الصورة باعتبارها كذبا وزيفا: الإعلام الحربي نموذجا. | عزالدين بوركة0عزالدين بوركة
لا شك ولا مناص من القول بكون أن زمننا هذا هو “زمن الصورة”، حتى أننا بتنا نتحدث عن الصورة في الشعر والأدب، وقد تتعدد أنواع الصورة من الذهنية إلى الملموسة وغيرها، وتتعدد الأحاديث عن أخلاقيات وجماليات الصورة… ولا يخفى على أحد ما باتت تلعبه الصورة في الإعلام المعاصر، وبل ما صارت تعرفه من مكانة داخل العقلية العامة والثقافة البشرية المعاصرة… وإن كان البشر منذ العهود البدائية والعتيقة والقديمة قد تواصلوا فيما بينهم بالصورة كأداة تعبيرية عما يريدون قوله (رسومات الكهوف وصولا إلى الكتابة الهيروغليفية… إلى بلوغ الكتابة بأحرف مجردة في العهد البشري المعاصر) فقد “وُلدَت الكتابة من رحم فن التصوير”[i].
كتابات هيروغليفية من العصر اليونانى -الرومانى
إننا اليوم نتواصل ليس بالكتابة فقط، بل عبر أنواع متعددة من الصور الرقمية (الانترنيت) أو المتحركة، والثابتة، الفتوغرافية… في الحين الذي يخبرنا، فيه، الناقد والمفكر الفرنسي رولان بارت أن «الصورة الفوتوغرافية خفية دائما: وهي ليس ما نراه فيها»[ii]. فالصورة إذن تحمل غموضا وأشياء خفية، إنها المرئي واللامرئي في آن، إنها تكشف بقدر ما تخفي، وتخفي أكثر ما تكشف، فإننا دائما نستشعر الريب حينما نُبصر صورةً. “ونحن على علم اليوم، وهو ما يواسينا، أن الصورة كلها كذب (وستغدو أكذب مع طهور الصورة الرقمية”[iii]. لقد شك أفلاطون في الصورة وأقل من أهميتها بل إنه سماها “سيمولاكر” باعتبارها تشويها للحقيقة، لعالم المثل. وأليست الصورة وهي في المختبر (الحاسوب اليوم) تتعرض للمونتاج باعتباره محاولة لإعطاء معنى لها أو معنى مغاير، إنها إذن تتعرض للزيف والكذب، بل إنها كذب.. لكن إلى أي حد يمكن قول ذلك؟
إن الصورة الفوتوغرافية باعتبارها أداة ثورية، قد كانت -وما تزال- أداة من أدوات الإعلام الحربي منذ العقود الأولى من القرن الماضي… لقد حاولت الدول توظيفها في إعلامها الحربي غاية في الترويج للإيديولوجية التي تحرك هذه الحروب أو توضيح تحركاتها الميدانية وتبرير غزواتها و”شرها” في أحايين كثيرةـ باعتبار أن “الصورة هي التعبير الصادق عن ما يقع داخل ميدان الحرب، والأداة المصداقية التي يعتمدها القارئ لإدراك الأحداث !!”. مؤخرا ظهرت بعض التحقيقات التي تكد أن الإعلام البريطاني قد استعان بمصورين احترافيين، إبان الحرب العالمية الثانية، أمثال “آرثر كونان دويل، اتش جي ويلز، وروديارد كيبلينغ، لنشر نصوص تنسب جرائم وهمية للعدو الألماني “.
والشيء بالشيء يذكر فقد عمد النظام النازي الألماني عبر الصورة المتحركة، السينما، إلى صناعة أفلام سينمائية تُعرض للعموم الألماني، في قاعات العرض، لتبرير اعتقاله الهمجي ليهود ألمانية، ووضعهم في سجون مغلقة، إذ عمد إلى تزييف أفلام يُظهر فيها أن اليهود يعيشون في مستوطنات خاصة برفاهية عالية.. وذلك غاية في إنجاح دعايته الإعلامية له.
فالصورة إذن لم تكن قط بريئة من الزيف والكذب منذ ظهورها فقد “شهدنا منذ جون هيرتفيلد الرتوشات ذات الغاية الدعائية، التوليف الفوتوغرافي”[iv]. فالصورة تعتمد على أسلوب السرد الذي بدوره يعتمد على الخيال fiction باعتباره نوعا من الكتابة التوليدية، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بشكل مباشر “كذب أدبي”. وألا يكفي التأكيد أن الصورة لا معنى لها دونما تأويل، والتأويل يحمل الوجهين، “الصواب/ الخطأ” و”الصدق/ الكذب”.
نيرة سعود الصباح
قد تكون أشهر الصورة، في المشرق، هي صورة الفتاة نيرة (ابنة السفير الكويتي) وهي تلقي كلمتها /شهادتها -باللغة الانجليزية السليمة- أمام جمع لجنة حقوق الانسان في مجلس الكونغرس الأمريكي، أيام الغزوي العراقي، للكويت، زمن حكم صدام حسين. هذه الشهادة التي تم نقلها تلفزيونيا على نطاق عالمي، كانت وسيلة استغاثة للتدخل الأمريكي في عهد رئاسة جورج بوش الأب، دعما للكويت في هذه الحرب. فقد زعمت في شهادتها بكون “القوات العراقية التابعة صدام حسين، تقوم بمجازر تمثلت في انتزع الجنود العراقيين لأطفال كويتيين رضع من الحضانات ورميهم على الأرض ليلقو حتفهم”. إلا أنه سيتبين فيما بعد كون أن نيرة تحمل اسم شهرتها الصباح، وأن اسمها الكامل هو (نيرة سعود الناصر الصباح) ابنت السفير الكويتي بالولايات المتحدة “سعود الناصر الصباح” آنذاك. فقد كانت شهادتها عبارة عن أداة لتبرير الغزو الأمريكي الأول للعراق، وكون ما ذكرته كان مجرد سيناريو كُتب لها لتقولها أمام الكونغرس. فقد كانت هذه الصورة ذات فعالية في قلب الموازين وتحريك العالم وقيام الحرب.
ومن جهة أخرى إنه قد تكون للصورة فعالية مغايرة لقيام الحرب، لإخمادها. إذ من بين أشهر الصور صورة من حرب الفيتنام للفتاة “كيم فوج” التي تبدو وهي تركض عاريا وتصرخ من أثر الاحتراق الناتج عن قنابل الـ”نابالم”[v]. التقط المصوّر “نيك أوت” هذه الصورة الشهيرة أثناء تصويره “فيلما واقيعا” عن سقوط قنابل “نابالم” على الفيتنام. كانت الفتاة تصرخ عاريا من شد الحريق باحثة عن من يخمد نارها بالماء. لعبت هذه الصورة بعد انتشارها على نطاق واسع، دورا كبيرا في تأجيج المشاعر العالمية وتحريك مظاهرات واسعة وحاشدة في الولايات المتحدة لانهاء حرب “الفيتنام”، بل كانت أداة حاسمة في انهاء هذه الحرب.
إلى جانب كون الصورة أداة “للكذب” عن قصد أو غير قصد، لما تحمله من اضمار أكثر من إظهار ومن اخفاء أكثر من كشف… فإنها في أحايين كثيرة يكون لها دور فعال في إظهار “جزء من الحقيقة”… فالصورة على امتداد العصور كانت أداة لتخليد ما يراه الانسان وما يعيشه، ومع بزوغ العالم الرقمي، لم تعد فقد أداة بل جزء لا يتجزأ من يومه وتفكيره وحياته، بل باتت أكثر حضورا، إذ إننا لا يمكن الحديث عن الإنسان المعاصر دون الحديث عن الصورة (الرقمية خاصة) باعتبارها عاملا فعالا في تطوره وتقدمه… فهل هذا يعني أن الإنسان سائر إلى عالم وحياة أكثر زيفا؟