجدداً.
ومن أجل مبتغانا في توضيح الأمور، ستشير هذه المقالة إلى محتويات ذاكرة الأحداث على أنها "التجارب المُتَذَكَّرة"، وعلى التجربة الظاهرية على أنها "تَذَكُّر". كما تظهر مشكلةٌ مشابهةٌ لهذه فيما يتعلق بمفهوم الذاكرة الدلالية.
حالياً، يشير المصطلح "الذاكرة الدلالية" أيضاً إلى قدرةٍ معينةٍ للدماغ. سنشير إلى المحتويات المنظَّمة للذاكرة الدلالية بـ "المعرفة" knowledge، وإلى التجربة الظاهرية المرافقة لها بـ "العلم" [knowing [1.
العلاقة ما بين ذاكرة الأحداث والذاكرة الدلالية
بحسب نظرية ذاكرة الأحداث، فإن التتابع التطوري المفترض -والذي تنشأ فيه ذاكرة الأحداث من الذاكرة الدلالية- يظهر في "العلاقة أحادية التراتب الهرمي" monohierarichical relation بينهما، والذي يعني أن ذاكرة الأحداث تشارك الذاكرة الدلالية العديد من الصفات التي تميز كلتيهما -أي تلك الصفات التي تميز الذاكرة التقريرية والتي تشمل نوعي الذاكرة هذين- عن الأقسام الرئيسية الأخرى للذاكرة، ولكنها في نفس الوقت تمتلك صفاتاً لا تشاركها مع بقية أنظمة الذاكرة، بما في ذلك الذاكرة الدلالية.
كما توحي العلاقة أحادية التراتب، أن ذاكرة الأحداث تعتمد على الذاكرة الدلالية في عملياتها، وأنها لا تستطيع أن تعمل بدون الأجزاء المتعلقة بها والموجودة في الذاكرة الدلالية، بينما لا تعتمد الذاكرة الدلالية على ذاكرة الأحداث في عملياتها، ويمكنها أن تعمل بدون ذاكرة الأحداث. تشابه هذه العلاقة الموجودة بين نظامي الذاكرة هذين العديد من العلاقات المشابهة الموجودة في عالمنا الحيوي.
وكمثالٍ على ذلك، خذ العلاقة بين النظام البصري الذي لا يمتلك حس الألوان وبين النظام البصري الذي يستطيع الإحساس بها؛ فالأخير يمتلك كل شيء يمتلكه الأول، وشيئاً إضافياً.
الأمر الذي تختص به ذاكرة الأحداث، هو أنها تجعل من السفر العقلي بالزمن إلى الماضي أمراً ممكناً، وكذلك إلى المستقبل، كما سنوضح أدناه. ليس هناك أي نظام ذاكرة بهذه القدرات، على الأقل ليس بالطريقة التي تمتلك بها ذاكرة الأحداث هذه القدرة.
خصائص مشتركة
هذه بعض المزايا (أو الخصائص) التي "تشترك" بها ذاكرة الأحداث والذاكرة الدلالية:
- يتيح كلا النظامين للكائن الحي أن يعرف أموراً حول جوانب مختلفةٍ من عالمه، جوانب ليست موجودة في تلك اللحظة.
- يتم ترميز encoding المعلومات الجديدة (أي تحويل المدخلات الإدراكية والمعرفية إلى "آثار ذاكرة" memory traces، أو ما يعرف بالإنغرامات [engrams [2) بشكلٍ سريع، ويمكن أن يتم الترميز من المحاولة الأولى.
- قد تكون المعلومات المرمزة معلومات متعددة الطرز الحسية multimodal (أو كثيرة الطرز الحسية [polymodal[3).
- يكون تخزين البيانات المرمزة بشكلٍ متجاوزٍ للطرز الحسية transmodal: أي أن كلاً من الأحداث المُتَذَكَّرة والمعارف يمكن أن يخزَّن بشكلٍ لا يعتمد على نوع الحاسة التي نقلت تلك الذاكرة.
- يتم تخزين المعلومات بشكلٍ عالي التنظيم.
- يكون تخزين المعلومات حساساً جداً للسياق الذي كانت فيه.
- تكون البيانات المخزنة معبرةً ومماثلةً لما هو موجودٌ أو يمكن أن يوجد في العالم.
- يكون النفاذ إلى البيانات المخزنة خلال عملية الاسترجاع عمليةً مرنة، ولكن بحدود.
- يكون التعبير السلوكي عن البيانات المسترجعة أمراً اختيارياً غير إجباري. وعليه، يمكن المحافظة على المعلومات المسترجعة بحيث تظل موجودةً "على الخط"، ويمكن كذلك التأمل بالمعلومات.
- تحتاج استعادة المعلومات في كلا النظامين إلى الوعي؛ فليس من الممكن استرجاع المعلومات بشكلٍ مباشر، من أي من الذاكرة الدلالية أو ذاكرة الأحداث بشكلٍ غير واعٍ. ولكن من المؤكد أن مختلف العمليات التي تشكل الأساس لاسترجاع التجارب المُتَذَكرة أو المعارف، قد تجري بدون الإدراك الواعي.
- لا تعتمد العمليات القائمة في أي من نظامي الذاكرة على اللغة، مع أن اللغة قد تساعد بشكلٍ كبيرٍ في تسهيل هذه العمليات.
- المزايا المشتركة بين هاتين الذاكرتين موجودةٌ في طيفٍ واسعٍ من الحيوانات؛ فهي صفاتٌ عالية التطور في الثدييات والطيور.
- تكون العمليات التي يقوم بها النظامان مدعمةً بشبكاتٍ عصبيةٍ مشتركةٍ وواسعة التوزع، وهي شبكاتٌ موجودةٌ في قشرة المخ وتحت القشرة، وبالأخص تلك الموجودة في الفصين الصدغيين الإنسيين وفي الدماغ البينيdiencephalon.
تنطبق كل من الصفات السابقة على كلّ من الذاكرة الدلالية وذاكرة الأحداث بشكلٍ متماثل، كما أن ارتباطهما هذا، هو السبب في أننا نجمع كلاً من الذاكرة الدلالية وذاكرة الأحداث تحت المسمى العام "الذاكرة التقريرية" (والتي تسمى أيضاً بالمعرفيةcognitive، أو الواضحة explicit)، بدون التفريق بينهما في هذا المجال. ولكن الأمر ليس كذلك في مجالاتٍ أخرى؛ لأن ذاكرة الأحداث تمتلك -بالإضافة للخصائص أعلاه- خصائص مميزة أخرى، لا تتشاركها مع الذاكرة الدلالية أو أي منظومة ذاكرة أخرى.
ملاحظات
[1] يقصد هنا أن الذاكرة الدلالية تحتوي على "معارف"، وأن التجربة التي يعي بها الإنسان هذه المعارف تسمى "العلم" بها.
[2] الإنغرام engram هو مصطلحٌ في الفيزيولوجيا العصبية وفي علم النفس، ويعني (الأثر الدائم).
[3] أي أنها تجمع معلوماتٍ من أنواع مختلفة من الحواس.