الله والتاريخ أو نهاية أسطورة الخلاص
سنحاول جهد المتاح أن نفهم بعض القضايا المطروحة للنقاش. قد لا نتخطّى حدود المحاولة، لكن ما عساه يكون الفهم إن لم يكن مجرّد محاولات تتفاعل. هنا قد يواجهنا سؤال المعنى والغاية، لكن هل هناك من معنى وغاية خارج الجهد الإنساني؟ دع عنك هذا ولندخل في الموضوع.
بقدر الممكن سأحاول أن أعيد بعض الأمور إلى نصابها. ولنبدأ بداية متواضعة بعض الشيء، وإن شئت سنجعلها بداية يقبلها الفكر المتروّي. لكن هل بوسعنا الحديث عن فكر متروّ في زمن السرعة والتسرّع؟ أتّفق مع الأكثرين بأنّ الرهان ليس بسيطاً، لكننا، ومرّة أخرى، لا نملك غير سبيل المحاولة.
لن نسلّم ابتداء بأيّة دعوى ولن نجعل من التسليم دعوى ابتدائية. سنحاول فقط أن نتصوّر أمراً يظلّ في كلّ أحواله قابلاً للتصوّر :
الإسلام هو الفصل الأخير (ربّما!) من مسرحية ذات ثلاثة فصول. بطلها الرئيسيّ شخص ظلّ الأكثر تأثيراً على خيال البشرية، فقد خلق العالم في ستّة أيام ثمّ توارى خلف الغيمات الداكنة، مستوياً على عرشه، يرقب في صمت وكبرياء مشهد نهاية العالم : مشهد يستغرق ألف عام تحديداً أو تقريباً وفق التقدير المسيحي.
غير أنّ استعادة مشاهد المسرحية، وباستحضار كافّة الديانات التي جاء الإسلام ليتمّمها أو يختزلها، تكشف لنا بأنّ المدّة الفاصلة بين خلق العالم والاستواء على العرش قد حدث فيها كلّ شيء تقريباً. لكن ماذا حدث على وجه التحديد؟
سنحاول أن نستعيد شريط الأحداث.. لنتابع، وفرجة ممتعة.
1- الفصل الأول –العهد القديم- الله المحايث للأحداث :
كان الله، ولم يكن معه شيء من الأشياء، وبالتدريج والتدرّج في الأشكال والألوان، ومن المنبسط إلى المستوي، ومن الأزرق إلى البنّي، كانت اللوحة تتشكّل رويداً رويداً. وفي النهاية اكتملت الصورة الإجمالية للخلق والخليقة وبقي السؤال : هل اكتملت حقّاً كلّ التفاصيل؟ الألوان؟ ربّما؛ الأشكال؟ ربّما؛ لكن ماذا عن الإنسان؟
خلق الله النور ورأى أنّ ذلك حسن، وخلق اليابسة والبحار ورأى أنّ ذلك حسن، وخلق النباتات والأشجار ورأى أنّ ذلك حسن، وخلق الليل والنهار ورأى أنّ ذلك أيضا حسن، وخلق الحيوانات والوحوش ورأى أنّ كلّ ذلك حسن. هكذا كانت تصريحاته المتتالية في الإصحاح الأوّل من سفر التكوين. لكنّه لمّا خلق الإنسان لم يقل عنه بأنّه حسن. لماذا سكت؟ أغلب الظنّ أنّه لم يره حسناً، هذا رغم أنّ الصورة الإجمالية لكلّ ما عمله وصفها بـ"حسن جدّا" (الإصحاح الأوّل من سفر التكوين). أغلب الظنّ أنّ هذا الإنسان الذي خلقه الله على صورته لم يأت في تمامه وكماله كما كان متوقّعا. هناك شيء ما ليس على ما يرام، ما يفسّر التوتّر العبرانيّ بين الله والإنسان. والأرجح أنّه توتّر بين الله وصورته في الإنسان، ما يبرّر حاجة الصورة إلى إعادة تقويم دائم، يتّخذ شكل تدخّل إلهيّ عنيف أحيانا كما هو الحال في أسفار التوراة، ويتّخذ شكل رعاية إلهية عن كثب كما هو الحال في أسفار الأنبياء وأسفار الكتب.
يكشف لنا مشهد طرد آدم وحوّاء من الجنّة عن أولى أشكال التدخّل الإلهيّ العنيف، هذا العنف الإلهيّ الذي سيجد تعبيره الأقوى في مشهد الطوفان. ولنحاول أن نستعيد أهمّ تفاصيل تلك التراجيديا الإلهية :
صار الله نادما على خلقه للإنسان. هذا ما صرّح به في الإصحاح السادس من سفر التكوين. لكنّه عقب الكارثة، ولمّا شاهد عاقبة غضبته، عاد ليعبّر عن ندمه على الطوفان، وفق اعترافه في الإصحاح الثامن، لا سيما بعد أن تنسّم رائحة القربان الذي وضعه نوح لاسترضائه مجدّداً عقب غضبته الكارثية. فعاهد الربّ الإنسان على أن لا يفعلها ثانية، وكان قوس قزح، في الإصحاح التاسع، علامة على العهد وتوقيعاً إلهيا في السماء، كلما رآه الإله تذكّر العهد الذي قطعه على نفسه مع الإنسان.
من خلال إصحاحات أسفار التوراة (التكوين والخروج واللاّويين والعدد والتثنية) نلاحظ كيف ظلّ الله معاشراً للإنسان، فاعلا في الحروب والسياسة والعمران متقبّلا للقرابين، كان محايثا للناس منفعلا ومتفاعلا مع الأحداث والوقائع اليومية للناس. وظلّ الأمر كذلك حتى بعد أن اقتصر حضوره في الحياة اليومية على شعب واحد، هو شعب الله المختار : بدءاً من سفر الخروج إلى غاية سفر المكابيين.
2- الفصل الثاني –العهد الجديد- الله المحايث للتاريخ :
عندما كان يسوع يتوجّع ألماً ويصيح باللغة الآرامية منادياً : "إيلي، إيلي، لِمَ شبقتني؟" بمعنى : إلهي، إلهي، لم تركتني؟ (الإصحاح السابع والعشرون من إنجيل متّى)، كانت صيحاته تبلغ أكناف السماء ويخترق رنينها آذان كلّ الأزمنة. كان بذلك يفتدي البشرية جمعاء ويرسم بداية عهد جديد في التاريخ، بل يرسم بداية التاريخ الفعليّ للبشرية : هذا التاريخ الذي أمسى، بفعل آلام المسيح، موحّدا يشمل البشرية جمعاء منذ لحظة الخطيئة إلى غاية الخلاص.
لم يعد الله يحشر أنفه في شؤون شعب محدّد، كما كان حاله في العهد القديم، لم تعد رعايته تقتصر على قبيلة أو عشيرة كما كان حاله في الأديان القديمة، بل أصبح سيّداً وأبا للبشرية جمعاء. بيد أنّ الله في هذه الحالة، وكما هو الحال بالنسبة للملوك الزمنيين، بقدر ما عظم حجم سيادته فقد تقلّص مجال تدخّله في التفاصيل، وهكذا كان.
في الأناجيل الأربعة والرسائل وسفر الرؤيا، لم يعد الله يتمتّع بنفس القدرة على التدخّل في الحوادث والأحداث. صحيح أنّه ما يزال يصرّ على تسجيل حضوره والتعبير عن وجوده عبر المعجزات والعلامات الغيبية، لكنه اتّجه نحو محايثة التاريخ برمّته انطلاقاً من موقعه في السماء. لم يعد الله ذلك الكائن الذي يخلق ويدمّر ويعارك ويلتقي بالناس ويشارك في الأحداث ويفرح بالهدايا والقرابين، فمع المسيحية صرنا نقول ما نردّده في الصلاة الربّانية وفق إنجيل متّى : "أبانا الذي في السماوات". ومن عليائه في السماء بات هذا الأب يرعى مجرى التاريخ برمّته. ولذلك بالذات اصطلحت عليه أدبيات الثورة الفرنسية بالكائن الأعلى.
إنّ ما يسمّى بالحقبة المسيحية، أو ما يشار إليه في الغرب بـ"حقبتنا"، ليس مجرّد عصر من عصور التاريخ، وإنما هو عصر التاريخ الفعليّ، وذلك بعد أن قرّر رجل خذله قومه أن يفتدي البشرية جمعاء ويغسل بدمائه خطايا كافّة البشر، في تجربة لا سابق لها ولا لاحق. وعبر هذه التضحية "الكونية" انبثق لأوّل مرّة مبدأ العالمية والتاريخ العالميّ. من هنا نرى بعض جذور الحداثة داخل الخيال الدينيّ المسيحيّ، وهو ما ستؤكّده لنا الأطروحة التركيبية لهيجل. لكن ماذا عن ما بعد الحداثة؟ هنا ننتقل إلى الفصل الأكثر إثارة وتعقيداً.
3- الفصل الثالث –القرآن- الله المفارق للتاريخ أو انسحاب الله من التاريخ :
لقد كان الزمن في العهدين القديم والجديد زمناً خطّياً يمتدّ بانسياب أفقيّ من "في البدء" إلى غاية "آمين"، ومن اليوم الأوّل إلى اليوم الأخير، ومن سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، ومن الخلق إلى القيامة. وظلّت كلّ القصص والحكايات تنتظم على مسار زمن خطّي وانسيابيّ، ما يجعل الأسفار والمزامير والأناجيل أقرب إلى حكاية عظمى تؤثّث الخيال ويمكن لكلّ واحد أن يستعيد تفاصيلها ويعيد روايتها. ذلك هو أيضا زمن الوعي وزمن الحداثة.
في القرآن سيتلاشى الزمن الخطّيّ ويتحوّل إلى مجرّد انكسارات وتقطّعات وشقوق وفراغات وحكايات منثورة بين آيات حمّالة بدورها لأوجه وأنزلت على سبعة أحرف.
زمن القرآن إذن يكاد يكون أقرب إلى زمن الحلم واللاوعي منه إلى زمن الواقع، وهو لذلك لا يحتمل حضور أيّة شخصية مركزية أو ذات متفرّدة، بما في ذلك الإله نفسه. هذا الأخير لا يحضر إلا بضمير الغائب (هو الذي...)، وبسرعة يتوارى كلامه خلف الكلام عنه (قل هو الله...، قل أعوذ بربّ...). إنّه بالدلالة الأقرب إلى التعبير عنه : تعالى عن كلّ شيء. فقد تعالى عن الكلمات والأشياء وعن الوجود والزمان.
وبعد ذلك نجد أنّ الله في الإسلام لا يحضر إلاّ من حيث هو نفي، فأوّل ركن من أركان الإسلام يبدأ بأداة النفي "لا إله "، ثم لا يحضر إلا من حيث هو استثناء "إلا الله ". إنه ليس إثباتا لشيء محدّد بقدر ما هو مجرّد استثناء للنفي. لذلك لا يوصف الله إجمالا إلاّ من حيث هو نفي لكلّ صفة إجمالية (ليس كمثله شيء).
وحتى المعجزات والعلامات المتتالية والتي تدلّ على أثر وجود الله، كما يكشف عن ذلك التاريخ الرّسمي للكنيسة الغربية، لا مثيل لها في تاريخ الإسلام، وهذا منذ حقبة النبي، الذي كان يقول عن نفسه بأنه مجرّد ابن لامرأة كانت تأكل القديد، إلى غاية مؤسّسة الأزهر ومفتي الديار السورية ونحوهما. ذلك الفراغ في العلامات الإلهية هو الذي حاول الكثير من المتصوّفة ملأه من خلال ما اصطلحوا عليه بالكرامات. ومع ذلك فقد ظلّ الثابت أنّ تعالي الله قد جعله إلها من دون أيّ أثر له في التاريخ.
في لحظة القرآن، والذي قد نعتبره نوعاً من العهد الثالث، انسحب الله من التاريخ وتعالى عن الحوادث والأحداث. لكن هل ما يزال للتاريخ من معنى في غياب كلّ الضمانات الإلهية؟.
ثمّة سؤال وحيد طرحه نيتشه وحاول الاشتغال عليه طوال حياته : أيّ هدف للتاريخ عقب موت الله وأفول مبدأ الخلاص؟
سؤال ندرك بأنّه غير مبرّر من وجهة نظر التاريخ الإسلامي، والذي بات في غياب غاية تاريخية يرعاها الله من عليائه، مجرّد دوائر وتعاقب ودول (تلك الأيام نداولها بين الناس).
من خلال النص القرآنيّ انسحب الله من التاريخ، وفي غيابه لم نقدر على إنتاج تصوّر لمفهوم التقدّم التاريخيّ. وتلك "نقيصتنا" حين كان التاريخ يحتاج لضمانات إلهية وغايات خلاصية. تلك "النقيصة" حاول الشيعة تداركها من خلال النزعة الخلاصية المهدوية. وربّما هذه المحاولة لم تجد نفعاً كبيراً طالما لم تجد من يسند ظهرها بتأويل قرآنيّ يحظى باتفاق المسلمين أجمعين أو على الأقلّ بثقة أغلبهم.
غير أنّ إعادة بناء مفهوم التقدّم على أساس غير خلاصيّ، أو لنقل ما بعد حداثيّ، يجعلنا في المقابل أمام فرصة لمعاودة الانطلاق على أساس أنّ انسحاب الله من التاريخ وأفول أسطورة الخلاص يمكّناننا من إعادة بعض الأمور إلى بعض نصابها.
ومن بين ذلك أنّ مبدأ التقدّم يظلّ، قبل كلّ شيء، غريزة إنسانية، تدفع كلّ واحد منا إلى أن يتوق لأن يعيش أبناؤه أفضل من عيشته.
لنصغ إلى هذه الغريزة البشرية.
ومن هنا يكون البدء ممكنا ومتاحاً.. قبل أن يُسدل الستار الأخير.
الثلاثاء أبريل 18, 2017 10:01 pm من طرف محمد