[size=40]صورة الطبيعة عند غوته[/size]*
فيرنر هايزنبرغ
إن صورة الطبيعة عند غوته وعالم التقنية والعلوم الطبيعية موضوع قديم مثله كمثل مساعي غوته وجهوده الرامية إلى فهم الطبيعة؛ كما أنه موضوع قديم قدم بحوثه العلمية؛ إذ إن غوته نفسه عاصر بدايات عالم التقنية والعلوم الطبيعية الذي نعيش فيه الآن.
ولقد قيل الكثير في هذا الموضوع بدءاً من غوته ومعاصريه إلى علماء طبيعيين وفلاسفة جاؤوا بعده. ونحن نعرف منذ زمن طويل أنه كان لهذه المسألة دورها المهم في حياة غوته. كما نعرف أيضاً كل ما أصبح في عالمنا الحديث موضع الشك والتساؤل. وكثيراً ما أشير إلى رد الفعل الذي أبداه غوته بحدة وانفعال حيال الهوة الفاصلة بين علم الألوان الخاص به وعلم الضوء لدى نيوتن، مع أنه تم الاعتراف بهذا العلم بعامة. كما أننا نعرف أيضاً كم كان جداله ضد نيوتن عنيفاً وذاتياً بين الحين والحين.
ولوحظ أيضاً أن نقده للرومانسية وموقفه الرفضي من الفن الرومانسي ينمان على نوع من الصلة الروحية بجداله ضد علم الطبيعة السائد.
ولقد قيل وكتب الكثير في هذا الموضوع، كما سلطت الأضواء من شتى الجوانب على المشكلة الكامنة وراء هذا كله بحيث لم تعد هناك أية إمكانية أخرى إلا تتبُّع الأفكار التي طُرِحت مراراً وتكراراً وتفحَّصها انطلاقاً مما توصل إليه عالم التقنية والعلوم الطبيعية الحديث من معرفة وعلم، وعلى الأخص إعادة النظر في أحدث التطورات على صعيد العلوم الطبيعية. وهذا ما ينبغي التطرق إليه فيما بعد.
وإننا، في أثناء ذلك، لن نميل إلى الرأي المتشائم كما فعل كارل ياسبرز[1] وهو أن غوته لم يعد لديه أي شيء يقوله لنا، لا لشيء إلا لأنه أعرض عن عالم التقنية الصاعد ولأنه لم يدرك المهمة بأن يجد في هذا العالم الجديد الطريق إلى الإنسان. على أننا نريد أن نسلِّم بمطالب غوته ونعدَّها سارية المفعول، كما أننا نريد أن نواجه بها عالمنا الحديث، إذ إننا لا نعتقد أن ثمة ما يدعو إلى التشاؤم.
وفي المئة والخمسين سنة التي خلت، ومنذ أن فكر غوته بالظاهرة الأصلية لنشوء الألوان وكتب فيها القصائد، تطور العالم تطوراً يختلف أَّيما اختلاف عما كان غوته يتوقعه.
على أن الشيطان الذي كان فاوست قد أبرم معه العقد الخطير لم يجرّ هذا العالم إلى الهاوية جراً نهائياً. وهذا ما ينبغي أن نواجه به نقاد عصرنا الأشداء، في حين ينبغي علينا أن ننظر مرة أخرى إلى الجدل القديم بمنظارنا العصري.
كان غوته يرى أن كل النظرات إلى الطبيعة وكل فهم وإدراك لها يبدأ بالانطباع الحسي المباشر، أي بالحادثة الطبيعية الحرة المكشوفة مباشرة أمام الحواس، وليس بالظاهرة الفردية التي غربلتها وصفَّتها أجهزة واستُخلِصت من الطبيعة قسراً بحسب الظروف. ولنقبس أي موضع نختاره من فصل "ألوان فيزيولوجية" من كتاب غوته في علم الألوان.
فالهبوط من جبل البروكين (الهارتس) المكلل بالثلج في مساء شتائي دفع بغوته إلى أن يدلي بالملاحظة التالية: "ولما كانت ثمة ظلال بنفسجية خفيفة واضحة مرئية في النهار عند صبغة الثلج الضاربة إلى الصفرة كان لابد من أن يؤكد المرء بأنها ذات لون شديد الزرقة وذلك حين انعكست من الأجزاء المضيئة صفرة متزايدة. ولكن حين أذنت الشمس بالغروب ونفذت بأشعتها المعتدلة من خلال الضباب الكثيف وغمرت الكون المحيط بي بأجمل الألوان الأرجوانية، عندها استحال اللون الظليل إلى أخضر كان بالإمكان مقارنته في صفائه بخضرة البحار وفي جماله بخضرة الزمرد. ثم صارت الظاهرة أكثر حيوية. وحسب المرء نفسه أنه في عالم الجنِّيات، إذ إن كل شيء قد ازدان بلونين متوهجين متناغمين تناغماً جميلاً إلى أن اختفت أخيراً ظاهرة البهاء مع غروب الشمس في الغسق، ثم في ليل القمر والنجوم."
على أن غوته لم يقف عند حد الرصد المباشر. ولقد عرف حق المعرفة أن الانطباع المباشر يمكن أن يستحيل إلى معرفة أيضاً وذلك عن طريق علاقة تقوم في بادىء الأمر على الافتراض ثم لا تلبث أن تستحيل بالنجاح إلى يقين.
ولسوف أقبس على سبيل المثال شاهداً من مقدمة علم الألوان مفاده "إن مجرد النظر إلى شيء ما لا يمكن أن يسدي إلينا أي عون أو خدمة. فكل رؤية تصير إلى تأمل، وكل تأمل يتحول إلى تفكير، وهذا بدوره إلى ربط؛ وعلى هذا كان بوسعنا القول إننا نضع نظرية لدى كل نظرة فاحصة في الكون. ولكي نقوم بذلك ونعتزم فعله عن وعي ومعرفة للذات وبحرية وتهكُّم، إذا ما جاز لنا استخدام هذه الكلمة الجريئة، لابد إذن من مثل هذه المهارة حين يصير التجريد الذي نخشاه غير ذي ضرر وتصير نتيجة التجربة التي نتوخاها حية ونافعة."
وبعبارة "التجريد الذي نخشاه" يستبين لنا تماماً أين ينبغي أن تفترق طريق غوته عن طريق علم الطبيعة السائد. ويعرف غوته أن كل معرفة تحتاج إلى الصور والربط والبنى المعبِّرة. ومن دون ذلك فإن المعرفة محال. على أن الطريق إلى هذه البنى سيؤدي لامحالة إلى التجريد. وكان غوته قد عرف هذا وهو منكب على بحوثه في مورفولوجيا النبات. ففي الأشكال المتنوِّعة للنباتات التي شاهدها غوته وأنعم النظر فيها، لاسيما أثناء رحلته إلى إيطاليا، ظن أن دراسة دقيقة شاملة قد تهديه، بمزيد من الوضوح، إلى معرفة قانون أساسي موحَّد. وتكلَّم على "الشكل الأساسي الذي تمارس الطبيعة لعبتها معه أبداً وعلى نحو كما تبدع، وهي تلهو، شتى ضروب الحياة". وعلى هذا توصل غوته إلى تصوُّر ظاهرة أساسية، أي أنه اهتدى إلى البنية الأصلية. ويقول غوته: "إنه بهذا النموذج وبهذا المفتاح أيضاً يستطيع المرء أن يوجد نباتات لا حصر لها، وحتى ولو لم يكن لها وجود يمكن أن يكون لها عندئذ وجودها وحقيقتها وضرورتها."
وهنا، وبهذا يقف غوته عند حدود التجريد الذي كان يخشاه. فهو نفسه لم يفلح في تجاوز هذه الحدود. وكان قد حذَّر أيضاً وأشار على الفيزيائيين والفلاسفة بأن يلتزموا هذا الحد أيضاً. "فلو تم اكتشاف مثل هذه الظاهرة الأساسية لظل الشر قائماً في أن المرء يأبى الاعتراف بالظاهرة كظاهرة، وأننا نجد في البحث عن شيء آخر يكمن وراء هذه الظاهرة أو فوقها على حين نجدنا مضطرين إلى أن نعترف بأن للنظر حدوده. وما على العالم الطبيعي إلا أن يترك الظاهرات الأساسية وشأنها في عظمتها الخالدة وسكونها الأزلي."
وعلى هذا فليس بضروري تجاوز الحدود المؤدِّية إلى التجريد. ومتى تم بلوغ حدود الرؤية لابد أن تكون عندها نهاية الطريق حين يستبدل المرء الرؤية بالتفكير التجريدي. وكان غوته على يقين بأن التحرُّر من عالم المحسوسات الواقعي والدخول إلى عالم التجريد اللامتناهي لابد أن يقود إلى الشر أكثر منه إلى الخير.
على أن علم الطبيعة كان قد سلك منذ عهد نيوتن سبلاً أخرى. فعلم الطبيعة هذا لم يخش التجريد منذ البداية. فالنجاح الذي أحرزه علم الطبيعة، سواء في إيضاحه نظام الكواكب السيارة أو بالاستعمال التطبيقي للميكانيكا أو بتصميم أجهزة وآلات بصرية أو نجاحه في أمور أخرى عديدة، هذا كله أثبت صحة هذا العلم وشرعيته؛ وسرعان ما أدى هذا النجاح كله إلى أن تحذيرات غوته لم تلق آذاناً مصغية.
على أن علم الطبيعة هذا تطور تطوراً هادفاً منطقياً بدءاً من مؤلف نيوتن الضخم المبادىء الرياضية للعلوم الطبيعية والفلسفة إلى يومنا هذا، في حين غيرت نتائج علم الطبيعة على صعيد العلوم التقنية صورة الأرض تغييراً جذرياً شاملاً.
هل استهان غوته بالخصم؟
يكتمل التجريد في علم الطبيعة الشائع في موضعين مختلفين بعض الشيء. على أن الواجب يقضي أن ندرك الشيء البسيط في شتى أنواع الظواهر.
وعلى هذا كان ضرورياً بأن يسعى الفيزيائيون إلى الكشف عن حوادث بسيطة في نسيج الظواهر المعقد المحيِّر. ولكن ما هو البسيط؟ ويأتينا الجواب، بدءاً من عهد غاليليه إلى عهد نيوتن، بأن البسيط هو الحدث الذي يمكن تصوير مجراه المنتظم بكل تفاصيله تصويراً كمياً ورياضياً من غير ما مشقة أو صعوبة. فالحدث البسيط. إذن، ليس ذلك الحدث الذي تقدمه لنا الطبيعة المباشرة؛ بل ينبغي على الفيزيائي أن يفصل بادىء ذي بدء خليط الظواهر المتنوع بواسطة أجهزة جدّ معقدة، كما ينبغي عليه أيضاً أن يخلِّص الشيء المهم من كل الملحقات الفرعية لكي يظهر الحدث "البسيط" وحده بجلاء فيستطيع تجريدها. وليس هذا إلا ضرباً من ضروب التجريد. ويرى غوته بهذا الصدد أن الطبيعة نفسها أبعِدَت بذلك وانتفت فيقول: "حسبنا أن نواجه الزعم الجزئي القائل بأن هذا لايزال يشكل طبيعة، وذلك بابتسامة هادئة على الأقل أو بهزة رأس خفيفة. ثم ألا يخطر في بال المهندس المعماري بأن يدّعي أن قصوره مآوٍ أو نُزُلٌ جبلية وغابات."
وتكمن الصورة الأخرى للتجريد في استخدام الرياضيات لتصوير الظواهر ورسمها هندسياً. ولقد اتضح في ميكانيكا نيوتن للمرة الأولى – مما كان السبب في نجاحه العظيم – أنه بالإمكان الجمع بين ميادين تجريبية واسعة جمعاً متشاكلاً بالوصف الرياضي. وبهذا يكون بالإمكان فهمها أيضاً ببساطة. وما قوانين غاليليه في سقوط الأجسام ودوران القمر حول الأرض وحركة الأجرام السماوية حول الشمس وذبذبات نابض ومسار حجر مقذوف إلا ظواهر يمكن اشتقاقها من المعادلة التي تنص على أن الكتلة × السرعة = الطاقة. يضاف إلى هذا أيضاً قانون الجاذبية الأرضية. فالمعادلة الرياضية المتشكلة كانت، إذن، المفتاح المجرد للفهم التام لميادين طبيعية في غاية من الاتساع. ولقد ناهض غوته من غير طائل الركون إلى الطاقة المنتشرة لهذا المفتاح. ولقد كتب غوته في إحدى رسائله إلى تسيلتر[2] قائلاً: "إن الشر الأعظم للفيزياء الحديثة هو أن المرء عزل التجارب عن الإنسان على نحو ما، ويريد أن يدرك الطبيعة في الشيء الذي تكشف عنه أجهزة اصطناعية، ليس غير؛ لا بل إنه يريد بذلك أن يحدَّ مما يمكن للطبيعة أن تقوم به مقدماً الدليل على ذلك […]
وتلك هي الحال أيضاً مع الحساب، والحق أن هناك الكثير مما لا يمكن حسابه، كما أن هناك الكثير الذي يتأبى على التجربة المحددة الواضحة."
ألم يدرك غوته حقاً القوة المنظمة أو ما أنجزه منهج العلوم الطبيعية من معرفة على صعيد التجربة والرياضيات؟ وهل استهان بالخصم الذي قاومه بلا كلل في علم الألوان ومواضع أخرى؟ أم أنه لم يرغب في معرفة هذه القوة لأن القيم كانت في نظره مهددة ولم يكن على استعداد للتضحية بها؟ ولسوف يجد المرء نفسه مضطراً إلى أن يجيب بأن غوته رفض أن يسلك هذا الطريق المجرد المؤدي إلى الفهم الكامل لأن هذا الطريق كان في نظر غوته محفوفاً بالمخاطر.
أما المخاطر التي كان غوته يخشاها فلم يحددها في أيَّما موضع تحديداً تاماً. على أن فاوست – أعظم الشخصيات في أدب غوته وأشهرها – يجعلنا نحس ما هي المسألة. وفاوست، عدا عن أشياء أخرى كثيرة، فيزيائي خاب فأله. ونجده في حجرة المكتب، وقد أحاطت به أجهزة وآلات، يخاطبها قائلاً: "أيتها الآلات! الحق أنك لتهزأين مني بالعجلات والأمشاط، بالأسطوانة والذراع. ولقد وقفت بالباب. وكان عليك أن تكوني المفتاح. ولئن كان اللسان لولبياً، إلا أنك لن ترفعي المزلاج."[3]
ولعل العلامات الغامضة التي يبحث عنها في كتاب نوستراداموس[4] مماثلة للرموز الرياضية. ثم إن عالم الرموز والآلات وذلك التعطش الشديد إلى معرفة تزداد عمقاً وتجريداً يدفعان باليائس القانط إلى أن يبرم عقداً مع الشيطان. إذ إن الطريق الذي يقود من وسط الحياة الطبيعية إلى المعرفة المجردة قد ينتهي عند الشيطان. وكان هذا هو الخطر الذي طبع موقف غوته من عالم العلوم الطبيعية والتقنية. ولقد أحس غوته بالقوى الشيطانية التي صار لها مفعولها في هذا التطور. وكان على يقين من أن الواجب يقضي عليه بأن يتفاداها. على أنه قد يأتي الرد بأنه ليس من السهولة بمكان تجنب الشيطان وتحاشيه.
وكان غوته نفسه مضطراً منذ البداية، وفي وقت سابق، إلى أن يلجأ إلى حلول وسطية. وكان أهم هذه الحلول هو التسليم بمذهب كوبرنيكوس في الحياة. حتى إنه لم يستطع أن يصمد أمام قوة الإقناع التي اتسم بها هذا المذهب. وهنا عرف غوته أيضاً أن هذا الموقف لابد أن يكلف تضحيات كثيرة. وأعود لأقبس من كتاب علم الألوان حيث يقول: "الحق أنه لا مثيل لمذهب كوبرنيكوس بين جميع الاكتشافات والمعتقدات في تأثيره البالغ في العقل الإنساني."
وما إن تم الاعتراف بأن العالم دائروي وتام في ذاته حتى كان عليه أن يتنازل عن الحق المكتسب الهائل بأنه محور الكون. وربما لم يحدث إلى الآن أن طُلِب من الإنسانية مطلب أعظم. إذن فأي شيء لم يذهب هباء؟ هذا الاعتراف: عالم الفردوس الآخر وعالم البراءة والفن والتقوى وشهادة الحواس والاقتناع بإيمان ديني شعري.
ولاعجب في أن المرء لم يرغب في التخلي عن هذا كله وعارض في الأحوال كلها مثل هذا المذهب الذي يحرم معتنقَه الحقَّ في حرية فكرية لم تكن متوقعة من قبلُ ولم تخطر ببال أحد أو لم يمكِّنه من خلق "عظيم ولم يستحثه إلى أي منهما". ونجدنا مضطرين إلى أن نجابه بهذا الشاهد أولئك الذين يحاولون في عصرنا الحاضر أن يشكِّكوا بصحة علم الطبيعة الحديث والتزاماته وذلك لكي يكونوا بمنجاة من الأخطار التي كان غوته يخشاها. وعلى هذا لابد من الإلماع إلى أن علم الطبيعة هذا قد يغير أيضاً من آرائه على مدى الأيام أو قد يعدِّلها وأنه، على سبيل المثال، لم يعد معترفاً بصحة ميكانيكا نيوتن وأن النظرية النسبية ونظرية الكم قد حلَّتا محله وأن هناك مسوغاً للشك في ادعاءات علم الطبيعة هذا.
السبت أبريل 15, 2017 9:06 pm من طرف فؤاد