المقدّمة
ما من شكّ فيأنّ الثّورات التّي عرفتها بعض الدّول العربيّة في تونس ومصر وليبيا واليمن، قد أفرزت تحوّلات كبيرة في نسيجها السيّاسي،إذ رفعت شعارات المطالبة بالحريّة والعدالة والكرامة، وعلت الأصوات المنادية بالقطع مع الأنظمة السيّاسيّة السّابقة بمؤسّساتها وقوانينها وحتى دساتيرها، والسّبب في ذلك أنّ هذه الأنظمة قد كرّست الاستبداد والتبعيّة والتّهميش الاجتماعي طيلة عقود من الزمن. ولئن اتفقت كلّ الإيديولوجيات بعد قيام الثّورات على ضرورة التّغيير وإعادة بناء حياة سياسيّة جديدة فإنها اختلفت في الآن نفسه حول الأنموذج الأمثل للدّولة. فما المقصود بالدّولة ؟ و كيف تصوّرت النّخب السياسيّة جهاز الدّولة بعد قيام الثّورات العربيّة؟ وماهي الانتقادات التي وجّهت إلى كلّ طرح إيديولوجي؟
- Iتعريف الدّولة
ليس من السّهل إيجاد تعريف واحد للدّولة، لأنّ اهتمامات المفكّرين وآراءهم حول الدّولة متنوعة ومختلفة،لكنّ النّظرة الشّائعة للدّولة تتمثّل في أنّها المجتمع المنظّم سياسيًا وقانونيّا أو هي ذلك الكيان السّياسي والقانوني المنظّم، والمتكوّن من مجموعة من الأفراد الذين يقيمون على أرض محدّدة، ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي معيّن، تفرضه سلطة تتمتّع بحق استخدام القوّة. وعلى الرغم من اختلاف دارسي علم الاجتماع والقانون حول تعريف ظاهرة الدّولة، فإنّ الإجماع منعقد بينهم حول ثلاثة أركان أساسيّة تقوم عليها الدّولة، وهي التّالية:
-الشعب أو الأمّة: يشترط في قيام الدّولة وجود مجموعة ضخمة من النّاس تجمع بينهم صفات عامّة مشتركة، تحقق حدودًا دنيا من الانسجام والتكامل، مثل الرّباط اللّغوي والجنسيّ البيولوجيّ والثقافي،إلا أنّ التطابق الآليّ بين الشّعب الواحد والدّولة الواحدة لا يتوفّر دائما في كلّ الشّعوب تاريخيًّا، مثل شعب الولايات المتحدة الأمريكية أو الهند. والمهمّ عندنا أنّ انتماء أفراد جماعة من الجماعات البشريّة إلى مكوّنات نفسيّة واحدة يجعل رباط الوحدة بينهم متينًا، مما يؤدي ذلك إلى قوّة السّلطة السيّاسية.
- الإقليم الجغرافي، وهو قطعة جغرافيّة من الأرض محدودة المساحة تعيش عليها مجموعات بشريّة منذ الزّمان القديم. فهو مستقرّ الشّعب؛ أي الجزء المحدّد بحدود طبيعيّة أو مصطنعة من الكرة الأرضيّة، وهو ركن ثان لازم لوجود الدّولة؛ أي السّلطة العامّة المنظّمة لأنّه عنصر مهمّ في توفير وحدة الشّعب النّفسيّة والثّقافية، فضلاً عن كونه مصدرًا لثورة الدّولة الماديّة. ويحدّد الإقليم الجغرافي أيضًا مساحة نفوذ الدّولة، لأنّ سلطانها لا يمكن أن يتجاوز إقليمها الجغرافي المحدود في المكان والمعترف به من طرف الدّول المجاورة لها وفق معاهدات دوليّة مكتوبة ومتّفق عليها.
- السيادة: تعرف بالسّلطة العامّة التي يخضع لها الشّعب في الإقليم الجغرافي المحدّد، و هي سلطة السّلط في المجتمع المؤلّفة من عنصرين أساسيين: أوّلهما وعي اجتماعي يوّجه قلّة من الأفراد أو الحاكمين نحو حفظ الصّالح العامّ المشترك وضمان السّلام والأمن؛ وثانيها قوّة مادية تتمثّل في جهاز القمع و الرّدع الذييوضع في خدمة الصّالح العامّ المشترك بين أفراد المجتمع.
فسيادة الدّولة إذن، ليست القوّة الماديّة فحسب، بل قدرة معنوّية فائقة تعتمد على عوامل نفسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة و تاريخيّة ثقافيّة في السّيطرة على الجماعة. وللسيّادة مظهران داخليّ وخارجيّ، إذ تتجسّد السّيادة الدّاخلية بسموّ قوّة سلطة الدّولة داخليًّا. أمّا السيادة الخارجيّة، فإنّها تتبلور في الاستقلاليّة عن الدّول الأخرى وعدم الخضوع إليها.
ورغم أنّ أغلب النّخب السّياسيّة في البلدان العربيّة التي شهدت ثورات سياسيّة واعية تمام الوعي بالشروط التي تستقيم بها الدّولة، فإنها طرحت تصوّرات مختلفة للدّولة بحسب المرجعيّات والإيديولوجيّات التي تنتمي إليها.
-IIالنّماذج المقترحة لمسألة الدّولة:
تواجه النخب السيّاسية في البلدان المذكورة سلفًا، إضافة إلى التحديّات الأمنيّة والاقتصادية، تحديًّا آخر لا يقلّ شأنًا يتمثّل في إيجاد الأنّموذج الأمثل للدّولة بعد سقوط الأنظمة السابقة، لذلك حاول كلّ طرف سياسي أن يرسم ملامح الدّولة المنشودة. وباستقصائنا لمختلف التّصوّرات المطروحة، يمكن أن نميّز بين توجّهين رئيسين لمسألة الدّولة: توجّه سلفيّ ذي مرجعيّة دينيّة، وتوجّه حداثوي ذي مرجعية مدنيّة.
-1الطّرح السّلفي:
تتفق الأحزاب السّياسية ذات المرجعيّة الدّينيّة عمومًا على تلازم الدّين والسياسة. فهي لا تفصل بينهما لأنّ الإسلام من منظورها دين و دولة. و قد استلهمت هذه الأحزاب تصوّراتها للدّولة استنادًاإلى حركتين إسلاميّتين رئيستين نشأتا في بداية القرن العشرين، وهما جماعة الإخوان المسلمين في مصر بقيادة حسن البنّا، والجماعة الإسلاميّة في الهند بزعامة أبي الأعلى المودودي. ولئن ظلّت بعض الأحزاب السّلفيّة وفيّة لأفكار مؤسّسي الجماعتين، فإنّ بعضها الآخر اختار التكيّف مع الأوضاع السياسيّة الجديدة، وبالتالي يمكن أن نخلص إلى تصوّرين سلفيّين للدّولة.
أ- أنموذج الدّولة عند السّلفية القديمة
يرفض أنصار التّيار السّلفي القديم حاكميّة البشر التي تميّز الدّيموقراطيّات الحديثة في الغرب، ويعتبرون الدّولة الوطنيّة القطريّة ارتدادًا كاملاعن المجتمع الإسلامي وجاهليّة جديدة غيّبت الهويّة الإسلاميّة. كما شدّدوا في المقابل على مفهوم الحاكميّة الإلهيّة. وقد بلور المودودي هذه الفكرة في كتابه "الحكومة الإسلامية"، بقوله:" ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدّولة نصيب في الحاكميّة، فإنّ الحاكم الحقيقي هو الله والسّلطة الحقيقية مختصة بذاته تعالى وحده، والّذين من دونه في هذه المعمورة إنّما هم رعايا في سلطانه العظيم" ؛لذلك ينادي أصحاب هذا التيار بدولة الخلافة، باعتبارها ركنًا من أركان الإسلام وضرورة عقائديّة تكرّس حاكميّة جماعيّة، تشمل كلّ المسلمين ولا تقتصر على حزب من الأحزاب أو طبقة اجتماعية معيّنة ولا فردًا بعينه، وإنما كلّ مسلم في الأمّة مرشح للفوز بمنصب الخلافة إذا ما توفرت فيه شروط الذكورة والعدالة والعلم والإيمان. وفي هذا الصدد يقول حسن البنا في رسالته إلى المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان سنة 1939 "إنّ الإخوان يعتقدون أنّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنّها شعيرة إسلاميّة يجب على المسلمين التّفكير في أمرها والاهتمام بها" . والإقرار بدولة الخلافة يستتبع ضرورة التقيّد الحرفي بتعاليم الشريعة الإسلامية كما يفضي إلى عدم الاعتراف بالحدود الجغرافية والتخوم الأرضيّة، كما جاء على لسان حسن البنّا في جريدة الإخوان المسلمين الصّادرة في نوفمبر سنة 1942 قوله: " إنّ كلّ قطعة أرض ارتفعت فيها راية الإسلام هي وطن كل مسلم... والإسلام كما هو عقيدة وعبادة، هو وطن وجنسيّة". وقد جوبه هذا التصّور بانتقاد شديد من قبل أنصار الدّولة المدنيّة لكونه يرسّخ الأنموذج التيوقراطي للدّولة، ويخالف الشّعارات التي قامت من أجلها الثورات العربية كحرية التفكير والتعبير والمعتقد واحترام حقوق الإنسان، بل اعتبر أنموذجًا طوباويًا لا يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الواقع.
ب- أنموذج الدّولة عند السّلفية الجديد:
لم يرَ أنصار السلفيّة الجديدة حرجًا في اقتباس مفاهيم الدّولة الغربيّة الحديثة كالديمقراطية والحريّة والمساواة، بل حاولوا إلباسها لبوسًا إسلاميًّا، من ذلك أسلمة مفهوم الديموقراطيّة بجعله متماهيًا مع مفهوم الشورى في الإسلام . كما يعتبر السلفيون الجدد أنّ إقامة دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية أمرًا ممكنًا مستندين في ذلك إلى أمرين: الأول هو أنّ الدولة في الإسلام مدنية، وليست دينيّة ممّا يفرض على الحاكم في هذه الدّولة أن لا يقيم سلطته باسم الدّين، وإنّما يستمدّ شرعيّته من الشع؛ويتمثل الأمر الثاني في أنّ دولة المسلمين لا يقبل أفرادها إلاّ ما كان منسجمًا مع الشريعة الإسلاميّة.
وبذلك قدّم أنموذج الدّولة المدنيّة ذات المرجعيّة الإسلاميّة نفسه كحلّ يوفق بين الهويّة الإسلاميّة من جهة، وبين الحداثة من جهة أخرى، واعتبر من قبل أنصار السلفية الجديدة تصوّرًا وسطيًّا معتدلاً يجانب التطرفين؛ الدّيني والعلماني. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التصوّر قد لقي رواجًا في أوساط بلدان الثورات العربية، تأكّد بفوز حركة النهضة في تونس وحركة الإخوان المسلمين في مصر في انتخابات المرحلة الانتقالية واستلامهما مقاليد السّلطة.
غير أنّ ما يعاب على تصوّر السّلفيين الجدد للدّولة هو أنّه يقصي الأقليات الدّينيّة من مشروع المواطنة، لكونه يعتبر الدّولة دولة المسلمين أو الأغلبيّة. كما يخشى من تكريس هذا الأنموذج عودة الدّولة السّلطانيّة التي توظف علماء الدّين متى شاءت للتّضييق على حريّة الأفراد أو الجماعات المعارضة، وينضاف إلى كلّ ذلك مسألة الاعتراف بكونيّة حقوق الإنسان، فما يؤاخذ عليه أدعياء هذا التصوّر هو تنصلهم من الالتزام بكلّ مضامين الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بتعلّة الخصوصيّة والحفاظ على الهويّة.
-2 الطّرح الحداثي:
استفاد أنصار التيار الحداثي من التجارب السّياسيّة في الدّول الغربيّة الحديثة، وتأثروا بآراء منّظريها حول الدّولة سواء أكانوا ليبراليين أم اشتراكيين، وقد اتفقوا على أنّ الشأن السياسي أمر دنيوي بحت لا يجوز للدّين وعلمائه التدخل فيه؛لذلك ألحّوا على ضرورة الفصل بين الدّولة والدّين حتى يتسنّى للشعوب العربيّة الثائرة إقامة دول ديمقراطيّة حديثة.وعلى الرغم من اتفاقهم على الثوابت المدنيّة في الدّولة، فإنهم اختلفوا حول أنموذجها الأصلح، وانقسموا إلى شقين: شقّ يناصر الدّولة الرّأسماليّة، وشقّ آخر يدعم الدّولة الاشتراكيّة.
أ- أنموذج الدّولة عند الرّأسماليّين:
يسعى هذا الطّرح إلى بناء الدّولة الدّيموقراطيّة على أساس الرّابطة الوطنيّة والفصل بين السّلطة التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، كما يدعو إلى ضمان الحريّة الفرديّة، باعتبارها قانونًا طبيعيًا مقدّسًا مع دعم استقلاليّة هياكل المجتمع المدني بهيئاته وأحزابه وجمعيّاته ونقاباته. والدّولة من خلال هذا التصوّر تقوم بوظيفة حماية؛ أي أنّها تحمي الملكيات الخاصة، وتصون حقوق الأفراد وحرياتهم وتذود عنهم من الاعتداءات الخارجيّة. إلاّ أنّها مطالبة في الآن ذاته بدعم المصلحة الشّخصيّة والمنافسة بين أفرادها في كافة مجالات الحياة دون التدخّل في شؤونهم أو إملاء إرادتها عليهم إلاّ بمقتضى الضوابط القانونيّة المتفق عليها.
وإذا كان هذا الأنّموذج يقرّ بحريّة الفرد في الاعتقاد والتديّن، فإنّ معارضيه قد تصدّوا له بشدة لكونه حسب رأيهم يقصي الهويّة العربيّة الإسلامية من دائرة اهتمامات الدّولة، ويعمل على تكريس التبعيّة للغرب، كما يؤخذ عليه إصراره على أهميّة المصلحة الخاصّة؛ ممّا يؤدي إلى التناقضات الطّبقيّة والاقتصاديّة داخل المجتمع الواحد.فضلاً عن خطر الاحتكار الذي ينجرّ عنه تمركز رأس المال في طبقة محدودة مقابل معاناة الأغلبية السّاحقة من الفقر. ويعاب على التصوّر الرّأسمالي أيضًا إسرافه في الحدّ من وظائف الدّولة وتجاهله للمهام التي يمكن أن تضطلع بها لرفع مستوى الجماعة.
ب-أنموذج الدّولة عند الاشتراكيّين:
لئن كانت النّخب السيّاسيّة الاشتراكيّة قد اعتمدت على أفكار ماركس و لينين وبلنتزاس وغرامشي وألتوسير، فإنّ أغلبها قد قام بقراءة نقديّة لهذه الآراء، خاصّة بعد انهيار الأنظمة الاشتراكيّة بالاتحاد السّوفياتي وبلدان أوروبا الشرقيّة وفشلها في إقامة أنظمة ديموقراطيّة لفائدة شعوبها. وإذا كان التّصوّر الاشتراكيّ الرّاهن يوكل للدّولة وظائف أساسية في المجتمع، فإنه لا يقيّد المبادرة الفرديّة المتأتيّة من الرّأسمال الوطنيّ بهدف تحقيق مجتمع متكامل يضمن الرّفاه لصاحب العمل والعمّال على حدّ سّواء عبر إحلال الشعور بالمصلحة العامّة لدى الطّرفين محلّ المصلحة الخاصّة. لذلك تخلّى الاشتراكيون الجدد عن عقيدة دكتاتوريّة البروليتاريا المتمثلة في جهاز الدّولة، ودعوا إلى إعادة إنتاج قوى العمل في المجتمع بصورة أحسن وأعدل لصالح كلّ الطّبقات، حتى يخلق توازن جديد بين الكفاءة في العمل والجودة وحسن توزيع رأس المال.
لكن الأنّموذج الاشتراكي أثار عدّة تحفّظات، خاصة من قبل أنصار التّوجه السّلفيّ على أساس أنّه تصوّر يستبعد الهويّة الإسلامية والخصوصيّة الثّقافيّة. كما تعرّض لانتقادات الّليبراليين لكونه أنموذج يحدّ من الملكيّات الخاصّة، ويقلّص من الحريّات الاقتصاديّة ويكرّس هيمنة الدّولة و يضخّم من وظائفها على حساب المبادرة الفرديّة.
الخاتمة
بعد تحليلنا للنّماذج المقترحة حول مسألة الدّولة ببلدان الثّورات العربيّة، يمكن أن ننتهي إلى الملاحظات التالية:
- إنّ رفض قيم العصر الحديث ومنجزات نظمه السّياسية والاستنجاد بالحلول الماضويّة ليس إلاّ سباحة عكس مجرى التاريخ وتفويتًا لفرصة ثمينة أتاحتها الثّورات لتحسين ظروف الحياة المادّية والمعنوية.
- كلّ أنموذج للدّولة لا يسعى إلى تحرير الطّاقات الإبداعية وإلى ضمان المناخ المناسب لنشاطها يؤول حتمًا إلى الضعف والتّداعي.
- إنّ إمكانيّة إيجاد أنموذج ديمقراطي توافقيّ أمر صعب، وليس بالمستحيل شرط أن تخفّف النخب السّياسيّة المتعدّدة في الدّول المذكورة سلفًا من خلافاتها، وتتصف بروح من التنازل والتسامح والاحترام.
السبت أبريل 22, 2017 6:49 pm من طرف ترنيمة الألم