| |
" لا يمكن احترام أعداء الاحترام... ولن يقدر مجتمعنا على المحافظة على ذاته بلا احترام الآخر"1 وقعت البشرية في خلط كبير بين رقمنة الحياة اليومية بتسريع المعلومة وإيجاد أشياء وراء أشياء وتشكيل غيوم سوداء تحجب الظواهر وتدرك معارف بلا قوة وتعميم بلا تخصيص وتزاوج غير متوقع بين كيانات متنافرة وتقوم ببرمجة الغباء وتخزين الذكاء وتعقيد المنظور وإنتاج كميات بلا كيفيات. لقد أدى استبدال الواقعي بالافتراضي بالانتقال من النظرة المادية للكون في الحقبة الصناعية إلى قيام الباراديغم الرقمي في الحقبة مابعد الصناعية وإلى ضياع التقدم وتشكل رؤية جديدة للعالم تقوم على الفوضى والصدمة والعماء. لم تكن الثورة الصناعية هي المحرك الوحيد الذي قاد إلى السيطرة على الطبيعة بواسطة التقنية وإنما تأسست النزعة الانسانوية على قاعدة المواءمة مع قوانين الكون والتفتيش عن نعم السعادة بتفادي الآلام. لقد جعلت الحداثة من التقدم عربة مركزية في قطار التاريخ وقرنت بين العلم والتقنية وحاولت التكييف بين العقل والطبيعة وبين الاقتصاد والسياسة وبين الأعمال والمال ولكنها اعتدت على الكثير من القيم على غرار المحبة والخير والفضيلة وضربت ثقة الإنسان في العناية الإلهية وزعزعت يقينه في استمرار كيانه. يوجد خلل في علاقة الإنسان بالحضارة من جهة وفي صلته بالطبيعة من جهة أخرى فهو يضاعف من احترامه للمصنوع بصورة تقنية ولكنه في المقابل يعلن استخفافه من الظواهر الطبيعية ولا يذعن لها. ما يلفت الانتباه هو قلة الاحترام التي تبدو على الإنسان المعاصر تجاه قيمة الاحترام في حد ذاتها وبالتالي فإن عدم احترامه للاحترام هو من الأمور غير المفهومة بالنظر إلى أن تبجيل المرء للطبيعة مسألة قديمة والى أنه يحتاج إلى الاحترام مثل احتياجه إلى التقدير وأنه يمن في منحه على الآخرين ويضع شروطا. لكن هل الاحترام واجب أم حق؟ وما شروطه؟ ومن يستحقه؟ وماذا عليّ أن أفعل لكي أكون محترما؟ وماذا كان ينبغي أن أفعل لكي أحترم غيري؟ ولماذا لم يعد الاحترام في حد ذاته محل احترام اليوم؟ لفظ الاحترام هو من فعل احترم ويقصد به التكريم والتوقير والمهابة وإحسان المعاملة والتقدير والاعتبار لذا يقال احترام الوالدين واحترام الجار واحترام النفس ويعني بها الشعور بالاعتزاز والإحساس بالكرامة. تشكل علاقة الاحترام واحدة من التجارب الأخلاقية التي يعيشها الإنسان في حياته الاجتماعية وتمثل أرقى العلاقات وأقربها إلى السمو والصفاء والتجرد والمبدئية والمثالية والطهرية وذلك لاشتمالها على عناصر الوفاء والإخلاص والاستقامة والتزامها بنحت مصالحة مستديمة مع الذات وإقامة رابطة ثقة مع الآخر. كما تظل علاقة الاحترام التي يشيدها المرء مع نفسه ومع غيره متوجهة نحو الخير ومتوافقة مع جملة من المعايير ومتطابقة مع عدد من القواعد على مستوى المضمون وحرة في مقاصدها وبلا اختيار في أهدافها. تضم متطلبات الاحترام توفير العناية اللاّزمة بالصغير والمريض والضعيف وتخفيف الألم والمساعدة عند الحاجة والتعاطف مع الغريب والاندماج والاحتضان والمعالجة عند الاقتضاء واستهداف العيش الأفضل. إذا كان الإنسان خطاء وعطوب من جهة تكوينه البيولوجي ومعقد ومركب من عناصر متناقضة من جهة بنائه الوجودي فإنه مطالب بأن يجعل من الاحترام النموذج المعياري الذي ينسج بمقتضاه كل العلاقات وأن يتفانى في الاعتناء بنفسه وأن يريد الخير لغيره وأن يواجه وحشية الوجود الاجتماعي بالبر والروية. في اللحظة الراهنة يعزف الناس عن الاحترام ولا يقوموا بمنح الاحترام إلا عنوة وبصورة نادرة نتيجة البحث عن مصلحة أو وقاية من أذية ويعيش الأغلبية في حالة لاإحترام ويتم الإخلال باحترام أهل العلم. من البديهي أن يتعرض الشخص غير المحترم إلى الذم والقدح والاضطهاد والقمع والازدراء والتبخيس وفي المقابل أن ينال الشخص المحترم درجات التكريم والتشريف والامتياز ويحظى بالإحاطة والتبجيل. أما الشخص الذي يٌسلَبُ منه الاحترام والتقدير فإنه يميل إلى الانطواء والعزلة وتنتابه انفعالات الغضب والحزن والكراهية ويشكل نظرة سوداوية عن العالم ويفقد ثقته في ذاته وفي الآخرين ويشعر بالعدمية. من المفارقات التي يمكن التعريج عليها أن المنظومة المعيارية زادت من القرارات التي تلزم باحترام الإنسان من جهة ورافق ذلك عدم اكتراث وإهمال تجاه قوانين الطبيعة وجهل بظواهرها من جهة مقابلة. علاوة على ذلك يندلع الجحود وعدم الاحترام بين الشرق والغرب ويتجلى ذلك في استخفاف النحنُ بالهُم ونظرة الاستعلاء والغرور والنرجسية التي يبديها الأنا تجاه الأغيار وانخفاض منسوب التقدير لدى الأمم المتقدمة إزاء الأمم النامية وتراجع اهتمام بلدان المركز بحاجيات بلدان المحيط وغلبة الدائن على المدين. يتشكل عدم الاحترام من الرضوخ إلى التقاليد والوقوع تحت تأثير الأحكام المسبقة والرأي المشترك السائد والإشاعة والدعاية والإشهار ويترتب عنه نقص في التقدير وفهم خاطئ يؤدي إلى سوء تفاهم. من جهة مقابلة يحتاج المرء إلى الاحترام الآخرين له والى حسن تقدير ذاته من أجل احترام القوانين الطبيعية والرغبة في الحياة وحيازة الشجاعة في الوجود ومحبة الغير والإيثار والتضحية للصالح العام. لقد حصر التفكير المعياري مسألة الاحترام في المجال الأخلاقي واعتبره فضيلة نافعة وربطها بالإرادة والضمير والإحساس بالكرامة ونادى بتحمل المسؤولية في ترسيخ هذا المبدأ في السلوك والعلاقات ولكنه يتعدى ذلك الحيز الأخلاقي ويتواجد أيضا ضمن الإطار الاجتماعي ويشمل الفلسفة البيئية وفلسفة الحق. غني عن البيان أن مبدأ الاحترام يتصدى لمشاعر الأنانية والكراهية والتخابث والهيمنة والتمركز على الذات ويندرج ضمن دوائر المحبة والعدالة والإرادة الطيبة والنية الحسنة واستقلال القرار والرأي السديد. تبعا لذلك تدور كل القيم السرمدية مثل الحق والخير والجمال حول الاحترام وتفترضه كقاعدة صلبة تتأسس عليه داخل الزمان وتظل مالكة لقيمتها في الحاضر والمستقبل ولو انقطعت حبالها عنه فإنها تقع في يم النسبية والتغير والصيرورة وتخضع لمنطق التاريخية والزمانية وتصبح عرضة للتبدل والتباين. على هذا النحو يحتار المرء في المواضيع التي يمنحها الاحترام ويتردد بين قيمة المعرفة ومعيار السلوك وبين حكم العقل ومحك التجربة وبين القانون الأخلاقي والعرف الاجتماعي وبين الأفق المتعالي للديني ومسطح المحايثة الذي تتحرك فوقه البحوث العلمية وبين معنى الفعل وصدق الخطاب وإقرار الوجدان. لقد دأبت الفلسفة على الاهتمام بالحقيقة ولكن الحقيقة في حد ذاتها غير محترمة ولذلك ما فتئت تخضعها لمنطق الهدم والبناء وتغيرها باستمرار وتزيد من نطاقها الدلالي تارة وتنقص من بريقها الوجودي طورا. لا يحترم العلم اليقيني الآراء الساذجة والنظريات الخاطئة والخرافات والأوهام التي تأتي بها التقاليد وفي المقابل يحترم الذوق السليم المناظر الجميلة في الطبيعة أو في الآثار الفنية دون التقيد بجملة من المعايير. كما يحظى تجديد الفكر وإصلاح المجتمع وتهذيب التربية بالتقدير والاهتمام وينفر المرء من الجمود والسكون والتحجر والخضوع ويفضل الانفتاح على المغاير والاستفادة من الوافد والتعرف على المختلف. من يمتلك مصادر السلطة والقوة والثروة يفرض الاحترام على الناس ويحصد الطاعة والمحبة ومن كان ضعيفا يخسر تقدير الناس له ويجلب التمرد والمعاندة والعصيان ويحصد الكراهية والمعارضة والإقصاء. صفوة القول أن الحق غير جوهري وأن الحقيقة ليست موضع احترام وأن الفعل الأخلاقي غير نافع، ولكن لماذا يظل الاحترام غير محترم من الناحية الفلسفية؟ وكيف تتصرف الفلسفة لتخليصه من اللاّإحترام؟ ألم يصرح شوبنهاور بأن" الكراهية تنبع من القلب والاحتقار من العقل وبأن كليهما خارج عن إرادتنا"؟
الإثنين مايو 01, 2017 9:48 pm من طرف ياقوتة