العصر الوسيط من تاريخنا الحضاري: حراك فكري يُحرج حاضرنا
لطفي العبيدي |
| |
شكل العصر الوسيط في الحضارة العربية الإسلامية أهمّ العصور التي نمت فيها النزعة التأويلية، حيث شكّل علم الكلام مجالا خصبا للمجادلة حول النص الديني الذي لم يحض نصّ من النصوص السماوية أو ممّا أنتجه العقل الإنساني بمثل ما حظي به من جهود لبيان معانيه والكشف عن أسراره وتتبُّع مدلولاته النصّية. وليس في تاريخ الإنسانية حدث كان له من التأثير في التاريخ والفكر الإنسانيين مثل ما كان للحدث القرآني من تأثير في جميع مستويات الحياة الإنسانية ومناحي التاريخ البشري. وقد ظهرت تيارات عديدة تهتمّ بالتفسير والتأويل معا، وفعل التأويل تمّ لاستبطان ما هو مضمر في النصّ كالآيات المتشابهات والآيات المحكمات. وتحيلنا مثل هذه السياقات الفكرية في التاريخ الثقافي العربي الإسلامي على تأكيد أنّ مسألة التأويل لم تكن وليدة اليوم، على الرغم من الطّابع العلمي الذي أضفي عليها ضمن التأويلية المعاصرة، خاصّة مع ظهور فلسفة التأويل في الفكر الغربي واتّساع دائرة التطبيقات المتعدّدة للتأويلية في الفكر الغربي والشرقي معا. وقد عرفت القرون الهجرية الأولى ردود فعل فكرية بين الجماعات الدينية السياسية، وبين المذاهب فيما بعد، تطوّر الأمر إلى تضادّ بين الجبرية والقدرية أو نفاة القدر وهم المعتزلة الأوائل، وفي سياق هذا الصّراع كان ثمّة صراع آخر يدور بين أهل الرأي وأهل الحديث، وهو صراع حول مدى مرجعية النصوص الدينية الثانوية، ومشروعية مناهج تفسير القرآن. فكان الاختلاف بين أهل الرأي والمتمسّكين بالمأثور جليّا في التاريخ الإسلامي، ولعلّ اختلاف العلماء في تجويز التفسير بالرأي كان سبيلا لاختلافهم في لون من ألوانه وهو التفسير العلمي، لاسيما أنّه اتّجاه جديد غير معهود على زمن النبي ولا على زمن أصحابه، فالفكر الإسلامي في تلك الفترة النبوية كان فكرا منفعلا أكثر منه فكرا فاعلا، فالعصر كان عصر تلقّي الوحي والسنّة النبوية المفسّرة لمُجمل الوحي من عبادات وشرائع وأحكام. فحتّى عندما انتشر الفكر الفلسفي في دار الإسلام على الصّعيدين النظري والعملي وبدأ يطالب بمكان لم يتسنّ له ذلك بالقدر المطلوب واضح الملامح وجلي التركيب والهيئة، لأنّ المجال النظري في العالم الإسلامي كان عندئذ مشغولا بتلقّي القيم الإنسانية التي جاء بها القرآن ولم يكن هناك مجال للبحث عن قواعد السلوك في الحياة من جهة علوم الأوائل الفلسفية التجريدية. وقد شكّل التأويل أساس وجود النص المدروس، فكلّ نص يفترض قراءة والقراءة تستدعي الفهم وما دام جُهد الفهم محكوما بالذات في مختلف السياقات التي تحكم القراءة فإنّه سيبقى نسبيّا ومختلفا ومتنوّعا حسب الذوات وحسب السياقات التي حكمها وهذا أساس قيام التأويل ووجوده. إنّ الإشكال الذي أبان عند علماء أصول الفقه وأضحي أساس تفكيرهم اللغوي المنطقي هو كيف يتمّ الوصول إلى قصدية النص الشرعي، لأنّ ذلك مرتبط بتحديد العلاقة بين الله تعالى – صاحب النص – والنص ذاته كما تقدّمها التأويلية كإجراء نقدي، إلاّ أنّ الامتداد الدلالي الافتراضي قد يكون هو الحلّ لذلك الإشكال المطروح مع تأكيد علماء اللغة على محدودية اللفظ ولانهائية المعنى، وهو ما يفسّر تجاوز اللفظ لحقله الدلالي وتمرّد المدلول على داله الأصلي بما عرف بالمجاز، خاصة في علاقة بالآيات المتشابهات والفعل التأويلي في حقيقته، فعل مؤسّس على الاختلاف في النص الشرعي، ولم يكن للدراسات التراثية أن تزدهر وتُثمر لولا وجود هذا الاختلاف، اختلاف في نسق القراءة – أدّى لطرح قراءة ثانية لقصدية الخطاب القرآني على الخصوص، والتأويل في الخطاب الأصولي التراثي، بدأ بما هو عملي إجرائي ولم يهتم بوضع نظرية في التأويل كما كان شأن الدراسات الدينية في الغرب وذلك لارتباط التأويل عند العرب بعلم التفسير، ولعلّ ذلك يبدو واضحا مع الطبري، رغم أنّ تفسيره وسَمَهُ بـ»جامع البيان عن تأويل آيّ القرآن»، وفعل التأويل ارتبط أساسا بمنهج التفسير بالرأي وإعمال العقل وهو المنهج الذي انحدر منه اتّجاه التفسير العلمي للقرآن. وقد توجّه التفسير العلمي للقرآن قديما إلى تناول آيات معيّنة متّصلة بالإنسان والكون، انصبّ الاهتمام فيها حول ما سمّي بالآيات الكونية التي ورد فيها ذكر لمظاهر الكون، الطبيعة، وما له صلة بالمناخ (الكواكب، السماء، الأمطار، الرعد، الصواعق، البحر…) كما وقع التركيز على الآيات التي ورد فيها ذكر الإنسان في تكوينه وخلقه، في طبائعه وميوله باعتباره في علاقة مباشرة مع محيطه – مع الطبيعة التي تحضنه ويتفاعل معها. إلاّ أنّ محاولات الكشف عن أسرار القرآن من خلال المكتشف العلمي التجريبي للفلك أو الفيزياء أو الطب أو الهندسة أو الرياضيات، لم تقع موقع المسلّمة منهجيا ومعرفيا، ولم تكن لتلقى الترحيب، خاصّة والفكر العربي تحرّك داخل الدوائر الإيمانية وانحكم منذ فترة مبكّرة جدّا بممارسة الجدل حول العقائد الإيمانية منذ النصف الثاني من القرن الأوّل للهجرة. فقد حكمت ممارسة الجدل في توجيه الثقافة العربية الإسلامية في طور مبكّر من التئام عناصرها منذ النصف الأوّل من القرن الهجري الأوّل على الأقلّ إلى ما له صلة بجوانب المعرفة القويمة والعلمية المنهجية وإلى ما له صلة بآيديولوجيا المعرفة ورسمت تحصيل المعرفة من طريق مسلكين مسلك غلب عليه طابع المشافهة في تداول المعارف، خاصة من جهة الثقافة ذات المنحى التدويني النقلي في بداياته التكوينية. ومسلك ثان طغى عليه طابع الكتابة ارتباطا بالمنزع الحكمي العلمي والفلسفي خاصة، تدوينا وتوثيقا وهو منزع سعى إلى عقلنة المعرفة وتنظيمها. والمسلكان تفاعَلا تفاعُلا تامّا ضمن الثقافة العربية الإسلامية وساعدت في ذلك طبيعة تكوينية هذه الثقافة التي تعدّدت مناحيها ضمن دائرتين مركزيتين: دائرة مركزية الثقافة العربية الاسلامية ونواتها النص الديني والحديثي والفقهي التشريعي والنص الشعري والأدبي، ودائرة مركزية الثقافة الأعجمية بروافدها المتعدّدة والمختلفة، خاصة منها فلسفة اليونان وعلومها وموروث الهند الحكائي وسرديات الفرس العجائبية. وقد ساعدت طبيعة مكوّنات الموروث الثقافي العربي الإسلامي على التوجّه إلى روح المناقشة والمجادلة لحاجة المسلمين منذ الطّور الأوّل لظهور المشروع الإسلامي وبناء ثقافتهم إلى الدفاع عن عقائدهم الإيمانية بقوّة، ردّا على مطاعن الخصوم المختلفة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمانويين والبوذيين والزنادقة وغيرهم. نخلص إلى أنّ فعل التأويل في الثقافة العربية الاسلامية أبانَ عن فكر باحث في مُعطيات النص في أكثر من جهة بأزيد من طريقة بضرب من التّمثيل الذهني، بحثا عن أنموذج الفهم المجدي والفعّال والمخصّب معنويّا وماديّا على منوال حركة الفعل البشري والعطاء الفكري التاريخي ضمن