2012-10-04 فلسفة الموسيقى عند هيجل
ابراهيم العريس |
| |
على الفنان الذي يؤدي عملاً موسيقياً، ان يتقيد بلا تحفظ بطابع هذا العمل
الموسيقي، وأن يكون أداته الطيعة. ولكنه إذ يبدي هذه الطاعة، لا يحق له،
كما يحدث في الكثير من الاحيان، ان ينزلق الى مستوى المنفّذ اليدوي
البسيط، على غرار من يكتفي بادارة مقبض الأورغ الشعبي. وهنا، حتى يتاح لنا
ان نتكلم في هذا المضمار، ايضاًَ، عن الفن، نقول انه لا بد للفنان، بدلاً
من ان يوحي الينا بأنه محض انسان آلي موسيقي لا شأن له غير ان يتلو درسه
ويردد آلياً ما لقّنه، لا بد له من ان يمتلك القدرة على بث الحياة في
العمل الموسيقي في الاتجاه الذي أراده له الملحن، وبروحه بالذات…». هذا
المقطع عن الاداء الموسيقي الذي يتعين على عازف ما، تقديمه عبر آلته،
مجتزأ هنا من القسم الخاص بفن الموسيقى في موسوعة هيغل الكبرى عن علم
الجمال. ولئن كنا أوردناها هنا مقدمة للحديث عن هذا القسم، فإنما لكي
ندلل، بداية، على كم ان هذا الفيلسوف الألماني الكبير اهتم بمسألة علاقة
الروح بالفن، هو الذي كان يضع الروح في المقام الاول من كل تفكير لديه.
والمهم في هذا النص هنا هو ان هيغل اوصل مفهوم الروح، حتى الى قلب مسألة
الأداء الآلي للموسيقى، موضحاً ببساطة كيف ان الروح يتعين ان تكون حاضرة
في الاداء الآلي البسيط حضورها في التأليف الموسيقي المعقد.
> طبعاً مثل هذا الكلام لم يكن بالجديد في زمن هيغـــل، ولا كـــان
حديـــــث الفيلسوف عن فن الموسيقى جديداً، لكن اللافت في الأمر، هو ان
ذلك الفيلسوف الكبير، وعلى غرار ما يروى عن فيلسوف الحضارة الإسلامية،
الفارابي، جعل حتى مسألة الاداء الموسيقي جــــزءاً من بحث نظري فلسفي
يعتبر حتى يومنا هذا، من أعمق ما خطــــه قلـــم مفكر على مدى العصور.
وبالنسبة الى هيغل كانــــت الموسيقى، على أي حال، تتضافر مع بقية الفنون
السامية، مؤكـــــدة بدورها، أو حتـــى أكثر من اي فن آخر ان «جوهر النشاط
في مضمار الجمال هو عتق النفس وتحريرها من كل اضطهاد وتهديد، على
اعتبــــار ان الفـــن يملك، بما هو فن، المقدرة على تلطيف أوحش المصائر
واكثر الاقدار مأسوية، بل ان يجعل منها، بالتمثيل النظري، موضوعاً لمتعة».
وفي رأي هيغل، فإن هذا «يسري في المقام الاول على الموسيقى حيث تدرك هذه
الحرية أعلى درجاتها».
> بالنسبة الى هيغل، وكما يبيّن لنا في هذا الجزء من موسوعته الضخمة
تعتبر الموسيقى «ثاني الفنون الرومانسية بعد الرسم»، كما انها «أكثر
الفنون تحرراً من ثقل المادة». لماذا؟ لأن الموسيقى «تتعامل مع الصوت
والصوت مادة تتلاشى. هو حركة اهتزازية ليس لها شكل جسماني ولا استمرارية
فيزيقية». ومن هنا فإن الموسيقى هي «من أقدر الفنون تعبيراً عن الداخلي:
حيث ان البعد الذاتي هو شكلهـــا ومضمونها ومادتها معاً». وفي رأي هيغل
فإن «المهمة الرئيسة للموسيقى تكمن، لا في تصوير الاشياء الواقعية، بل في
موسقة الأنا الداخلي الحميم، وجوّانيته العميقة، وذاتيته الفكروية». وفي
هذا الاطــــار يحرص هيغل على ان يقول لنا ان الموسيقى «لا تكتفي بأن
تعبّــر عن النفس بل هي تخاطب النفس ايضاً» لأنها، من حيث تعريفها «الفن
الذي تستخدمه النفس للتأثير على النفوس». وللتدليـــل على هذا، وايجاد
تفسيرات نظرية لفن كان كثر من المفكرين يرونه، من قبل، عصيّاً على كل
تفسير أو تنظير، قسم هيغل نصه هذا، الى ثلاثة فصول، درس في أولها «الطابع
العام للموسيقى». وفي الثاني «التعيين الخاص لأدوات التعبير الموسيقي».
أما في الفصل الثالث فدرس العلاقات بين وسائل التعبير الموسيقي ومضمونها.
> ان هيغل الذي كان يرى في مجال آخر، عبّر عنه خصوصاً في كتابه «اصول
فلسفة الحق» أن « ميولنا وانفعالاتنا الطاغية التي هي في نظر الاخلاق اصل
الشر، لا ينبغي محاربتها واقتلاعها في النهاية، بل يجب ترويضها وجعلها
تجري في قنوات الاخلاق الاجتماعية وما فيها من نظم وعادات»، كان يعتبر
اللجوء الى فن الموسيقى - بين، وربما قبل، الفنون الاخرى - وسيلة مثلى
للوصول الى هذا الترويض. وهذا لأن العمل الموسيقي «النابع من النفس بالذات
والغنيّ بالعواطف المكشوفة، يمتلك القدرة على التأثير العميق في نفوس من
يسترقون السمع اليه» وهنا، ودائماً بحسب هيغل، يحدث لعواطفنا ان تنتقل
«بسهولة من الجوانية المبهمة المحتواة في مضمون ما، ومن التماهي الذاتي مع
هذا المضمون، الى رؤية اكثر عيانية لهذا الاخير، والى موقف اكثر موضوعية
حياله».
> في هذا السياق نفسه لا يفوت هيغل ان يؤكد لنا هنا ان «الموسيقى تتمتع
من دون غيرها من الفنون، بأعظم امكان للانعتاق، لا من كل نص فعلي فحسب، بل
ايضاً من كل تعبير عن مضمون متعين، لتكتفي بتتابع من التراصفات والتغيرات
والتعارضات والتوسطات، ولتحبس نفسها ضمن حدود مضمار الاصوات الموسيقية
المحض».
> بيد ان هيغل ينبهنا هنا الى ان الموسيقى في مثل هذه الحال «تبقى
خاوية بلا مدلول. ونظراً الى انه، عند ذاك يعوزها عنصر من العناصر الرئيسة
في كل فن - أعني المضمون والتعبير الروحيين-، لذا لا يمكن تصنيفها، بعد،
في عداد الفنون بحصر المعنى. وإنما عندما يفيد عنصر الاصوات الحسي، في
عملية التعبير عن الروحي تعبيراً مطابقاً، بقدر أو بآخر، ترقى الموسيقى
الى مستوى الفن الحقيقي، سواء أصيغ هذا المضمون في ألفاظ - على شكل غناء
فردي أو أوبرالي او كنسي أو أي شيء من هذا القبيل - أم أمكن استخلاصه
بصورة أقل وضوحاً من الأصوات وعلاقتها التناغمية وحيويتها اللحنية». وهنا
يستطرد هيغل ليقول لنا ان «المهمة الخاصة للموسيقى، في هذا المنظور، هي ان
تقدم للروح هذا المضمون، لا كما يوجد في الوعي كتمثل عام، او كما يكون
موجوداً سلفاً بالنسبة الى الحدس في شكل صورة خارجية معينة او مرسومة من
قبل الفن، بل كما يمكن ان تصقله الذاتية الجوانية، ويتكشف فيها بملء
حيويته». اما المهمة الصعبة التي تقع على عاتق الموسيقى في هذا المضمار،
فهي على وجه الدقة «موسقة تلك الحياة الكامنة للأصوات، او اختيار كلمات
وتمثلات، لغمرها في هذا الجو ولاستحضار شعور بالتعاطف حيالها».
> يشكل هذا الكلام النظري عن فن الموسيقى، كما أشرنا، جزءاً من تلك
الموسوعة الفلسفية الضخمة التي صاغها الفيلسوف الألماني جورج فلهلم فردريش
هيغل (1831-1770)، وأتت أولاً على شكل محاضرات القاها على طلابه - كما على
جمهور غفير من غير الطلاب - في جامعة برلين، ثم جمعها تلميذه هوتو ليصدرها
في مجلد مستقل في العام 1832، اي بعد وفاة هيغل بعام… وهي محاضرات كانت
جديدة الموضوع واسلوب التنسيق في زمنها، وتناول فيها المفكر الكبير، بعد
ثلاث مقدمات هي «مدخل الى علم الجمال» و «فكرة الجمال» (في قسمين)، الفن
الرمزي والفن الكلاسيكي والفن الرومانسي، قبل ان يتطرق الى فن العمارة وفن
الرسم وفن النحت وفن الموسيقى، خاتماً بجزأين عن «فن الشعر». وترجم جورج
طرابيشي هذه الموسوعة الى العربية في ثمانينات القرن الفائت وصدرت في
اجزاء عن «دار الطليعة – بيروت»، لتضاف الى أعمال اخرى نقلت لهيغل الى
العربية، ومن بينها نصوص اساسية له هي «فينومينولوجيا الروح» و «الموسوعة
الفلسفية» و«أصول فلسفة الحق» وغيرها من اعمال ساهم فيها المفكر المصري
امام عبدالفتاح إمام، وأصدرت بعضها «دار التنوير» في بيروت قبل ان يستأنف
اصدارها، وبحلة أفضل، «المجلس الاعلى للثقافة» في القاهرة. ثم تعمد
المنظمة العربية للترجمة في بيروت الى اعادة ترجمة نص اساسي من نصوصها هو
«فينيمينولوجيا الروح»