العَلَمانية مدخل ضروري للديموقراطية
اميل جعبري |
| |
يتنازع المعرفة العملية موقفان: الأول تُعبّر عنه العَلَمانيّة، بما هي موقف من طبيعة المعرفة العمليّة التي يحتاجها الإنسان في علاقته بالعالم. وهي تقول إن المعرفة العلمية والمعرفة الأخلاقية، بشقيهما النظري والتطبيقي، المنطلقتين من المعايير العقلية المستقلة، هما المكونان الأساسيان للمعرفة العملية، يمكن بالرجوع إليهما فقط وضع الأسس والمعايير الضرورية لتحقيق أفضل تنظيم اجتماعي. أما الموقف الثاني «اللاعَلَماني» فتشتق منه تعبيرات مختلفة منها الدينية والمدنية، يرى أنه بالإمكان الرجوع إلى ما يُسمّى المعرفة الدينية لتنظيم شؤون الحياة، وهي بحد ذاتها تسمية مختلف عليها بين المفكرين والفلاسفة وأصحاب الرأي، حيث يرى بعضهم أن كلمة «المعرفة» غير دقيقة في السياق الديني لعدم توفر بعض شروطها الرئيسية (كالتحكيم البينذاتي، وإمكانيات النفي والإثبات، والقوانين العلّية.. إلخ). وهو موقف ينزع الدين بما هو اعتقاد خاص حول مسائل الخلق والموت والروح وغيرها، من موقعه الصحيح في حياة الإنسان، ويُقحمه في الحياة العملية. الأمر الذي ينطوي على مخاطر كبيرة لا يمكن دفعها تهدّد جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للحياة، ليس فقط بسبب قصور المعرفة الدينية عن تلبية احتياجات الإنسان في العالم، إنما كذلك بسبب الاختلافات العميقة الموجودة بين الأديان والاعتقادات المختلفة، وبين طوائف الدين الواحد ومذاهبه، وبين مختلف المرجعيات للمذهب ذاته، واختلاف التأويلات للنص الديني الواحد. هذه الاختلافات التي تصل غالباً إلى حدود العداء أو يمكن دفعها إلى هذه الحدود، لا يمكن الحيلولة دون انعكاساتها العنفيّة، ولا يمكن حماية المجتمع والدولة والعالم من انفجارها ومن استغلالها إلا بالاتفاق على وضع الموقف الديني في مكانه الصحيح، حيث هو كما سلف، شأن خاص بالفرد لا يجوز أن يطغى على الشؤون العامة، تضمن كامل الحقوق المتصلة به حريةُ الاعتقاد المصونة في الدساتير الحديثة وفي العهود والمواثيق الدولية، وهو ما أثبته واقع الحياة العملية في الدول العَلمانية. يستند الداعون إلى استبعاد العلمانية في المجتمعات ذات الأغلبيات المسلمة إلى حجج ومسوّغات قدّمها لهم مفكرو تيارات الإسلام السياسي الأصولي، وهي حجج تساوي بين العلمانية والإلحاد من جانب، وتُقدّم الموقف الديني في الحياة السياسية على انه الموقف النهائي الذي يؤدي إلى إرضاء الله من جانب آخر. وهما حجّتان غير صحيحتين لا تصمدان أمام التحليل النقدي المنطقي، حيث العلمانية ليست إلحاداً بل هي تعبير عن موقف يساوي في الحياة العملية بين مختلف الأديان والاعتقادات ويضعها في المجال الخاص بها، كما أن إرضاء الله غاية لا يمكن إحراز أي اتفاق شامل بين مختلف الاتجاهات الدينية يخص الدروب المؤدية إليها، ليس على الصعيد الشخصي فقط بل على صعد الحياة العملية كافة. وكان رجال الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى قد استندوا إلى حجج ومسوّغات مختلفة ابتغاء مرضاة الله وشراء جنته، حققت استمرار سيطرتهم الاقتصادية والاجتماعية، وبررت ما هو معروف من حروب وويلات وفظائع، قبل أن يصل الإصلاح الديني والتطور الاجتماعي والثورة المعرفية إلى نتيجة حاسمة وحل نهائي بخصوص الموقف العملي من إدارة شؤون الحياة، تمثَّل بتبني الموقف العلماني الذي قبله عن رضى وقناعة رجال الكنيسة الحداثيون. أما المخاطر الكامنة وراء النجاح في استبعاد مفهوم العلمانية وتمرير أي موقف آخر فهي عديدة، لا تقتصر على خطر الانفجارات الاجتماعية المتكرّرة التي يمكن أن تقع في المجتمعات متعددة الأديان والطوائف فحسب، إنما تتجاوز ذلك إلى إعاقة البلاد التي تسعى إلى تجاوز الحقبة اللاديمقراطية عن التطور، وإعادتها تكراراً إلى الحقبة السابقة المؤسسة للانفجار. إذ لا ديموقراطية من دون العلمانية التي تؤمن أول شرط من شروط الديموقراطية، وهي المساواة بين الجميع مهما اختلفت اعتقاداتهم. كما تؤمن ما أسلفناه من ظروف تحقيق المعرفة العملية، وتفرض الشرط التالي لتحقيق الديموقراطية الحديثة، وهو الفصل الفعلي بين المجالَين العام والخاص في حياة الفرد والمجتمع. ويحاول البعض أن يقدّم حجة على العلمانية تتمثل بالنكسات التي أوقعتها الأنظمة الشمولية (وعلى رأسها النظامان الستاليني والنازي) بحق الديموقراطية. والحقيقة أن هذه النكسات لا تعود إلى العلمانية، بل على العكس من ذلك، كما أوضح هايدغر، إذ تعود إلى نقض لها من الجانب الآخر تجلّى عبر ديكتاتورية قوانين المجال العام على المجال الخاص. استناداً إلى هذه الاعتبارات وغيرها، وبما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخطط في الحاضر لغايات المستقبل، وتندرج في إطار هذا التخطيط أفعاله ونشاطاته السياسية المختلفة، فإن من الخطورة الاعتماد في ذلك على ما يُسمّى «المعرفة الدينية» وحدها، إنما يجب أن يقوم تخطيطه على مجموعة من المعارف العمليّة بما فيها الإفادة من تجارب الشعوب. ويشكل التمسّك بالموقف العلماني ضرورة سياسية للبلدان التي تمر بمراحل تغيير جوهرية في تاريخها. ويأتي ما يمرّ به الشعب السوري في طليعة الأمثلة على ذلك، حيث تُضمِر المشاريع التي يخطط لها مَن يرفضون العلمانية في سوريا خطراً كبيراً على مستقبل الشعب السوري الذي يعاني من محرقة استخدم فيها أحد أسوأ أشكال الموقف اللاعلماني في التعامل مع أزمته، وهو الموقف الطائفي. في هذا السياق تكمن غاية رئيسية وراء المحاولات الحثيثة التي يشهدها جميع ما ينظم من مؤتمرات واجتماعات ولقاءات في ما يخصّ الأزمة السورية، لاستبعاد العلمانية كتعبير سياسي ودستوري واستبدالها بتعابير أخرى. تتمثل هذه الغاية في تمكين التيارات الإسلامية المختلفة وتفريخاتها من اقتحام الحياة السياسية والسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة. إذ تعتقد هذه التيارات أنها عبر استخدام الثقل التاريخي للموروث الديني تستطيع، إذا نجحت باستبعاد العلمانية، حشد الرأي العام والانتصار في لعبة صندوق الانتخابات لتحقيق السيطرة في النهاية. وإذا كان ثمة اختلاف حول توصيف الاحتجاجات التي انطلقت أوائل العام 2011 في سوريا بأنها «ثورة» أو «انتفاضة» أو «تمرد» أو غير ذلك، فإنه لا خلاف على أن الشعارات الأساسية التي طُرحت، وبالأخص تلك المتعلقة بالحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية والقانون والمواطنة. وهي شعارات مشروعة وعملية، ذات معايير ومسوغات أخلاقية تماماً، تعود في النهاية إلى القيم والمثل العليا المتعلقة بالإنسان ككائن أخلاقي عاقل بصرف النظر عن دينه ومذهبه وطائفته وقوميته وطبقته. وهذه الشعارات لا تجد أي إمكانية لتطبيقها في حياة الإنسان على الأرض في الزمان والمكان، إلا من خلال الموقف العَلَمانيّ من الدولة الحديثة. وإن كانت مسيرة الشعب السوري نحو تحقيق هذه الشعارات قد انتكست لأسباب عديدة، أهمها العنف والعسكرة وطبيعة القوى المتصارعة والتدخلات الخارجية، فيمكن تدارك بعض ذلك من خلال استبعاد الصيغ البديلة للعلمانية مهما كانت مغرية أو مقاربة لها. إذ على العكس من ذلك، إن الإصرار على علمانية الدولة في ما يُطرح من مشاريع سياسية قد يحمل بارقة أمل لإنقاذ ما يمكن من أهداف الشعب، وتحقيق طموحاته
الأحد أبريل 30, 2017 9:41 pm من طرف زنوبيا