| |
«إن خشيتنا المبالغ فيها، من أننا معشر المؤمنين بالتسامح قد نصبح نحن أنفسنا لا متسامحين، هي التي أدت بنا إلى الموقف الخطأ والخطير الذي بات يوجب علينا أن نتسامح مع كل شيء، وربما مع أعمال العنف (...) وأن هذا الموقف مفهوم، بل مثير للإعجاب بطريقة من الطرق، وذلك لأنه ينبع من تلك النظرة التي تقف في أساس التسامح كله: النظرة التي تقول إننا كلنا قابلون لأن نخطئ ولأن ننادي بارتكاب الخطأ، النظرة التي تقول إنني قد أكون على خطأ وقد تكون أنت على صواب، وانه ينبغي عليّ أن أعلّم نفسي كيف لا أنخدع بذلك الشعور الغريزي الخطير، أو تلك القناعة التي تملي عليّ بـ «أنا من هو على صواب دائماً». فإن عليّ أن أحذر هذا الشعور مهما كانت قوته. وذلك لأنه كلما كان أكثر قوة، كلما كان الخطر الكامن في إمكان أن أخيب ظن نفسي بنفسي أكبر... ومعه خطر أن أصبح أنا نفسي متعصباً غير متسامح». > هذا المقطع الذي قد يبدو مكتوباً في أيامنا هذه، والذي يشكل في جوهره ما يشبه فعل إيمان ديموقراطي بقضية التسامح، - لا بأس من أن نشير هنا إلى واقع بات يفرض نفسه في الآونة الأخيرة، واقع أن هذا المبدأ الجوهري قد أعيد النظر فيه في الغرب، حامله وصانعه، منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)2001 على ضوء الأحداث الإرهابية الفاصلة التي عرفتها مدينة نيويورك وقال كثر أن «التسامح الذي تمارسه الديموقراطية قد يكون بدوره مسؤولاً عنها» -، كتبه فيلسوف كبير من كبار مفكري النصف الثاني من القرن العشرين، حدث له أن رحل عن عالمنا قبل سنوات من اندلاع تلك الأحداث التي أعادت النظر كلياً - للأسف - في مفاهيم، مثل التعصب والتسامح وضرورة قبول الآخر ومحاورته. ذلك أن أحداث أيلول الكارثية تلك قلبت العالم في شكل بات فيه أي كلام عن التسامح «مضيعة للوقت» في رأي كثر! ومع هذا، من المؤكد أن صاحب هذا الكلام، وهو الفيلسوف كارل بوبر، لو كان حياً، وشهد ما حدث، وعايش ما كان من ردود فعل عليه، لما غير أبداً من فعل إيمانه، ولظل التسامح دعوة يطلقها. ذلك أن التسامح، في رأي كارل بوبر وغيره من الفلاسفة الأخلاقيين، ليس «موضة» عابرة ترتبط بزمان معين أو مكان معين، بل هو الشرط الذي لا بد منه لإنسانية الإنسان. وما أعداء التسامح سوى أعداء الإنسان. > النص الذي اقتبسنا منه الفقرة التي ذكرناها هنا يحمل بالتحديد عنوان «التسامح والمسؤولية الفكرية»... وهو نص كتبه كارل بوبر منطلقاً من كتابه الأشهر «المجتمع المفتوح وأعداؤه»... ويقول فيه انه إذا كان للديموقراطية (الغربية) من أساس فإن هذا الأساس يحمل اسماً واضحاً هو: «التسامح»، حيث يقول إن «التسامح لا يبدو للوهلة الأولى كأنه يشكل معضلة، وعلى الأقل في البلدان الديموقراطية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية وأوستراليا ونيوزيلندا»، مستطرداً: «ففي مجتمعات الغرب المفتوحة، أو التي تكاد تكون مفتوحة، من الجلي أن كل فرد يجد نفسه موضع تسامح كل فرد آخر، وكل شخص، تقريباً، يؤمن بالتسامح، وربما بأقوى مما يؤمن حتى بالديموقراطية». وقبل أن يصل كارل بوبر في ختام هذا النص إلى النتيجة الحتمية بالنسبة إليه حول مسألة التلاقي بين التسامح والديموقراطية، يستطرد في صفحات بالغة العمق الحديث عن كل المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وذلك على ضوء نظرته إلى مسألة المجتمع المفتوح الذي يشجع انفتاحه أعداءه على النيل منه. > في الاستنتاج الأخير لنصه، إذاً، يرى بوبر أن «الغاية الأساسية هي التمكن من العثور على الأخطاء وتصحيحها بأسرع ما يمكن، أي قبل أن تتسبب في المزيد من الضرر. من هنا تكون الخطيئة الوحيدة التي لا تغتفر هي خطيئة التستر على خطأ من الأخطاء. وعلينا أن نزيل الدوافع التي تؤدي إلى مثل هذا التستر. وهذه الدوافع كانت قوية جداً بفعل تأثير الأخلاق القديمة». «علينا أن نتعلم أن النقد الذاتي أفضل» يقول بوبر، مضيفاً أن «النقد المتبادل الذي نحتاج إليه على الدوام، لكي نتعلم منه كيف ننتقد أنفسنا، لا يقل أهمية وفضيلة عن نقد الذات تقريباً». أما نهاية النص ففقرة ذاتية يقول فيها كارل بوبر تحديداً: «أنا، إذا كنت أحلم بيوتوبيا ديموقراطية، فإنني أحلم بيوتوبيا (مدينة فاضلة) يمكن فيها المرشح لمقعد نيابي أن يأمل في الحصول على أصوات الناخبين عبر إعلانه بفخر عن كيف انه اكتشف خلال العام المنصرم واحداً وثلاثين خطأ ارتكبها هو نفسه، وسعى إلى تصحيح ثلاثة عشر منها. هذا بينما اكتشف منافسه سبعة وعشرين خطأ وحسب، حتى ولو كان صرح بدوره بأنه قد صحح ثلاثة عشر خطأ منها. ولست في حاجة إلى القول إن مثل هذه اليوتوبيا ستكون بالتحديد يوتوبيا التسامح». > واضح هنا أن كارل بوبر إذا كان يختتم نصه على مثل هذه الشاكلة، يبدو كمن ينفخ في قربة مثقوبة، لا سيما إذا قرئ من قراء في بلدان مثل بلداننا... غير أن هذا البعد اليوتوبي لخاتمة دراسته، لا تمنع واقعية متن النص نفسه، هذا النص الذي يشكل التسامح أساساً له، والمنطلق على أي حال من نص لفولتير يقول بوبر انه لم يقرأ في هذا المجال ما هو أروع تعبيراً منه: «ما هو التسامح؟ يسأل فولتير... ويجيب: إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية. إننا جميعاً من نتاج الضعف: كلنا هشون وميالون لارتكاب الخطأ. لذا دعونا نسامح بعضنا بعضاً، ونتسامح مع جنون بعضنا بعضاً في شكل متبادل. وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة. المبدأ الأول لحقوق الإنسان برمتها». والحال أن كارل بوبر، انطلاقاً من قولة فولتير هذه، وتمهيداً للخاتمة التي أنهى بها دراسته، يقترح ثلاثة أسس أو مبادئ ترتبط جميعها بالعلاقات بين البشر، وتنتشر من حول مفهوم التسامح: - المبدأ الأول فحواه: «قد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب». - المبدأ الثاني فحواه: «عبر تفاهمنا حول الأمور في شكل عقلاني، قد نصل إلى تصحيح بعض أخطائنا». -أما المبدأ الثالث ففحواه: «إذا تفاهمنا على الأمور في شكل عقلاني، قد ندنو معاً من الحقيقة». > وانطلاقاً من هذه المقدمات والمبادئ - الأسس يصل كارل بوبر في هذا النص، إلى ما يسميه «الأخلاق المهنية الجديدة» والتي يقسمها بدورها إلى ستة اقتراحات: إننا نعرف فقط في شكل ظرفي، أكثر بكثير مما يمكن لأي شخص أن يعلم علماً كلياً - ويسري هذا حتى على أولئك الذين لا يزالون يعتبرون أنفسهم اختصاصيين. وذلك لأن أي اختصاص صار من الممكن أن يتفتت - أن معرفتنا، بالتالي، لا يمكن إلا أن تكون ظرفية أي غير يقينية، وذات حدود. جهلنا وحده هو، بالضرورة، لا نهائي. الآن فقد بدأنا نعلم قلة حجم ما نعلمه... ونمو وتطور المعرفة يبرهن لنا كم أن سقراط كان على حق - أن الأخطاء ترتكب في كل يوم وفي جميع الحقول. والفكرة القديمة القائلة إن صاحب السلطة في إمكانه أن يتفادى ارتكاب الخطأ، بل ينبغي عليه ذلك، فكرة بات لا بد من الإقرار بخطئها... - من هنا، انطلاقاً من إقرارنا في إمكان ارتكاب الأخطاء يمكن لنا أن نبدأ عملية إصلاحنا الأخلاقي (...) - وبالتالي، يقول كارل بوبر: «أقترح أن تكون الوصية الأولى بين وصايا أخلاقنا المهنية الجديدة: علم نفسك من أخطائك... وبالتالي، أيضاً، دعونا جميعاً نتعلم من أخطائنا». > في هذا المعنى كان كارل بوبر (1902 - 1994) واحداً من كبار فلاسفة التسامح والحرية والانفتاح الاجتماعي في القرن العشرين. وكان من أبرز كتبه، إضافة إلى «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، سيرته الذاتية بعنوان «المسعى غير المكتمل» و»منطق الاكتشاف العلمي» إضافة إلى كتاب مهم في عنوان «المستقبل مفتوح» نشره في العام