البنيوية..
المفهوم:
اشتقت البنيوية من لفظ (البنية)، التي تعني: تكوين الشيء، أو الكيفية التي شُيِّد عليها.
ويُقصد بها في علم اللغة مجموعة مركبة من العناصر المتماسكة، والمتداخلة فيما بينها، بحيث تُلغى فكرة التفرّد؛ بل يتوقّف كل عنصر على بقية العناصر الأخرى، ومدى علاقته بها؛ فتكون البنيوية عبارة عن دراسة العلاقات بين البنى المختلفة في النص الأدبي.
وقد لخّص القول (دي سوسير) – الذي يُعدّ أبو البنيوية- بأنها (تنظيم … يعبّر عن تماسك العلاقات داخل ذلك النص الموحّد).
أما عالم الاجتماع ليفي شتراوس فإنه يعرّفها بأنها (مجرد منهج أو نسق يمكن تطبيقه على أي نوع من الدراسات)
يُفهم من ذلك أن البنيوية نظرية قائمة على تحديد وظائف العناصر المترابطة الداخلة في النص.
البنيوية الغربية:
إن أول من أسس منهج البنيوية العالم اللغوي السويسري (فردينان دي سوسير 1913م)، في محاضراته التي ألقاها عن ثنائية اللغة والكلام، وثنائية المحور التاريخي التطوري، والمحور التزامني الوصفي، إضافة إلى ثنائية علمي اللغة: الداخلي و الخارجي.
وقد قامت البنيوية على هذه الثنائيات اللغوية المتقابلة، وإن كان سوسير –كما أشرت سابقاً- لم يعبِّر بلفظ (البنية) وإنما (نظام) ؛ ولكن اختلاف اللفظ لا يُشكِل مادام يقصد المعنى نفسه للبنية. وقد استفاد سوسير من مبادئ المذهب التجريبي الذي تبنته الدراسات اللغوية.
وبعد حقبة من الزمن تنقلنا من سويسرا إلى روسيا حيث الشكلانيين الروس؛ الذين وضعوا أسساً منهجية مستقلة عما يريده النظام الشيوعي من تركيز على المضمون. وذهبوا إلى أن قيمة الوسيلة الأدبية تعتمد في الأساس على علاقتها مع الوسائل الأدبية الأخرى.
ومن المؤسسين لهذه المدرسة (رومان جاكبسون)؛ الذي التحق بعد ذلك بمدرسة (براغ)، وقد عمد إلى رسم بياني كامل بيّن فيه عوامل التواصل الكلامي بتوزيع المرسل والمرسل إليه، الذين يعدهما من أهم عناصر التواصل الستة في الوظائف اللغوية . وقد كان السبّاق بلفظة (البنيوية) كمنهج نقدي .
وبعد براغ والشكلانيين أثبتت مدرسة (النقد الجديد) في أمريكا وإنجلترا ضرورة عزل النص عمّا يؤثر فيه، وعدُّوا الأعمال الأدبية أشياء مجردة بعيدة عن العوامل الخارجية !!!
أما ليفي شتراوس العالم الأنثروبولوجي فقد جعل النموذج اللغوي مقوِّماً في دراسة الكليّات، وهذا الاعتماد يسّر تمازج العلوم الإنسانية؛ الذي تجسّد بلقاء هذا العالم بـ(جاكبسون) ليتعاونا في تحليل نص لبودلير (القطط)، يصبح وقتها الميلاد الفعلي للمنهج البنيوي في النقد الأدبي .
بعد ذلك كان اهتمام علماء النفس بالشعور واللا شعور على أساس أنهما بنى لغوية، فنجد (جاك لاكان) يؤسس علم النفس البنيوي القائم على أن البنية الشاملة للغة هي بنية لا شعورية، وأن لا وجود لأية علاقة مباشرة بين النفس و التجربة .
وكذلك الفرنسي (جان بياجيه) ، الذي جعل للبنية ثلاث خصائص لا بد أن تتسم بها: هي الكلية؛ فتتكون البنية من عناصر داخلية خاضعة لقوانين النسق. والتحول؛ وهو سلسلة من التغيرات الباطنة تحدث داخل النسق. والتنظيم الذاتي؛ فتنظم البنية نفسها لتحفظ لها وحدتها، وتساهم في طول بقائها .
وكان للناقد الفرنسي (رولان بارت) إسهامات في البنيوية، ولكنه في آخر عمره انتقدها، ونأى عنها إلى التفكيكية .
البنيوية العربية التراثية:
لم يكن النقد العربي القديم بأدواته يستطيع تحليل النص الأدبي كما يقوم به أصحاب البنيوية الآن؛ إلا أن هناك بعض البدايات والنظرات التي تشابه إلى حدٍ ما ما يقوم به البنيويون اليوم.
فحينما يكشف هؤلاء عن العلاقات المتشابكة في النص فأولئك بدورهم كانوا يبحثون عنها أيضا وإن لم تكن نفس العلاقات. فعبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز تحدّث عن العلاقات النحوية في النص، وتأثيرها في التعبير الأدبي. إضافة إلى أن نظريته الشهيرة (النظم) كانت تشبه إلى حدٍ كبير ما يعرف بالتوليد في النص، و أن ليس للمفردة المجردة مزية حتى تدخل في سياق معين، وهذا ما عرفناه لدى البنيويين؛ الذين يعتمدون في أسسهم على أن العلاقات بين العناصر في النص هي المحور، ولا يعتدّ بالعنصر الواحد بذاته.
ويرى حسام الخطيب أنه كما دافع ابن قتيبة والمرزوقي وابن خلدون عن وحدة البيت في القصيدة، فإن البنيويون أيضا يهتمون بهذا الأمر، إلا أنني أخالفه هذه الفكرة؛ فما عرفته عن هذا المنهج هو اهتمامه بالنص الأدبي كوحدة متكاملة.
أيضاً ممن كانت له إشارات ولمحات فيما يتصل بهذا المنهج الناقد العربي (حازم القرطاجني ق6 هـ) حين أشار إلى البعض عناصر الاتصال في النص لدى البنيويين . إضافة إلى محاولاته في النظرة الكلية للنص الأدبي.
البنيوية العربية الحديثة:
لم تنتشر البنيوية في العالم العربي كما كانت في الغرب تتوزع في كل المجالات، سواء العلوم الإنسانية، أم غيرها من البحتة. فقد تمركز هذا المنهج في النقد الأدبي دون غيره.
وقد بدأت في أواسط الستينيات حين نشر (محمود أمين) في مجلة (المصور) مطلِقاً على هذه المناهج: (الهيكلية)، وبعدها توقف الزحف حتى نهاية السبعينيات فقد نشر العديد من النقاد والأدباء العرب دراساتهم التي اتجهت اتجاهي البنيوية: الشكلاني، والتكويني، وإن كان للتكوينية النصيب الأكبر من الانتشار.
وهاهو ذا شكري عيّاد في مقالته (موقف من البنيوية) يوضح مدى تقبّل النقاد العرب لهذا المنهج حين يحاول وضع تصور للبنيوية بين مناهج النقد الأخرى معلِّلاً لولادتها، ومدى علاقتها بالمناهج الأخرى كالسميولوجية.
بينما هناك من يرى أن هذا الاستقبال قد توزّع لثلاثة مشارب مختلفة:
1- الترجمة من النظريات النقدية الغربية إلى اللغة العربية.
2- مراجعة الموروث العربي؛ للخروج بأوجه اتصال وتقابل بينه وبين ما لدى النقد الغربي.
3- التطبيق، وتناول النصوص العربية القديمة والحديثة، وإسقاط النظريات النقدية عليها.
وقد ظهرت المحاولات النقدية إلا أنها ظلت محدودة ومتواضعة، رغم تحفّزها وطموحها المتردّد للتوازي مع ما وصل إليه النقد الغربي.. هل هذا الجهد من أجل تحقيق معرفة بعلاقات النص، أم أنه مجرد مواكبة للتطور النقدي؟
وبعدها نجد مقالات د. الغذامي، قبل كتابه (الخطيئة والتكفير) يؤكد فيها أن لا ثمة ناقد بنيوي صرف؛ وإنما البنيوية كمنهج نقدي حاضرة في أغلب الممارسات النقدية. ولا يكتفي بهذا الجانب التنظيري، وإنما يحاول التطبيق على بعض النصوص الأدبية .
آراء بعضهم:
يرى د. المسدّي أن البنيوية تجرأت على النص وأزاحت ما كان يحيط به من هالة قدسية تعيق عن الرؤية الموضوعية المتأنية، إضافة إلى أن (موت المؤلف) كانت الفكرة الجانية عليها.
لـ د. سعد أبو الرضا لمحات:
1. أن النظرة المادية لواقع النص أو ما يتصل به تجعل الاتجاه البنيوي يتجاوز حدوده في تحليل النصوص المقدسة.
2. حينما يؤمن هذا الاتجاه بالواقع دون غيره في تحليل النص، فيتجاهل ما فوق الواقع والقيم الأخلاقية؛ فذلك –بلا شك- ينافي تحقيق التفاعل بين النص والمتلقي فضلا عن الإخلال بالاعتقاد الإسلامي.
3. الإيمان الأعمى والمطلق من أصحاب هذا المنهج بما يكتبون، يجعلهم رافضين لكل نقد أو ملحوظة؛ مما يمنع التواصل المثمر للرفع من قيمة النقد.
4. حرص البنيويين على عزل النص عن صاحبه (موت المؤلف) يمنع من معرفة ظروف هذا النص المساهمة في تحليله.
يقول شكري عيّاد إن هذا التناقض هو ديدن الحضارة، الساعية لتحويل كل عمل إنساني إلى نظام مجرد؛ لكن الأدب اصطدم بها، فهو –كما نعلم- يعبر عن حالة الإنسان الشعورية.
ويعتقد د. حمودة أن فشل البنيوية الحقيقي هو عجز المنهج عن تحقيق المعنى، وإن سلّم بنجاحه في تحليل اللغة إلا أنه ينفي كفاءته في تحليل النصوص .
وبعد هذا..
نشأة البنيوية لم تكن نقدية، وإنما لغوية.
لم يستأثر النقد الأدبي الغربي بهذا المنهج؛ وإنما شمل أغلب العلوم من إنسانية وغيرها؛ بعكس انحصاره عربيا في النقد الأدبي.
بعض من النقاد الذين تبنوا البنيوية في بداياتها، نفضوا أيديهم عنها بعد أن تبين قصورها في تحليل النصوص، كالفرنسي رولان بارت.
لا يحق تجاهل وجود بعض نقاط الالتقاء بين النقد العربي القديم على بساطة أدواته، والغربي الحديث في هذا المنهج.
ظهور ما يسمى بـ (ما بعد البنيوية)، نشأت على أنقاض البنيوية، وحاولت تفادي ما كان في الأولى من عيوب؛ كقضية (موت المؤلف) التي ساهمت بشكل كبير في زوال المنهج.
أخيرا.. تبقى البنيوية أحد المناهج التي حلّت على ساحة النقد بعد العلوم الإنسانية، وانتشرت كالنار في الهشيم في أصقاع الغرب، وحاول أصحابها الرفع من شأنها، وإطالة عمرها. إلا أن مبادئها نفسها هي من اغتالتها؛ لعدم استطاعتها الوفاء بما يستحقه النص الأدبي.
فاندثرت بعدما كُتبت لها الحياة والاستمرار حقبة من الزمن.. إذ هكذا سنة الحياة.
وستظل البنيوية منهجاً له حسناته كما سيئاته، يُستفاد منه بشكل جزئي –كما هو حال أغلب المناهج النقدية-؛ مما يؤكد الدعوة إلى الاستفادة من جميع المناهج بعيداً عن سيئاتها المضرة بالنص الأدبي