عندما نسمع كلمة "السياسة" تتبادر إلى ذهن المرء لأوّل وهلة كلمة "الدولة"؛ وارتباط الكلمتين بعضهما ببعض في عملية التذكر اللاشعوري، يمكن تفسيره بالصراع الأبدي القائم بين الفرد والدولة، أو بعبارة أخرى بين الأخلاق والسياسة، أو بين سلوك الفرد الذي لابد أن يأتي متفقًا مع مجموعة من القيم والفضائل، وبين سلوك المجموع الذي لابد أن تحكمه القوانين، وليس الضمير والواجب، وإحساسه بما يمليه هذا أو ذاك .
وهكذا يتبين لنا، أنّ هناك مجالين واضحين ومتمايزين لا يجوز الخلط بينهما، وهما؛ مجال الأخلاق الذي ينظم سلوك الفرد، ومجال السياسة الذي ينظم سلوك الجماعة، بما يفرضه من قوانين سياسية هي التي تحكم هذه الجماعة في النهاية. وهنا لابد أن نميّز بين القاعدة الأخلاقية والقاعدة القانونية والعلاقة التي تربطهما.
فالإنسان كائن أخلاقيّ يتميّز عن الحيوانات بهذا السلوك السامي الذي يجعل من الأخلاق طبيعة ثابتة له؛ فيستطيع وحده أن يضبط نفسه، ويمسك عن إشباع رغباته وشهواته، هذا الإنسان ذوالخلق الذي يمكن أن يوصف سلوكه بالشجاعة أو الجبن، بالصدق أو الكذب، بالأمانة أو بالخيانة بالتقوى أو بالفجور... الخ . يقول كانط: إنّ الأخلاق خاصيّة لسلوك الإنسان وحده دون غيره، والإنسان هو وحده الكائن الحامل للقيم الأخلاقية، وفي ذلك يقول هارتمان: الإنسان هو الكائنالوحيد الذي لا يتحدد وجوده إلاّ من خلال علاقته بالقيم.
إن ما نعنيه هنا هو ما يخص الفرد لا الجماعة؛ وذلك لأنّ غاية الأخلاق مثاليّة تسمو بالفرد الى الكمال، في حين أنّ التنظيم السياسي واقعي يستهدف إقامة النظام والاستقرار في المجتمع وحماية مصالح الناس. ولهذا، فقواعد التنظيم السياسي تتجه نحو تحقيق صالح الجماعة؛فالأخلاق تضع قواعد ما يحدّد قيمة سلوك الشخص بالنظر إلى ذاته، بينما التنظيم السياسي يحدّد قيمة سلوك الشخص بالنظر الى المجتمع. ومن هنا كان قيام الأخلاق على أساس تحقيق قيم شخصيّة عالية، بينما كانت إقامة القوانين السياسية على أساس تحقيق قيم اجتماعية.
إنّ ممكنات التخلّق على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الأمّة لا تخضع لمنطق وقانون واحد؛ فالتخلّق السياسي شيء آخرغير التخلق بمكارم الأخلاق.إنّ الانتقال من التخلّق الفردي إلى التخلّق السياسي يتغيّر فيه سلّم الفعل؛ فتخلّق الحياة السياسية لا يكون إلاّ بالقانون وبناء المؤسسات. قد ننجح في التخلق الفردي، ونفشل في التخلق الجماعي السياسي، إذ قد تبقى القيم الأخلاقيّة الفرديّة مجرّدة لا تخرج الى الواقع ولا تمارس فيه، ويبقى نصيب الإنسان من الوصول إلى الممكنات مرتبطاً باعتماده على المعرفة، كلما زادت المعرفة زادت معها الممكنات، والعكس صحيح.
وللإنسان ممكنات تخلّقيّة، ولا يخضع التخلّق في مستوى الفرد، ومستوى الجماعة والأمة لمنطق واحد.
وثمة قيم في تاريخنا بقيت قيمًا أجنّة لم تفعّل، ولم يوضع لها منطق عملي، كلّ قيمة شرعها الله للإنسان لها منطق عملي لا يمكن أن يتخلّق بها، إلاّ بأن تسار على منطقها العلمي لتتحول من قيمة مجردة إلى قيمة ملموسة.
والممكن يعرض نفسه عدّة عقليّة ومعرفيّة، وإمكانات أداتية، يوفّرها العصر لتفعيل المثل العليا المجردة من جهة، ولتسخير الإنسان للكون لمنفعته من جهة أخرى. ومن أمثلة العدة العقليّة التي يوفّرها العصر للتفعيل الملموس الأجود للمثل العليا المجردة، يمكن أن نذكر مثلاً، عثور الحداثة السياسية على سنّة وقانون معالجة الشأن السياسي الذي لم تعثر عليه البشرية خلال آلاف السنين من التجريب الخيالي والنظري في هذا الباب، وهذا العثور مثال واضح على الفارق بين المقصد المجرد والمقصد الملموس؛ المقصد السياسي المجرد هنا هو الحرية أو التحرر من التسلط والاستعباد؛ أمّا المقصد الملموس، فهو تحقيق الحرية عن طريق المعالجة المؤسساتية القانونية الموضوعية للشأن السياسي بتقسيم السلطة وإخضاعها للقانون، وحدّ السلطات بعضها بالبعض الآخر. ومن أمثلة العدّة العقليّة التي يوفّرها العصر، لزيادة نصيب المثل الأعلى من المثال التاريخي، وللحركة من المقاصد المجردة إلى المقاصد الملموسة، يمكن أن نذكرما يوفّره علم النفس التربويّ من معرفة بالمراحل العمرية؛ الطفولة والمراهقة باحتياجاتها النفسية والتربوية، وهو ما ييسّر تحويل القيم المجردة إلى مسارات تربوية ملموسة منتجة. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، لكن المهم هو أنّ عرض الممكن لنفسه كحركة ثقيلة في شروط الإمكان التاريخية، وفي العدة العقلية والإمكانات الأداتية لتفعيل المقاصد الوجودية المجردة، كل ذلك مجال شاسع للاجتهاد والمعرفة والتفكير. وموقف الفكر هنا، يمكن أن يتراوح أيضًا بين نزعة إيديولوجية سطحية في معرفة العصر، تلامس القشر وتعجز عن النفاذ إلى اللباب، وبين مكابدة مشقة الوعي التاريخي، والتأهل للحضور في دورتي الزمان والمكان. (1)
والقاعدة القانونية هي في مجموعها القانون الذي يمثل مجموعة من القواعد التي تنظم سلوك الفرد في المجتمع، وهي كذلك تنظيم سلوك الفرد في المجتمع مع غيره " في موضوع معين " دون أن تهتم بما يحمله هذا الشخص من قيم أخلاقية، وتوقع عليه الجزاء في حال مخالفة القاعدة والقانون.أما القاعدة الأخلاقية، فهي مجموعة المبادئ التي يتعارف الناس عليها في مجتمع معين، والتي تهدف إلى تحقيق مثل عليا في المجتمع، مثل مساعدة الفقير والنهي عن الكذب، وقد تنظم لها قواعد المجاملات. (2)
أمّا الفروقات بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية، فتتمثل في : (3)
1- الجزاء ومن يوقعه:ففي القاعدة القانونية، القانون يحدّد الفعل والجزاء عند مخالفته، والسلطة العامة هي من توقعه في حال المخالفة.أمّا في القاعدة الأخلاقية، فالشعور العام للأفراد هو من يحدد الفعل، ويتمثل العقاب في حال المخالفة، في رفض الفعل أو مجرد الامتعاض منه.
2- التحديد والوضوح:القاعدة القانونية واضحة ومحددة، وتتجسد هذه الميزة في القوانين المكتوبة أكثر منها في الأعراف التي تمثل قواعد قانونية غير مكتوبة، وتميل إلى القواعد الأخلاقية في بعض الحالات. أما القاعدة الأخلاقية، فلا تتسم بالوضوح الذي تتسم به القاعدة القانونية؛ لأنها مجرد أحاسيس وشعور داخلي في النفوس.
3- الغاية والهدف:القاعدة القانونية تهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع وحفظ النظام العام فيه.أما القاعدة الأخلاقية، فتهدف إلى غايات مثالية، وهي ما يجب أن يكون عليه الأفراد، وما يجب أن يتحلوا به.
4- من حيث النطاق:القاعدة الأخلاقية أشمل من القاعدة القانونية؛ فالقاعدة القانونية تنظم سلوك الفرد في المجتمع مع غيره، ولا تشير إلى سلوكه مع نفسه، ولا تحاسب، في الأصل، ما يجري في نيّته حتى يظهره.أما القاعدة الأخلاقية، فتشمل واجب الإنسان مع غيره، وواجبه نحو نفسه، وتحاسبه حتى على نواياه ومقاصده.
تستهدف الأخلاق غايات الفرد مباشرة، وهي تحقّق الكمال الشخصي للإنسان؛ فتنظم سلوك الشخص نحو نفسه وسلوكه نحو غيره من الأشخاص تنظيمًا يغرس في النفوس حبّ الخير وبغض الشر، ويوقظ ضمير الفرد حين يقوم بأيّ عمل.أمّا القانون السياسي، فيستهدف مباشرة غاية الجماعة، وهي أن ينفع الناس ومصالحهم، وأن يكفل النظام والأمن داخل الجماعة، وهو لا يستهدف الكمال بما يضعه من قواعد لمجموعة الأفراد، وإنّما ينبغي فقط تحقيق التوازن بين الأفراد في علاقاتهم بعضهم ببعض؛ فليس من شأن القانون الدعوة الى الأخلاق، وإنّما يقتصر دوره على وضع نظام اجتماعي يهيئ للقيم الاجتماعية أن تزدهر. إنّه يمنع الخلق السيء من أن يشيع بين الناس فيصير وباء. (4)
السبت أبريل 22, 2017 6:52 pm من طرف ترنيمة الألم