كنت جالسةً صباح يومٍ صحوٍ أحتسي قهوتي وأرنو إلى ذلك الطريق المزدحم أمامي، وأتأمل الناس وهم منهمكون في مسيرهم، حاملين آمالهم وآﻻمهم وطموحاتهم ومعاناتهم، التقفت لفافة تبغٍ وأطلقت سحابة من الدخان وكأني أطرد الهم الذي بداخلي الذي ﻻ يكاد يبرح مكانه، وتساءلت: كيف يُطلب مني ومن أفراد السيل البشري أمامي أن نكون نسخًا طبق الأصل عن بعضنا بعضًا؟ نفكر ونحب بنفس الطريقة؟
لقد كنت أتأمل فسيفساء من البشر، فأنا أعلم أن 12% منهم مثليي الميول الجنسية – شاءوا ذلك أم أبوا – ونسبةً أقل، ولدت بأجسادٍ ليست ملكهم – كما أنا – ونسبةٌ أخرى ﻻ تجد لنفسها لونًا، فالمجتمع ﻻ يرى سوى الزرق والوردي، لأن عمى اﻷلوان الجزئي هذا أجحف بحقهم، وتجاهل ألوان الطيف الزاهية التي تجعل مننا ما نحن عليه.
رثوت نفسي التي ﻻ تجد جسدها، أو باﻷحرى، مُنعت من العيش به وحُرمت من لقاءه وهو الذي ﻻ يغادر أحلامها وخيالها ليل نهار، ولنفس السبب الذي أكتب عنه هذا المقال: إنه يا أعزائي، عمى اﻷلوان الذي يعاني منه مجتمعنا.
فقد وُلدت في مجمتعٍ ﻻ يرى لي وجودًا. مجتمعٌ أجبرني على العيش بكذبةٍ لسنواتٍ طوال، فقط ﻷنه ﻻ يريد التخلص من عماه، وﻻيريد اﻻستماع لصرخاتي المتتالية. وعزائي أنّي لست الوحيدة التي تعاني من هذه القضيَّة، فكما ذكرت سابقًا، نسبةٌ ليست بالقليلة من أيِّ مجتمعٍ تعاني ما أعانيه. مجتمعنا المعتل بعلة الدين لا يرى إلا صنفين محددين من البشر، يجد أحدهما متفوقًا على الآخر كما يذكر في نصوصه الدينية:
- اقتباس :
وما خلق الذكر والأنثى (الليل:3)
الرجال قوامون على النساء (النساء:34)
وغيرها من الآيات والنصوص المثقلة بثنائية الجندر[size=15][1]. فهل حقًا خلق الرب الأنثى والذكر وحسب؟ وهل فعلًا أُحسن تعريفهما؟ سأجيب مستندةً إلى العلم، وأعرف سلفًا أنَّ كلامي لن يُعجب الكثيرين، سأواجَه بأقسى الكلمات والإهانات عندما أقول لهم أنني عشت فترةً طويلةً من حياتي كـ “ذكر”، فقط لأرضي غرور أطبائي الذين أحضروني لهذه الحياة، وذكورية مجتمعي الذي يرى الذكر متفوقًا على الأنثى![/size]
سيجادل البعض ويناقش الآخر، وقد أنعت بالمتحولة، وبأني لست أنثى حقيقية، وغيرها الكثير من الصفات، حتى ممن يدَّعون التحرر من أغلال الدين، ولكنني لا أكترث، فحقيقتي كأنثى تفوق كل الألقاب والتعريفات والمسميات!
[size=44]نشأة الجندر والهوية الجندرية:[/size]
كان يُعتقد قديمًا بأن الجنس يُحدد بما يظهر على المولود عند الولادة، وتبنَّى الدين هذه الرؤية. ولكن، ماذا عن بعض حالات الإنترسكس [size=15][2] الغير محدَّدة أعضاءهم التناسلية الخارجية؟ فقُرر لحل هذه المشكلة – كما اعتقد – أن يتم تجميل هذه الأعضاء لموافقة ثنائية الجندر وجعلهم طبيعيين، ولكنهم مخطؤون! فهم خلقوا المشاكل لهؤلاء ولم يساعدوهم، بل كانوا يرضون غرورهم ومعتقداتهم الجافة. فليس الأمر بالأعضاء التناسلية الخارجية وحسب، إنما هو أعقد من ذلك بكثير، فالقائمة بالاضطرابات التكوينية الجنسية لا تكاد تنتهي، وحالات الإنترسكس تتفاوت بين الظاهر عند الولادة والخافي عن الناس والذي يشكل الأغلبية، تشكل تلك الإضطرابات التكوينية 1 من كل 1500 ولادة وفقًا لجمعية الإنترسكس الأمريكية.[/size]
كشف العلم بعدها عن الهوية الجندرية وعن جذورها وأصولها التكوينية المتجذرة بالدماغ، إن الهوية الجندرية هي الأساس الحقيقي لمعنى أن يكون الفرد ذكرًا أو أنثى أو أيَّ شيءٍ آخر، فالهوية الجندرية ليست ذات طابعٍ مزدوج، بل تأخذ طيفًا بين الذكر والأنثى، ويمكن تعريفها على النحو التالي:
الهوية الجندرية: هي معرفة الفرد واحساسه، وسلوكياته وتفاعلاته الاجتماعية والسلوكيات التكاثرية والركيزة الأساسية لشخصية الفرد، والتي تأتي من تركيب الدماغ، وكيفية عمله – كما بينت الدراسات- وهي مستقلة عن مورفولوجية الأعضاء التناسلية والتعبير الجندري[size=15][3] والميول الجنسي، ولا تتغير الهوية الجندرية ولا ترتبط بالعوامل الاجتماعية.[/size]
في غالب الأحيان، ومع غياب أيِّ نوعٍ من الاضطرابات التكوينية، تتوافق الهوية الجندرية مع الجنس البيولوجي الظاهر، فيكون السلوك الاجتماعي والتكاثري سليمًا، لأن السلوك تحدَّد بالجندر الصحيح، ولأنَّ الجهاز التناسلي متوافقٌ مع الهوية الجندرية، ويطلق على هذا اسم التجاور الجنسي.
ولكن هذا ليس صحيحًا في كلِّ الأحيان، فلسبب ما قد يحصل اضطرابٌ تكوينيٌ ما [size=15][4] cis-sexualsim، وكما ذكرنا سابقًا، فإن الهوية الجندرية لاتتوافق مع الجندر الذي عُيِّن للفرد عند ولادته وفقًا لما يظهر عليه، وبالتالي لا يكون التفاعل الاجتماعي سليمًا، ولا السلوك الجنسيُّ كذلك، بسبب عدم توافق الجنسانية [5] مع الجنس، وبالتالي يعاني الأفراد هؤلاء من تعاسة الجندر، أو كما كانت تسمى سابقا اضطراب الهوية الجندرية[6]، وهي سلسلةُ من السلوكيات تتلخص بكون الفرد غير قادرٍ على مواصلة العيش بالدور الجندري الذي “فُرض” عليه وعٌين خطأ، ونسبة الانتحار أوالسلوكيات المدمرة للذات لمن يعانون من تعاسة الجندر هي الأعلى بين فئات المجتمع على الاطلاق، حيث تصل إلى 60 %، وتعالج تعاسة الجندر بتصحيح الجنس وموافقة الدور الاجتماعي والتعبير الجندري مع الهوية الجندرية، ويسمَّى الأفراد المصححون لجنسهم بالترانسيكشوال Transsexual، والتي لا تعني تحويل الجنس، فكلمة Trans تعني التقابل، والهدف من العبور[7] هو تصحيح وموافقة الجنس ليس إلَّا، حيث ما بهم هو تشوه خَلقي.[/size]
[size=36]ترانسجندر وعدم صحة نموذج الذكروالأنثى[/size]
إنَّ ثنائية الجندر نموذجٌ لا يتّسع للجميع، فمن المهم ذكر أن ليس جميع المشخًّصين بتعاسة الجندر هم بالضرورة مصححين لجنسهم (ترانسيكشوال)، لأن البعض لا ينتمي لثنائية الجندر، بل تعرف نفسه على أنه من جندر آخر، غير الذكروالأنثى، والذي يمكن ايجاد مصطلحٍ ظلِّي لهم هو: جندر كوير Genderqueer، ومن المهم جدًا الالتفات لجديَّة هذه الفئة، ففي ستينيات القرن الفائت كانوا يُجبرون على تصحيح جنسهم، والذي بالنسبة لهم يُعدُّ تحويلًا وفرض ثنائية الجندرعليهم، مما أدى لنسبةٍ عاليةٍ نسبيًا من الانتحار بعد العبور، والسبب أن تلك العمليات لم تهدف إلى موافقة الجندر أكثرمن فرض ثنائية الجندر.
يطلق مصطلح ترانسجندر Transgender على كلٍّ من التراسيشكوال والجندر كوير. وبهذا نجد أن النوذج القائم على ثنائية الجندر، والمرتبطة فقط بمورفولوجية الأعضاء التناسلية نموذج خاطىء ومجحف بحق الكثيرين.
[size=44]الميول الجنسي فسيفساء جميلة![/size]
ربما تلقى قضية تصحيح الجنس، شيوعًا أقل من قضية المثلية الجنسية، ولا عجب بهذا، فالمثلية الجنسية – على عكس المتوقع- تهدد ثنائية الجندر بشكلٍ أكبرمن تصحيح الجنس، لأنها أولًا أكثر انتشارًا، ثانيًا لأنها على عكس تصحيح الجنس، تقلب مفاهيم الأدوار الجندرية رأسًا على عقب، لذلك نرى كميةً كبيرةً من الحقد والكره تجاه السلوك المثلي.
يجب، قبل كلِّ شيء، معرفة أن المثليَّة الجنسية مقدَّمة للشارع العربي بشكلٍ مشوَّهٍ جدًا، الصورة النمطية القائلة بأنَّ المثليين الرجال ناقصوا الرجولة وفاشلون اجتماعيًا وعلميًا، ساقطون يتعاطون المخدرات ويعتدون على الأطفال، منحلون أخلاقيًا ومتشبهون بالنساء، إلخ.. والمثليات “مسترجلات”، تعرضن لاغتصاب بالصغر، يكرهن الرجال ومنحلات اجتماعيًا وأخلاقيًا، عند عرض هذه الصور النمطية التي لا تمثل المجتمع المثلي،من الطبيعي توقع هوموفوبيا[size=15][8] وكرهٍ للمثليين والمثليات، المثلية عبارةٌ عن ميولٍ جنسيِّ وعاطفيٍّ تجاه الأشخاص من نفس الجندر، ولاعلاقة لها بأيٍّ من الصورالنمطية السابقة، كما أنَّ الغيرية ميولٌ جنسيٌ غير مرتبطٍ بنمط الحياة.[/size]
من شجع هذه الصورالنمطية طبعًا هي الأديان، التي رمت المثليين بأحد مالديها من سهامٍ مسمومة، فبمراجعةٍ بسيطةٍ لأقوال السلف، ولبعض الأحاديث المحمدية والآيات القرآنية وحتى الأسفار الإنجيلية، سنرى كمية الهوموفوبيا المقيتة والمخيفة أيضًا، على الرغم من هذا ولأنني أحترم حق الجميع بالإيمان ولكن ليس على حساب حرِّية الآخرين، أو حتى حريتهم أنفسهم؛ وجب عليَّ التنويه إلى وجود جدلٍ حاضرٍ حاليًا على أن “عمل قوم لوط” ليس هوالمثلية، ولكنني لا أستقرئ من هذا الجدل سوى محاولاتٍ لتصحيح الدين بعد ماتبين الحق من الباطل بهذه القضية.
بعد توضيح السبب وراء الهوموفوبيا، علينا التوضيح لمَ المثلية ليست شذوذًا، ولمَ تستحق الاحترام والاعتراف.
كما ذكرت سابقًا، فإن المثليَّة ميولٌ جنسيٌّ وعاطفيٌّ للأشخاص من نفس الفئة الجندرية، والشذوذ الجنسي (بارافيليا) هو ميولٌ جنسيٌّ غير عاطفيٍّ لأشياء أوسلوكيات غير اعتيادية بالعملية الجنسية الطبيعية، في 1974 وقبل اصدار الطبعة السابعة من الإصدار الثاني للـدليل التشخيصي والاحصائي للاضطرابات العقلية DSM، تم إزالة المثلية من قائمة الاضطرابات الجنسية، والتنويه إلى أنَّها سلوكٌ طبيعي.
لفهم ذلك أكثر، يجب فصل الميول الجنسية عن الهوية الجندرية – كما فصلنا الآخيرة عن الجنس والتعبيرات الجندرية- وتعريف الميولات الجنسية بشكلٍ مختلفٍ قليلًا، فنعرِّفها بشكلٍ مستقل عن هوية الفرد الجندرية بالشكل التالي:
- Gynophillia : الميول الجنسي والعاطفي للأنوثة.
- Androphillia : الميول الجنسي والعاطفي للذكورة.
- Skoliosexual: الميول الجنسية للصفات التي لا تقع ضمن الذكورة والأنوثة.
- Ambiphillia – Bisexual: الميول الجنسية والعاطفية المتعددة لجميع التعبيرات الجندرية.
- Pansexual – gender blind: استقلالية الميول الجنسي والعاطفي عن الهوية الجنرية- الجنس أوالتعبير الجندري.
- Asexual Aromantic:عدم وجود ميول جنسي و- أو- عاطفي.
نرى بهذا أنَّ الميولات الطبيعية مستقلَّة عن الجنس والجندر للفرد، وهي متعلقة بدماغ المرئ، فلا تحكمها الأعراف ولا العادات ولاالتربية ولا الأخلاق، يحكمها فقط الطبيعة التكوينية للفرد، نرى أيضًا أنَّ الميول الجنسي ليس ثنائيًا أيضًا، بل هو طيفٌ واسع، فلا يوجد مثلي وغيري فقط، بل يوجد مزدوجي ومتعددي الميول، ويوجد من لايميلون لأحد جنسيًا.
ولا تقتصر السلوكيات المثلية على البشر وحسب، بل يوجد أكثرمن 1500 نوع من الحيوانات رُصد لها سلوكٌ مثليٌّ أومزدوج.[size=15][9][/size]
كما أنَّ اقتصار المثلية على الجنس وحسب يُعدُّ مجحفًا وخاطئًا، تمامًا كاقتصار الغيرية على ذلك، فالمثلية تأتي من انجذابٍ عاطفيٍّ وتوافقٍ فكريٍ وروحاني بين الطرفين، مثلها مثل الغيرية،علاقةٌ مبنيةٌ بالغالب من الأحيان على الحب والوئام والتفاهم، فسيفساءٌ جميلةٌ من الميولات والهويات المتعددة، التي أنتجها التطور، فالسلوك المثلي ليس خطأ تطوريٌ يجب التعايش معه،بل نتاجٌ هامٌ من الانتخاب الطبيعي، له أهميةٌ لا تقل عن الأهمية التكاثرية للغيرية، فالمثلية أساسيةٌ جدًا لتقوية الترابط بين المجتمع-خاصة بين الذكور- ولتخفيف النموالسكاني، فلو كان 100% من السكان غيريين وقادرين على الإنجاب، لكان تكاثر السكان كبيرًا، من دون تأصيل أسسٍ للترابط المجتمعي، فلو أخذنا مثالًا من مملكة الحيوان وليكن جماعةٌ من الأسود، هذه الجماعة تحتاج ذكورٍ قويَّةٍ قادرةٍ على حماية القطيع، فوجود نسبةٍ مثليَّةٍ من تلك الأسود، تجعلهم بعيدين عن النزاعات من أجل الإناث، وعلى وفاقٍ كافٍ لا يحدث معه صراعٌ بين تلك الفئة أومع الأسودالغيرية، وبالتالي تبقى مجموعةٌ من الأسود جاهزةً للدفاع عن هذا القطيع بعيدًا عن النزاعات الداخلية.
الخلاصة:
تزخر الطبيعة بالتنوع، هذا التنوع يميزنا نحن كجنسٍ بشري، فنحن لانحيا بهدف التكاثر فقط كغيرنا من الكائنات الحيَّة، بل هناك ما هوأعمق من هذا.. لدينا الهوية، الابداع، المحبة والوئام. علينا أن نقِّدر هذا التنوع ونسعد به، فالعنف والكره تجاه من هم مختلفون لا مبرر له، فهم طبيعيِّون كما هي الأغلبية وباجماع الهيئات العلمية والطبية، إنَّ القضية إنسانيةٌ بشكل بحت، فلا تحتاج لتكون من الأقليات الجندرية والجنسية لكي تدعمها!
- اقتباس :
[size=24]البشر ينتجون أفضل عندما يكونون أنفسهم![/size]
الخميس أبريل 20, 2017 9:47 pm من طرف سوسية