رأس المال في القرن الواحد والعشرين
أحمد حسين |
| |
أثار كتاب رأس المال في القرن الحادي والعشرين لمؤلفه الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي الكثير من الجدل حوله، فقد تم إصداره العام الماضي في فرنسا وقد تُرجم إلى الانجليزية وسرعان ما حقق مبيعات مرتفعة وأصبح من ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، فضلاً عن الجدل المُثار حول موضوع هذا الكتاب وهو التفاوت العالمي في الثروة والدخل، وأيضاً آخر العام تُرجم إلى اللغة العربية في مصر. وقد قضى «بيكيتي» العقد الأخير من حياته في دراسة قضية عدم المساواة، ليصل مع فريقه إلى استنتاجات غيّرت مسار الجدل في قضية توزيع الثروة من تقسيم العالم إلى 20% يحوزون الثروة و80% هم بقية سكان العالم، إلى تقليل هذه النسبة إلى 10% ثم 2% ثم 1% في النهاية. يُقدم الكتاب تحليلًا مكثفًا وشائقًا لقضية عدم المساواة وتطورها من القرن الثامن عشر حتى الآن، ليثبت بطريقة إحصائية بالغة الوضوح والاتساق كيف أن السوق الحر – حتى في دول الرفاهة الأوروبية – لن يصل في النهاية إلى تضييق المسافات بين الأغنياء والفقراء، ولن يحقق حلم الثراء للمليارات من الفقراء ومحدودي الدخل حول العالم دون تدخل من البشر، مما سيعيد معدلات عدم المساواة في الدخل حول العالم إلى سقفها الجنوني في القرن التاسع عشر. ويقوم الكتاب على معادلة أساسية، يثبتها بشكل إحصائى مبهر، وباستخدام بيانات موزعة على فترة تاريخية ممتدة. جوهر هذه المعادلة هو أن معدل ربحية رأس المال، يزيد دائما ــ فى جميع الظروف، وفى كل الأوقات ــ عن معدل النمو العام للإنتاج، سواء كنا فى فترات رخاء، أم فى فترات أزمة اقتصادية. ما معنى ذلك؟ معنى ذلك ببساطة أن الثروة دائما ستتركز أكثر وأكثر فى يد القلة. وهذا الكتاب منذ إصداره وهو يغير مجريات السياسات الاقتصادية، وقد أُطلق على بيكتي “كارل ماركس الحديث” ، واستغرق هذا الكتاب حوالي عشر سنوات من البحث الدقيق قام به توماس بيكتي واقتصاديين آخرين، وذلك لجمع بيانات مفصلة عن التغير التاريخي في تركيز الثروة والدخل ليرسم تطور التفاوت منذ بداية الثورة الصناعية. وفي القرنين ال18 وال19 كان المجتمع الأوروبي الغربي غير متكافئ إطلاقاً. فقد كانت الثروات الخاصة تُضاءِل الدخل القومي وتتركز في أيدي العائلات الغنية التى كانت أعلى قمة الهرم الطبقي الجامد نسبياً. واستمر هذا النظام حتى مع ظهور التصنيع الذي ساهم بشكل طفيف في ارتفاع أجور العمال. ولكن فوضى الحربين العالميتين الأولى والثانية وأزمة الكساد الكبير كانوا سبب الخروج عن هذا النمط (عدم المساواة في توزيع الثروة والدخل). فارتفاع الضرائب ومستويات التضخم وإفلاس الكثير من البنوك، وانتشار دول الرفاهة كل ذلك أدى إلى انكماش وتقلص الثروة بشكل كبير، والدليل على ذلك أنه قد تم في هذه الفترة التي توزيع الدخل والثروة بمساواة نسبية. ولكن كل ما حدث في أوائل القرن ال20 قد تلاشى والآن الثروة تعيد فرض نفسها من جديد. وعلى ذلك يعتقد “بيكيتي” أن أهمية الثروة في الاقتصادات الحديثة تقترب من مستويات لم تشهدها منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. من هذا التاريخ، استمد “بيكيتي” نظريته الكبرى لرأس المال وعدم المساواة. وكقاعدة عامة، تنمو الثروة بمعدل أسرع من الناتج الاقتصادي، وهو ما فسره في التعبير r> g (حيث r هو معدل العائد على الثروة وg هو معدل النمو الاقتصادي). فالنمو الاقتصادي السريع يقلل من أهمية الثروة في المجتمع، في حين أن تباطؤ النمو سيزيد من ذلك، وأيضاً التغيير الديموغرافي الذي يؤدي إلى إبطاء النمو العالمي سيجعل المزيد من رأس المال يهيمن. ولكن لا توجد قوى طبيعية تقوم بالضغط على التركيز الثابت من الثروة سوى وابلاً من النمو السريع سواء نمو التقدم التكنولوجي أو ارتفاع عدد السكان. ويمكن الاعتماد على التدخل الحكومي للحفاظ على الاقتصادات من العودة إلى “الرأسمالية التراثية” التي تشعر أقلقت “كارل ماركس”. ويختتم “بيكيتي” كتابه من خلال التوصية بأن الحكومات يجب أن تتدخل الآن، من خلال تبني فرض ضريبة عالمية على الثروة، لمنع ارتفاع عدم المساواة الذي يساهم في عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي. لماذا أثار هذا الكتاب ضجة عالمياً؟ أولا: أن الفرضية الأساسية التى تقوم عليها الدعوة للاقتصاد الحر، والسوق المنفلت من أى قيود، هى أن النمو الاقتصادى بطبيعته يشمل الجميع وأن معدلات الاستفادة من النمو تتناسب عكسيا مع حجم الدخل، وهذا ما يسمى فى كتب الاقتصاد المدرسية بقانون التساقط Trickle Down Effect ، ومفاده ببساطة أن الهوة بين الأغنياء والفقراء ستتناقص مع مرور الزمن. هذه الفكرة ضرورية جدا للتبشير «بالحلم الرأسمالى»، وجوهره أن الكل سيصبح غنياً بقليل من الصبر والكفاح. لكن هذا الكتاب ينسف هذه الفكرة من جذورها ويثبت بشكل حاسم أن الأغنياء سيزدادون ثراء. ثانيا: المسألة ليست فقط قضية أن الكتاب يفسد «الحلم الرأسمالى»، أو أن الكتاب هو مجرد نداء أخلاقى للمزيد من العدالة فى توزيع الثروة. القضية أخطر كثيراً، لأن مشكلة تركز الثروة فى يد القلة، ليست فقط مشكلة «عدالة توزيع»، وإنما هى أيضا مشكلة «إنتاج». تركز الثروة فى يد القلة يفسد عجلة الإنتاج، لأن النظام الرأسمالى كله قائم على أن يتم بيع ما ينتجه من سلع وخدمات، لتكتمل الدورة ويربح الجميع. لكن لو تركزت الثروة فى يد القلة، فسيعنى ذلك أن القوة الشرائية لعموم الناس ستتراجع مع مرور الزمن، لأن الثروة تتركز فى يد الأقلية الأكثر ثراء، وبالتالى سيقل المتاح منها لعموم الناس، أى لعموم المستهلكين، وسيؤدى ذلك بطبيعة الحال لتراجع قدرتهم على شراء الإنتاج الذى يتضخم مع مرور الوقت. فالتطور التكنولوجى يزيد بطبيعة الحال قدرتنا على الإنتاج، لكن تركز الثروة فى يد الأغنياء فقط يقلل من قدرتنا على استهلاك ما ننتجه. والنتيجة هى الكساد، الذى هو بالتعريف الاقتصادى، عبارة عن زيادة الإنتاج المعروض عن الطلب، وعن قدرة المستهلكين على شرائه، مما يؤدى لكساد المنتجات، وظهور الأزمات الاقتصادية. والغريب أن هذا الكتاب لفت أنظار معظم دول العالم الخارجي، ولكنه لم يلفت نظر الدول العربية ولن تلقِ له بالاً. ويقول “بيكيتي” سواء ساعد هذا الكتاب دول العالم في تغيير السياسات القتصادية أم لا، فالمهم أنه أثر على طريقة تفكير الكثير من القراء والاقتصاديين المهتمين بهذا الشأن وهذه الموضوعات في الاقتصاد. إعداد: Amal Hussein تصميم: Ahmed Eltobshy المصدر: http://sc.egyres.com/dA6i6