ما قبل الجنس الأدبي
عبد الرحيم جيران |
| |
ّإذا كان الجنس الأدبيّ وليد عصر النهضة، والتحوّلات التي رافقته فما الذي كان قبله عند اليونانيّين، واستأنفه الرومان مع هوراس الذي حوّل ميراث أرسطو إلى تركة معياريّة منزوعة من أساسها المعرفيّ؟ لا يعدو ما تداوله اليونان- في هذا الصدد- كونه تصنيفًا لأنطولوجيا فنيّة شعريّة كانت عندهم قارّة الملامح (آن موريل). وقد كان هذا التصنيف يستند إلى معايير وظيفيّة (أخلاقيّةـ انفعاليّة)، وتلفظيّة، وشكلية، إلى جانب أسس معرفية (التمثيل)؛ فالمعيار الوظيفيّ الأخلاقيّ يتعلّق- عند أفلاطون- باحترام الآلهة، وعدم الحطّ من شأنها، ويُلزم بتجسيد الخير في أسمى صوّره (مُحاورات أيون)، بينما يتّصل المعيار الانفعاليّ- عند أرسطو- بالتطهيرِ، أمّا المعيار التلفُّظيّ فيتعلّق عندهما بسؤال من يتكلّم: الشاعر أم الشخصيات، أم هما معًا؟ ويتعلّق الأمر في ما يخصّ المعيار المُتصل بالتشكيل بأسئلة ثلاثة: ماذا (الموضوع)، وكيف (الطريقة)، وبماذا (الوسيلة) (جنيت). لم يتعدّ جلّ السجال الذي طال التخييل القوليّ عند اليونانيّين حدود الأسئلة أعلاه، ولم يُتنبّه إلى أنّ ما كان واردًا عندهم يكمن في جهة أخرى؛ أي الأساس المعرفيّ الذي كان خلف نظرية التمثيل، والذي مبعثه السؤال عمّا إذا كان الفنّ معرفة تُوصِّل إلى الحقيقة. وترتب المعارف عند أفلاطون (الجمهورية) وفق هذا السؤال؛ حيث تُوضع الرياضيات في القمّة، ويأتي الفكر بعدها، فالرأي، ثمّ الخيالات والظلال. ويُدرج الشعر في المرتبة الرابعة (الكتاب السابع)، وفي المرتبة الثالثة بعد المرتبة الرابعة في الكتاب العاشر. وما يُهمُّ – هنا- هو بُعْدُ الشعر عن تمثيل الحقيقة لافتقاره إلى معياري التجريد اللذين يُحدِّدان الحقيقي. لم يكن أفلاطون- إذن- معنيًا بتصنيف الفنون الشعريّة بقدر ما كان معنيًا بالتساؤل عن تمثيلها المعرفة الحقّة. والشيء ذاته يصدق على أرسطو، وإن بطريقة وتصوّر مُختلفين؛ فهو بربط الشعر بالكلّيّ في تصوُّره التمثيلَ. ويُماثل التمثيلُ الشعريّ عنده التمثيل الفلسفيّ في استهدافه الكلّيَّ من طريق الربط بين المفهوم والماصدق بحيث يتطابق الثاني مع الأوّل الذي هو مجال الكلّي والجنس التجريديّ. ولا بدّ في فهم كيف يشتغل الكليّ في فنّ الشعر، خاصّة المأساة، من ربطه بالعلّة الصوريّة من ضمن العلل الأربع المشهورة عند أرسطو. وتُفيد هذه العلّة الجانب المفهوميّ الذي يُمَكِّن من نشوء الصورة (و/ أو الشكل forme)؛ أي ما هو مُجرَّد. فالتمثيل الشعري هو معرفي يقصد به فهم الكيفية التي يعبر بها الموجود عن صيرورته نحو إظهار العلة الصورية الكامنة فيه؛ أي ما ينبغي فحصه- في هذا النطاق لإدراك التمثيل بوصفه تطابقَ الماصدق مع المفهوم- كيفية تعبير الوجود عن نفسه؟ إنّه صائر نحو إظهار العلّة الصوريّة الكامنة فيه، أيّ إظهار الكلّي في الزمن بما يُفيده من وحدة (دومينيك فولشيد) وكمال وعدم تعدد. ومن ثمّة سيكُون هاجس أرسطو ماثلًا فهم كيفية صيرورة الفن التراجيدي نحو إظهار تبدّي الكلّيّ فيه. يتّضح- إذن- أنّ المُشكلة لم تكن عند اليونانيّين ماثلةً في تصنيف أجناس أدبيّة تلتبس هويتها، بل في مُحاولة فهم الفنّون الشعريّة في ضوء نسقيْن للمعرفة: النسق الأفلاطونيّ والنسق الأرسطيّ. ولا ينبغي التحجّج في حالة أرسطو بكونه لم يبسط – في كتابه «البوطيقا» الجانب المعرفيّ المُتعلِّق بمفهوم التمثيل على نحو واضح؛ لأنّ المُعوَّل عليه في صدد هذا الكتاب ضرورة إعادة قراءته في ضوء النسق الفلسفيّ لأرسطو، خاصّة في ضوء كتابيْه «السماع الطبيعيّ» و»السياسة». فمن المُسلَّم به أن ليس من الضروري بالنسبة إلى أيّ فيلسوف تبرير أفكاره كلّ مرّة – حين خوضه في مجال من المجالات بالتذكير- بمُنطلقاته المعرفيّة. لا تصحّ مُناقشة مسألة الجنس الأدبيّ بدون طرحها في سياق النقد العربيّ. فهناك الكثير من التسرّع غير الحذر في توضيع مسألة الجنس الأدبيّ في التراث القولي ّالفنيّ العربيّ؛ فالبحث عن نظرية للجنس الأدبيّ في هذا التراث يُعَدُّ جهدًا بدون طائل. والأسباب الداعية إلى إعادة النظر في مثل هذا الجهد هي كالآتي: اـ تُعد مسألة الأجناس الأدبيّة حديثة استجدّت في النظرية الأدبيّة في أثناء عصر النهضة. ب ـ إذا كانت هذه المسألة غير واردة في التراث الفكريّ اليونانيّ فكيف تكُون واردة في الوعي النقديّ في التراث العربيّ؟ ج ـ لا يُمْكِن التفكير في مسألة الأجناس الأدبيّة إلّا في ضوء تنوّع الإنتاجات الأدبيّة في عصر النهضة؛ إذ يُعَدُّ هذا التنوّع مسؤولًا عن تكوُّن الإشكال الإجناسيّ. ويصحُّ التساؤل- في هذا النطاق- عمّا إذا كان التراث الفنّيّ العربيّ المُكرّس نقدًا قد واجه مثل هذا التنوع المُقلق حتّى يُعنى بالتفكير في التصنيف وحلّ مُشكلات نظريّة تتّصل به. ينبغي أن نفهم أنّ مسألة الأجناس الأدبيّة تتعلّق بإشكال ثقافيّ تاريخيّ غربيّ محض لم يكن مطروحًا في التراث العربيّ. وإذا ما صُودف أن استعملت لفظة «الجنس» في هذا التراث فإنّ النعت «الأدبيّ» لم يُرافقها على الإطلاق. لم يكن واردا عند جميع النقاد العرب- وبدون استثناء، في وعيهم بالقول الفنّيّ- ما ترتّب على مسألة الأجناس الأدبيّة من إشكالات نظريّة؛ والسبب يعود إلى عدم توافر السياق الثقافيّ التاريخيّ الذي يسمح بذلك. ويكفي جرد المُشكلات التي واجهتها النظرية الإجناسيّة في الغرب عبر تاريخها لإدراك هذا، وفي مقدِّمتها الأسئلة الآتيّة: هل يصحّ نسبة النموذج الثلاثيّ إلى أفلاطون وأرسطو؟ وما هي المُكوِّنات والمعايير التي تسمح بتحديد طبيعة جنس أدبيّ مُعيَّن؟ هل التغيّرات التي أدخلت على النموذج الثلاثيّ حسمت في مسألة الأجناس الأدبيّة؟ لا نجد لمثل هذه الأسئلة ذكرا في الوعي النقديّ العربيّ القديم. وحتّى في حالة التشبث بآلية التصنيف- لا مُشكلته- فإنّ كلّ ما يُمْكِن الحديث عنه هو تصنيف ثنائيّ وُزّع بمُوجبه القول الفنّيّ إلى شعر ونثر، مع ما يحمله هذا التصنيف من مُضمرات سوسيو- ثقافيّة، وما ينجم عنها من حكم قيميّ في صدد هذا التصنيف؛ حيث يحتلّ النثر قيمة دنيا قياسًا إلى الشعر. هذا إلى جانب النظر بعين كليلة إلى ما تُنتجه الثقافة الشفهيّة العامّة من نصوص. لكنّ سؤالًا آخر يظلّ واردًا هنا: فإذا كان اهتمام اليونانيّين مُنصرفًا إلى علاقة الفنّ الشعريّ بتمثيل الحقيقة فما الذي كان اهتمام النقد العربيّ مُنصرفًا إليه.
الإثنين مايو 01, 2017 9:48 pm من طرف ياقوتة